موسوعة التفسير

سورةُ الذَّارِياتِ
الآيات (15-19)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

يَهْجَعُونَ: أي: يَنامونَ، والهُجوعُ: النَّومُ باللَّيلِ دونَ النَّهارِ، وأصلُ (هجع): يدُلُّ على نَومٍ [88] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 421)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 525)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/36)، ((المفردات)) للراغب (ص: 834)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 369)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 391)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 988). .
وَبِالْأَسْحَارِ: جَمعُ سَحَرٍ، وهو آخِرُ اللَّيلِ، وأصلُ (سحر) هنا: يدُلُّ على وَقتٍ مِنَ الأوقاتِ [89] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/138)، ((تفسير ابن عطية)) (1/411)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/200). قال السمينُ الحلبي: (واختلَف أهلُ اللُّغةِ في السَّحَرِ: أيُّ وقتٍ هو؟ فقال جماعةٌ منهم الزَّجَّاجُ: إنَّه الوقتُ قبْلَ طُلوعِ الفَجرِ... قال الرَّاغبُ: السَّحَرُ: اختِلاطُ ظلامِ آخِرِ اللَّيلِ بضياءِ النَّهارِ، وجُعِل اسمًا لذلك الوقتِ... وقال بعضُهم: السَّحَرُ مِن ثُلُثِ اللَّيلِ الأخيرِ إلى طُلوعِ الفَجرِ. وقال بعضُهم أيضًا: السَّحَرُ عندَ العرَبِ مِن آخِرِ اللَّيلِ، ثمَّ يَستَمِرُّ حُكمُه إلى الإسفارِ، كلُّه يُقالُ له: سَحَرٌ. قيل: وسُمِّيَ السَّحَرُ سَحَرًا؛ لِخَفائِه، ومنه قيل لِلسِّحْرِ: سِحْرٌ؛ لِلُطْفِه وخَفَائه). ((الدر المصون)) (3/70). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1/385)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 401). ونقَل ابنُ عطيَّةَ قولَ مَن قال عن السَّحَرِ: هو قبْلَ طُلوعِ الفَجرِ، ثمَّ علَّق عليه فقال: (وهذا صحيحٌ؛ لأنَّ ما بعدَ الفَجرِ هو مِن اليَومِ لا مِن اللَّيلةِ). ((تفسير ابن عطية)) (1/411). .
وَالْمَحْرُومِ: أي: الفِقيرِ المتعَفِّفِ الَّذي لا يَسألُ، وأصلُ (حرم): يدُلُّ على مَنعٍ وتَشديدٍ [90] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 421)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 269)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/45)، ((المفردات)) للراغب (ص: 230)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 370)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 391)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 884). .

مشكل الإعراب :

قَولُه تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ فيه أوجُهٌ:
أحَدُها: أن تجعَلَ مَا في مَا يَهْجَعُونَ مَزيدةً للتَّأكيدِ، ويَهْجَعُونَ خَبَرَ كان. والتَّقديرُ: كانوا يَهجَعونَ مِن اللَّيلِ هُجوعًا أو زَمَنًا قليلًا؛ فـ قَلِيلًا نَعتٌ لِمَصدَرٍ مَحذوفٍ، أو لظَرفٍ محذوفٍ.
الثَّاني: أن تجعَلَ مَا مصدريَّةً، وهي مع مَدخولِها في محَلِّ رَفعٍ فاعِلٌ بـ قَلِيلًا، ويُنصَبُ قَلِيلًا على أنَّه خبَرُ «كان»، والتَّقديرُ: كانوا قَليلًا هُجوعُهم.
الثَّالِثُ: أن تجعَلَ مَا مصدريَّةً، وهي مع مَدخُولِها في محَلِّ رَفعٍ بدَلٌ مِن اسمِ كان «واوِ الجَماعةِ» بدَلَ اشتِمالٍ، أي: كان هُجوعُهم قليلًا. وقيلَ غَيرُ ذلك [91] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/84)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/53)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/160)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/686)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/45)، ((تفسير الألوسي)) (14/9). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا حُسنَ عاقبةِ المتَّقينَ، بعدَ بيانِه سوءَ مصيرِ المكذِّبينَ: إنَّ المتَّقينَ ربَّهم بامتِثالِ أوامِرِه واجتِنابِ نواهيه: في بَساتينَ عَظيمةٍ وعُيونٍ جاريةٍ، آخِذينَ في الجنَّاتِ ما أعطاهم اللهُ تعالى مِنَ النِّعَمِ والخَيراتِ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى أعمالَهم الَّتي أوصَلَتْهم إلى ذلك النَّعيمِ، فيقولُ: إنَّهم كانوا في الدُّنيا مُحسِنينَ؛كانوا يَنامونَ قليلًا مِنَ اللَّيلِ، ويَقومونَ بيْنَ يدَيْ رَبِّهم يَطلُبونَ منه المَغفِرةَ لِذُنوبِهم، وفي أموالِهم حقٌّ ثابِتٌ للسَّائِلِ، وللمَحرومِ مِن المالِ الَّذي لا يَسألُهم منه شَيئًا.

تفسير الآيات:

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ الله سبحانَه حالَ الكُفَّارِ؛ ذكَرَ حالَ المُؤمِنينَ [92] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/551). .
وأيضًا فالله سُبحانَه ذكَرَ جزاءَ مَن خَلَص مِن تلك الفِتَنِ بالتَّقوى، وهو الجنَّاتُ والعُيونُ، فقال [93] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 291). :
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15).
أي: إنَّ الَّذين اتَّقَوا سَخَطَ اللهِ تعالى وعَذابَه بامتِثالِ أوامِرِه واجتِنابِ نواهيه: لَمُستقِرُّونَ في الدَّارِ الآخِرةِ في بَساتينَ عَظيمةٍ، وعُيونٍ جاريةٍ [94] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/500)، ((تفسير القرطبي)) (17/35)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 808، 809)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 123، 124). .
كما قال تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدخَان: 51، 52].
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ أمَّ الرُّبَيِّعِ بِنتَ البَراءِ -وهي أمُّ حارِثةَ ابنِ سُراقةَ- أتت النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالت: يا نبيَّ اللهِ، ألَا تُحَدِّثُني عن حارِثةَ؟ -وكان قُتِلَ يومَ بَدرٍ، أصابه سَهمٌ غَرْبٌ [95] سهمٌ غَرْبٌ: أي: لا يُدرى مَن رماه. يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 605). - فإنْ كان في الجنَّةِ صَبرْتُ، وإن كان غيرَ ذلك اجتهَدْتُ عليه في البُكاءِ، قال: يا أُمَّ حارِثةَ، إنَّها جِنانٌ في الجنَّةِ، وإنَّ ابنَك أصابَ الفِردَوسَ الأعلى! )) [96] أخرجه البخاري (2809). .
آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16).
آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ.
أي: آخِذينَ في الجنَّاتِ ما أعطاهم اللهُ تعالى مِنَ النِّعَمِ والخَيراتِ [97] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/175)، ((تفسير ابن عطية)) (5/174)، ((تفسير القرطبي)) (17/35)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 809)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/347)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 124). قال السمعاني: (ومعنى الأخْذِ هو دُخولُهم الجنَّةَ، ووُصولُهم إلى ما وُعِدوا مِن الثَّوابِ). ((تفسير السمعاني)) (5/253). وقال ابن عطيَّة: (آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ أي: محصِّلينَ لِنِعَمِ الله الَّتي أعطاهم مِن جَنَّتِه ورِضوانِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/174). وقال الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي، والألوسي، وابنُ عاشور: آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ: قابِلينَ لِكُلِّ ما أعطاهم، راضينَ به. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/398)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 147)، ((تفسير النسفي)) (3/373)، ((تفسير الألوسي)) (14/8)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/347). قال الزمخشري: (يعني أنَّه ليس فيما آتاهم إلَّا ما هو مُتلَقًّى بالقَبولِ، مَرضيٌّ غيرُ مَسخوطٍ؛ لأنَّ جميعَه حسَنٌ طَيِّبٌ. ومنه قولُه تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [التوبة: 104]، أي: يَقْبَلُها ويَرضاها). ((تفسير الزمخشري)) (4/398). وذهَب ابنُ جريرٍ إلى أنَّ المعنى: عامِلينَ في الدُّنيا بما أمَرَهم به اللهُ مِنَ الفرائِضِ. وتابَعه مكِّيٌّ، ورُويَ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ بإسنادٍ ضَعَّفه ابنُ كثيرٍ، وقال: (والَّذي فسَّر به ابنُ جريرٍ فيه نظَرٌ؛ لأنَّ قَولَه: آَخِذِينَ حالٌ مِن قَولِه: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/500، 501)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7078)، ((تفسير ابن كثير)) (7/416). قال السعدي: (آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ يحتملُ أنَّ المعنى: أنَّ أهلَ الجنَّةِ قد أعطاهم مَولاهم جميعَ مُناهُم، مِن جميعِ أصنافِ النَّعيمِ، فأخَذوا ذلك راضينَ به، قد قرَّتْ به أعيُنُهم، وفرِحَتْ به نُفوسُهم، ولم يَطلُبوا منه بدَلًا، ولا يَبْغونَ عنه حِوَلًا، وكلٌّ قد ناله مِن النَّعيمِ، ما لا يَطلُبُ عليه المَزيدَ. ويحتملُ أنَّ هذا وصْفُ المتَّقينَ في الدُّنيا، وأنَّهم آخِذون ما آتاهم اللهُ مِن الأوامِرِ والنَّواهي، أي: قد تلَقَّوْها بالرُّحبِ، وانشِراحِ الصَّدرِ، مُنقادينَ لِما أمَر اللهُ به، بالامتِثالِ على أكمَلِ الوُجوهِ، ولِما نهى عنه، بالانزِجارِ عنه لله، على أكمَلِ وجْهٍ؛ فإنَّ الَّذي أعطاهم الله مِن الأوامِرِ والنَّواهي هو أفضَلُ العَطايا، الَّتي حقُّها أن تُتلَقَّى بالشُّكرِ [لله] عليها، والانقيادِ. والمعنى الأوَّلُ ألْصَقُ بسياقِ الكلامِ؛ لأنَّه ذكَر وصْفَهم في الدُّنيا، وأعمالَهم بقولِه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ الوقتِ الَّذي وصَلوا به إلى النَّعيمِ مُحْسِنِينَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 809). .
كما قال تعالى: فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ [الطور: 18].
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيَقولونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيك [98] لَبَّيك: أي: أدومُ على طاعتِك دَوامًا بعدَ دوامٍ، وأُقيمُ على طاعتِك إقامةً بعدَ إقامةٍ، من: أَلَبَّ بالمكانِ: إذا أقام به. وسَعْدَيْك: أي: ساعَدْتُ طاعتَك يا ربِّ مُساعدةً بعدَ مساعدةٍ، وهي الموافَقةُ والمسارعةُ، أو أسعَدُ بإقامتي على طاعتِك وإجابتي لدعوتِك سعادةً بعدَ سعادةٍ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (2/673). ، والخَيرُ في يدَيك، فيقولُ: هل رَضِيتُم؟ فيَقولونَ: وما لَنا لا نَرضَى يا رَبِّ، وقد أعطَيْتَنا ما لم تُعْطِ أحَدًا مِن خَلْقِك؟! فيَقولُ: ألَا أُعطيكم أفضَلَ مِن ذلك؟! فيقولونَ: يا رَبِّ، وأيُّ شَيءٍ أفضَلُ مِن ذلك؟! فيَقولُ: أُحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بَعْدَه أبَدًا )) [99] أخرجه البخاري (7518)، ومسلم (2829). .
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر جَزاءَهم؛ ذَكَر السَّبَبَ الَّذي أوصَلَهم إلى ذلك [100] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 291). ، فقال:
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ.
أي: إنَّ المُتَّقينَ كانوا في الدُّنيا مُحسِنينَ في عبادةِ اللهِ، مُحسِنينَ إلى عبادِ اللهِ [101] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/175)، ((تفسير ابن عطية)) (5/174)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 809)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 124). ذكَر ابنُ القيِّمِ أنَّ إحسانَهم يتضمَّنُ عبادتَه وحْدَه لا شريكَ له، والقيامَ بحقوقِه، وحُقوقِ عبادِه. يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 291). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 809). وقال ابن جرير: (قولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ يقولُ: إنَّهم كانوا قبْلَ أن يَفرِضَ عليهم الفرائضَ مُحْسِنِينَ، يقولُ: كانوا لله قبْلَ ذلك مُطيعينَ). ((تفسير ابن جرير)) (21/501). .
كما قال تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24] .
وفي حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه في قِصَّةِ سُؤالِ جِبريلَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: أخبِرْني عن الإحسانِ، قال: ((أن تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تَراه، فإنْ لم تكُنْ تَراه فإنَّه يَراك )) [102] أخرجه مسلم (8). .
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر إحسانَهم؛ فسَّره مُعَبِّرًا عنه بما هو في غايةِ المُبالَغةِ، فقال تعالى [103] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/96). :
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17).
أي: كانوا يَنامونَ قليلًا مِنَ اللَّيلِ، فهم يُكابِدونَ السَّهَرَ في اللَّيلِ؛ لعِبادةِ رَبِّهم [104] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/504، 508، 509)، ((فضل قيام الليل)) للآجُرِّي (ص: 74)، ((الوسيط)) للواحدي (4/175)، ((تفسير ابن عطية)) (5/174، 175)، ((تفسير القرطبي)) (17/35)، ((تفسير السعدي)) (ص: 809)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/349)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 125). قال ابن تيميَّةَ: (هذا على أصَحِّ الأقوالِ معناه: كانوا يَهجَعونَ قليلًا، فـ قَلِيلًا مَنصوبٌ بـ يَهْجَعُونَ و مَا مُؤَكِّدةٌ. وهذا مِثلُ قَولِه: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 88] . وقَولُه: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ هو مُفَسَّرٌ في سُورةِ المُزَّمِّلِ بقَولِه: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 2 - 4] ؛ فهذا المُستثنى مِنَ الأمرِ هو القليلُ المذكورُ في تلك السُّورةِ). ((مجموع الفتاوى)) (23/85). ويُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 291 - 293). وقال الشوكاني: (المعنى: كانوا قليلًا ما يَنامونَ مِنَ اللَّيلِ، ومَا زائِدةٌ، ويجوزُ أن تكونَ مَصدريَّةً أو مَوصولةً، أي: كانوا قليلًا مِنَ اللَّيلِ هُجوعُهم، أو ما يَهجَعونَ فيه... وقيل: مَا نافيةٌ، أي: ما كانوا يَنامون قليلًا مِنَ اللَّيلِ، فكيف بالكثيرِ منه؟! وهذا ضعيفٌ جِدًّا. وهذا قَولُ مَن قال: إنَّ المعنى: كان عَدَدُهم قليلًا). ((تفسير الشوكاني)) (5/100، 101). .
كما قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ [الإسراء: 79] .
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 64] .
وقال عزَّ وجلَّ: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة: 16] .
وقال تبارك وتعالى: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر: 9] .
وقال جلَّ شأنُه: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 2 - 4] .
وقال جَلَّ جَلالُه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الإنسان: 26] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أيُّها النَّاسُ، أفْشُوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصَلُّوا والنَّاسُ نِيامٌ؛ تَدخُلوا الجنَّةَ بسَلامٍ )) [105] أخرجه الترمذيُّ (2485)، وابنُ ماجَه (1105) وأحمدُ (23784)، والدَّارِميُّ (1501). صحَّحه الترمذيُّ، والذهبيُّ في ((تاريخ الإسلام)) (2/34)، وجَوَّد إسنادَه النوويُّ في ((الأذكار)) (307)، وحَسَّنه ابنُ الملَقِّنِ في ((البدر المنير)) (9/42)، وحَسَّن الحديثَ ابنُ حَجَر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/277)، وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2485). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ في الجنَّةِ غُرفةً يُرى ظاهِرُها مِن باطِنِها، وباطِنُها مِن ظاهِرِها، فقال أبو موسى الأَشْعَريُّ: لِمَن هي يا رَسولَ اللهِ؟ قال: لِمَن ألانَ الكلامَ، وأطعَمَ الطَّعامَ، وبات للهِ قائِمًا والنَّاسُ نِيامٌ )) [106] أخرجه أحمد (6615) واللَّفظُ له، والطَّبَرانيُّ (14/80) (14687)، والحاكمُ (270). صَحَّحه على شَرطِ الشَّيخَينِ الحاكِمُ، وحَسَّن إسنادَه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (1/289)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/257)، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (8/232). وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (10/111)، وقال الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (617): (حَسَنٌ صحيحٌ). .
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18).
أي: وهم في آخِرِ اللَّيلِ يَطلُبونَ مِنَ اللهِ المَغفِرةَ لِذُنوبِهم، أو لِتَقصيرِهم في عبادةِ رَبِّهم [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/509، 510)، ((تفسير القرطبي)) (17/37)، ((تفسير ابن كثير)) (7/418)، ((تفسير السعدي)) (ص: 809)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/350)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 125). قال الماوَرْدي: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فيه وجْهانِ: أحَدُهما: وبالأسحارِ هم يُصَلُّونَ. قاله الضَّحَّاكُ. الثَّاني: أنَّهم كانوا يُؤخِّرونَ الاستِغفارَ مِن ذُنوبِهم إلى السَّحَرِ لِيَستَغفِروا فيه. قاله الحسَنُ). ((تفسير الماوردي)) (5/366). وقال الواحدي: (قال عَطاءٌ، والكَلْبيُّ، ومُقاتِلٌ، ومجاهِدٌ: يُصَلُّونَ، ففَسَّروا الاستِغفارَ بالصَّلاةِ، على أنَّ صَلاتَهم بالأسحارِ طَلَبٌ منهم مَغفِرةَ اللهِ تعالى. وذهب آخَرونَ إلى ظاهرِ الاستِغفارِ باللِّسانِ، وهو قولُ ابنِ مَسعودٍ، والحسَنِ). ((البسيط)) (20/439). ويُنظر: ((تفسير مجاهد)) (ص: 619)، ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/113) و(4/129)، ((تفسير ابن جرير)) (21/509، 510). .
كما قال تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [آل عمران: 17] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَنزِلُ رَبُّنا تبارك وتعالى كُلَّ لَيلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا حينَ يَبقى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، يَقولُ: مَن يَدْعوني فأستَجيبَ له؟ مَن يَسألُني فأُعطِيَه؟ مَن يَستَغفِرُني فأَغفِرَ له؟ )) [108] أخرجه البخاريُّ (1145) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (758). .
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ مُعامَلتَهم للخالِقِ؛ أتْبَعَه المُعامَلةَ للخلائِقِ؛ تَكميلًا لحقيقةِ الإحسانِ [109] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/456). ، فلمَّا وَصَفهم بالصَّلاةِ؛ ثنَّى بوَصْفِهم بالزَّكاةِ والبِرِّ والصِّلَةِ [110] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/418). ، فقال:
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19).
أي: وفي أموالِ أولئك المتَّقينَ المُحسِنينَ نَصيبٌ ثابِتٌ للمُحتاجِ الَّذي يَسألُهم، وللمَحرومِ مِن المالِ الَّذي لا يَسألُهم منه شَيئًا [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/511، 518)، ((تفسير القرطبي)) (17/38، 39)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 294)، ((تفسير ابن كثير)) (7/418)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/456)، ((تفسير السعدي)) (ص: 809)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/351). قال ابنُ جرير: (الصَّوابُ مِنَ القَولِ في ذلك عندي: أنَّه الَّذي قد حُرِمَ الرِّزقَ فاحتاج؛ وقد يكونُ ذلك بذَهابِ مالِه وثَمَرِه، فصار مِمَّن حرَمَه اللهُ ذلك، وقد يكونُ بسَبَبِ تعَفُّفِه وتَرْكِه المسألةَ، ويكونُ بأنَّه لا سَهمَ له في الغَنيمةِ؛ لِغَيبتِه عن الوَقعةِ؛ فلا قَولَ في ذلك أَولى بالصَّوابِ مِن أنْ يُعَمَّ). ((تفسير ابن جرير)) (21/518). وقال ابنُ عاشور: (المحرومُ: الفَقيرُ الَّذي لا يُعطَى الصَّدَقةَ؛ لظَنِّ النَّاسِ أنَّه غيرُ مُحتاجٍ؛ مِن تعَفُّفِه عن إظهارِ الفَقرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/351). وقال الجصَّاصُ: (فَرَّق اللهُ تعالى في الآيةِ بيْنَ السَّائِلِ والمحرومِ؛ لأنَّ الفَقيرَ قد يَحرِمُ نَفْسَه بتَركِه المسألةَ، وقد يَحرِمُه النَّاسُ بتَركِ إعطائِه، فإذا لم يَسألْ فقد حَرَم نفْسَه بتَركِ المسألةِ؛ فسُمِّيَ مَحرومًا مِن هذا الوَجهِ؛ لأنَّه يَصيرُ مَحرومًا مِن وَجهَينِ: مِن قِبَلِ نفْسِه، ومِن قِبَلِ النَّاسِ). ((أحكام القرآن)) (3/548). وقال ابن عطيَّة: (اختلف النَّاسُ في المحرومِ اختلافًا هو عندي تخليطٌ مِن المتأخِّرينَ؛ إذ المعنى واحدٌ، وإنَّما عبَّر علماءُ السَّلفِ في ذلك بعباراتٍ على جهةِ المثالاتِ، فجعَلها المتأخِّرونَ أقوالًا، وحصَرها مكِّيٌّ ثمانيةً. والمحرومُ هو الَّذي تَبعُدُ عنه مُمكِناتُ الرِّزقِ بعدَ قُربِها منه، فيَنالُه حِرمانٌ وفاقةٌ، وهو معَ ذلك لا يَسألُ؛ فهذا هو الَّذي له حَقٌّ في أموالِ الأغنياءِ كما للسَّائلِ حَقٌّ... والمعنى الجامِعُ لهذه الأقوالِ: أنَّه الَّذي لا مالَ له؛ لِحِرمانٍ أصابه). ((تفسير ابن عطية)) (5/175). وقال ابنُ الفَرَسِ بعدَ أن ذكَرَ الأقوالَ في معنى المحرومِ: (وهذه الأقوالُ كُلُّها ترجِعُ إلى معنًى واحدٍ من العُدْمِ والاحتياجِ، وبعضُ النَّاسِ يَسوقونَها على أنَّها اختِلافٌ، وليس بصَحيحٍ، وإنَّما ساق العُلَماءُ كُلَّ قولٍ مِن ذلك على جهةِ المثالِ للمعنى العامِّ المرادِ بالآيةِ). ((أحكام القرآن)) (3/506). وقال الشوكاني: (والَّذي يَنبغي التَّعويلُ عليه ما يدُلُّ عليه المعنى اللُّغَويُّ، والمحرومُ في اللُّغةِ: الممنوعُ، مِنَ الحِرمانِ، وهو المنعُ، فيَدخُلُ تحتَه مَن حُرِمَ الرِّزقَ مِنَ الأصلِ، ومَن أُصيبَ مالُه بجائحةٍ أذهَبَتْه، ومَن حُرِمَ العطاءَ، ومَن حُرِمَ الصَّدَقةَ لِتَعفُّفِه). ((تفسير الشوكاني)) (5/101). وقال القرطبي: (روى ابنُ وَهبٍ عن مالِكٍ: أنَّه الَّذي يُحرَمُ الرِّزقَ. وهذا قَولٌ حَسَنٌ؛ لأنَّه يَعُمُّ جميعَ الأقوالِ). ((تفسير القرطبي)) (17/39). وقال القاسمي: (ويَدخُلُ في «المحرومِ» كُلُّ مَن لا مالَ له، ومَن هَلَك مالُه بآفةٍ، ومَن حُرِمَ الرِّزقَ واحتاجَ، إلَّا أنَّ أهَمَّ أفرادِه المُتعَفِّفُ؛ ولذا عوَّل عليه الأكثَرُ). ((تفسير القاسمي)) (9/39). وقال الجصَّاصُ: (في المالِ حَقٌّ سِوى الزَّكاةِ باتِّفاقِ المُسلِمينَ؛ منه ما يلزَمُ مِن النَّفَقةِ على والِدَيه إذا كانا فقيرَينِ، وعلى ذَوي أرحامِه، وما يلزَمُ مِن طعامِ المُضطَرِّ، وحَمْلِ المُنقَطِعِ به، وما جرى مَجرى ذلك مِنَ الحُقوقِ اللَّازِمةِ عندَ ما يَعرِضُ مِن هذه الأحوالِ). ((أحكام القرآن)) (3/547). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/88) و (2/489). وقال ابن تيميَّةَ: (وأمَّا الزَّكاةُ فإنَّها تجبُ حقًّا لله في مالِه؛ ولهذا يُقالُ: ليس في المالِ حقٌّ سِوى الزَّكاةِ، أي: ليس فيه حقٌّ يجبُ بسببِ المالِ سِوى الزَّكاةِ، وإلَّا ففيه واجباتٌ بغيرِ سببِ المالِ؛ كما تجبُ النَّفَقاتُ للأقاربِ، والزَّوجةِ، والرَّقيقِ، والبهائمِ، ويجبُ حمْلُ العاقِلةِ، ويجبُ قضاءُ الدُّيونِ، ويجبُ الإعطاءُ في النَّائبةِ، ويجبُ إطعامُ الجائعِ، وكِسْوةُ العاري فرضًا على الكفايةِ، إلى غيرِ ذلك مِن الواجباتِ الماليَّةِ، لكنْ بسبَبٍ عارِضٍ، والمالُ شرطُ وُجوبِها، كالاستِطاعةِ في الحجِّ؛ فإنَّ البدَنَ سببُ الوُجوبِ، والاستِطاعةَ شرطٌ، والمالُ في الزَّكاةِ هو السَّببُ والوُجوبُ معه، حتَّى لو لم يكُنْ في بلَدِه مَن يَستحِقُّها حمَلَها إلى بلدٍ أخرى، وهي حقٌّ وجَب لله تعالى). ((مجموع الفتاوى)) (7/316). وقيل: المرادُ بالحَقِّ هنا: الزَّكاةُ. وممَّن ذهب إلى ذلك: الْكِيَا الهَرَّاسي، وابنُ العربي. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/389)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/166). وقيل: الحَقُّ هنا هو على وَجهِ النَّدبِ، لا على وَجهِ الفَرضِ. وممَّن ذهب إلى ذلك: ابنُ عطيَّة، وابنُ الفَرَس، وابن جُزَي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/175)، ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/506)، ((تفسير ابن جزي)) (2/308)، ((تفسير الشوكاني)) (5/101). وقيل: الحَقُّ هنا يَشملُ الإنفاقَ الواجِبَ والمُستَحَبَّ. وممَّن ذهب إلى هذا: السعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 809)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 126). وقال ابن عاشور: (وحقُّ السَّائلِ والمَحرومِ: هو النَّصيبُ الَّذي يُعطُونه إيَّاهما؛ أُطلِقَ عليه لَفظُ الحقِّ؛ إمَّا لأنَّ اللهَ أوجَبَ على المسلمينَ الصَّدقةَ بما تَيسَّرَ قبْلَ أنْ يُفرَضَ عليهم الزَّكاةُ؛ فإنَّ الزَّكاةَ فُرِضَت بعدَ الهجرةِ، فصارتِ الصَّدقةُ حقًّا للسَّائلِ والمحرومِ، أو لأنَّهم ألْزَموا ذلك أنفُسَهم، حتَّى صار كالحقِّ للسَّائلِ والمَحرومِ، وبذلك يُتأوَّلُ قولُ مَن قال: إنَّ هذا الحقَّ هو الزَّكاةُ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/351). .
كما قال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 24، 25].

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ أنَّ وَصْفَ أهلِ الجنَّةِ في هذه السُّورةِ بالأعمالِ الَّتي قَدَّموها يتضَمَّنُ أمْرَ المُكَلَّفينَ بمِثلِ ما جُعِلَ خَبرًا عنهم أنَّهم فَعَلوه [112] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1206). .
2- قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ أحسَنوا في عبادةِ ربِّهم، بأنْ عبَدوه كأنَّهم يَرَوْنَه، فإنْ لم يَكونوا يَرَوْنَه فإنَّه يَراهم، وأحسَنوا إلى عِبادِ اللهِ ببَذْلِ النَّفعِ، والإحسانِ مِن مالٍ أو عِلمٍ، أو جاهٍ أو نصيحةٍ، أو أمْرٍ بمَعروفٍ أو نَهيٍ عن مُنكَرٍ، أو غيرِ ذلك مِن وُجوهِ الإحسانِ وطُرُقِ الخَيراتِ. وأحسَنوا بالقولِ، والكلامِ اللَّيِّنِ، وأحسَنوا إلى المماليكِ، والبَهائمِ المَملوكةِ، وغيرِ المملوكةِ، ومِن أفضَلِ أنواعِ الإحسانِ في عبادةِ الخالِقِ: صَلاةُ اللَّيلِ الدَّالَّةُ على الإخلاصِ، وتَواطُؤِ القَلبِ واللِّسانِ، ولهذا قال: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [113] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 809). .
3- في قَولِه تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ سؤالٌ: أنَّه تعالى مدَحَهم بقِلَّةِ الهُجوعِ، ولم يمدَحْهم بكثرةِ السَّهَرِ، فما قال: «كانوا كثيرًا مِنَ اللَّيلِ ما يَسهَرونَ»! فما الحِكمةُ فيه، مع أنَّ السَّهَرَ هو الكُلفةُ والاجتِهادُ لا الهُجوعَ؟!
الجوابُ: إشارةً إلى أنَّ نَومَهم عبادةٌ؛ حيثُ مدَحَهم اللهُ تعالى بكَونِهم هاجِعينَ قَليلًا، وذلك الهُجوعُ أورَثَهم الاشتِغالَ بعِبادةٍ أُخرى، وهي الاستِغفارُ في وُجوهِ الأسحارِ، ومَنْعُهم مِن الإعجابِ بأنفُسِهم والاستِكبارِ [114] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/168). .
4- في قَولِه تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ استِحبابُ قيامِ اللَّيلِ، وذَمُّ نَومِه كُلِّه [115] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 246). .
5- قَولُه تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ هذا كالمِثالِ لأعظَمِ إحسانِهم؛ فإنَّ ما ذُكِرَ مِن أعمالِهم دالٌّ على شِدَّةِ طاعتِهم لله؛ ابتِغاءَ مَرضاتِه، ببَذْلِ أشَدِّ ما يُبذَلُ على النَّفْسِ، وهو شَيئانِ؛ أوَّلُهما: راحةُ النَّفْسِ في وَقتِ اشتِدادِ حاجتِها إلى الرَّاحةِ، وهو اللَّيلُ كُلُّه، وخاصَّةً آخِرَه؛ إذ يكونُ فيه قائمُ اللَّيلِ قد تَعِبَ، واشتَدَّ طَلَبُه للرَّاحةِ. وثانيهما: المالُ الَّذي تَشِحُّ به النُّفوسُ غالِبًا، وقد تضَمَّنَت هذه الأعمالُ الأربعةُ أصْلَيْ إصلاحِ النَّفْسِ وإصلاحِ النَّاسِ، وذلك جِماعُ ما يَرمي إليه التَّكليفُ مِنَ الأعمالِ؛ فإنَّ صَلاحَ النَّفسِ تزكيةُ الباطِنِ والظَّاهِرِ، ففي قيامِ اللَّيلِ إشارةٌ إلى تزكيةِ النَّفسِ باستِجلابِ رِضا اللهِ تعالى، وفي الاستِغفارِ تَزكيةُ الظَّاهِرِ بالأقوالِ الطَّيِّبةِ الجالِبةِ لِمَرضاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي جَعْلِهم الحَقَّ في أموالِهم للسَّائِلينَ نَفعٌ ظاهِرٌ للمُحتاجِ المُظهِرِ لحاجتِه، وفي جَعْلِهم الحَقَّ للمَحرومِ نَفعُ المحتاجِ المتعَفِّفِ عن إظهارِ حاجتِه، الصَّابِرِ على شِدَّةِ الاحتياجِ [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/348، 349). .
6- في قَولِه تعالى: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إشارةٌ إلى أنَّهم كانوا يَتهَجَّدونَ ويَجتَهِدونَ، يُريدونَ أن يكونَ عَمَلُهم أكثَرَ مِن ذلك وأخلَصَ منه، ويَستَغفِرونَ مِنَ التَّقصيرِ، وهذه سِيرةُ الكريمِ؛ يأتي بأبلَغِ وُجوهِ الكَرَمِ ويَستَقِلُّه، ويَعتَذِرُ مِنَ التَّقصيرِ! واللَّئيمُ يأتي بالقَليلِ ويَستَكثِرُه، ويَمُنُّ به [117] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/168). !
7- أحسَنُ ما خُتِمت به الأعمالُ: التَّوبةُ والاستِغفارُ [118] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 294). ، قال تعالى: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، فهذا مِن حُسْنِ عَمَلِهم، وعَدَمِ إعجابِهم بأنفُسِهم، وكَونِهم يَشعُرونَ بأنَّهم وإنِ اجتَهَدوا فهم مُقَصِّرُون، فيَستَغفِرونَ اللهَ بعدَ فِعلِ الطَّاعةِ؛ جَبرًا لِمَا حَصَلَ فيها مِن خَللٍ، ويُشرَعُ في نهايةِ العباداتِ أن يَستغفِرَ الإنسانُ ربَّه مِمَّا قد يكونُ فيها مِن خَلَلٍ؛ فبَعْدَ الصَّلاةِ يَستغفِرُ الإنسانُ ربَّه ثلاثًا، وبعدَ الحجِّ؛ قال اللهُ تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 199] ، فهم يَسألونَ المغفرةَ بعدَ تهجُّدِهِم وقيامِهم [119] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 125). ، فهذا ونحوُه مما يُبيِّنُ حقيقةَ الأمرِ، وأنَّ كلَّ أحدٍ محتاجٌ إلى مغفرةِ الله ورحمتِه، وأنَّه لا سبيلَ إلى النَّجاةِ بدونِ مغفرتِه ورحمتِه أصلًا [120] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (ص: 287). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ هذه الآيةُ الكريمةُ فيها الدَّلالةُ المعروفةُ عِندَ أهلِ الأُصولِ بدَلالةِ الإيماءِ والتَّنبيهِ [121] دلالةُ الإيماءِ والتَّنبيهِ ضابطُها: أن يُذكرَ وصْفٌ مُقتَرِنٌ بحُكمٍ في نصٍّ مِن نصوصِ الشَّرعِ على وجهٍ لو لم يكُنْ ذلك الوصفُ علَّةً لذلك الحُكمِ لَكان الكلامُ معيبًا. يُنظر: ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 283). على أنَّ سَبَبَ نَيلِ هذه الجَنَّاتِ والعُيونِ هو تَقْوى اللهِ، والسَّبَبُ الشَّرعيُّ هو العِلَّةُ الشَّرعيَّةُ على الأصَحِّ [122] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/439). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ سُؤالٌ: أنَّ قَولَه تعالى: وَعُيُونٍ يَقتَضي أن يكونَ المتَّقي فيها، ولا لذَّةَ في كَونِ الإنسانِ في ماءٍ أو غيرِ ذلك مِنَ المائعاتِ.
الجوابُ: أنَّ معناه: في خِلالِ العُيونِ، وذلك بيْنَ الأنهارِ؛ بدَليلِ أنَّ قَولَه تعالى: فِي جَنَّاتٍ ليس معناه إلَّا بينَ جَنَّاتٍ، وفي خِلالِها؛ لأنَّ الجنَّةَ هي الأشجارُ، وإنَّما يكونُ بَيْنَها، كذلك القَولُ في العُيونِ [123] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/165). .
3- أنَّ الصَّلاةَ باللَّيلِ مِن مُوجِباتِ الجنَّةِ، وقد دلَّ عليه قَولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، فوَصَفهم بالتَّيَقُّظِ باللَّيلِ، والاستِغفارِ بالأسحارِ، وبالإنفاقِ مِن أموالِهم [124] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/47). .
4- في قَولِه تعالى: آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ دليلٌ على أُمورٍ؛ منها: قَبولُهم له، ومنها: رِضاهم به، ومنها: وُصولُهم إليه بلا مانِعٍ ولا عائِقٍ، ومنها: أنَّ جَزاءَهم مِن جِنسِ أعمالِهم؛ فكما أَخذوا ما أمَرَهم به في الدُّنيا وقابَلوه بالرِّضا والتَّسليمِ وانشِراحِ الصَّدْرِ، أَخذوا ما آتاهم مِن الجَزاءِ كذلك [125] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 291). .
5- في قَولِه تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ فَضلُ اختِصاصِ اللَّيلِ، وكذا في قَولِه تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] ، وقَولِه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] ، وقَولِه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 40] ، وقَولِه: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] ، ومِنَ السُّنَّةِ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا كان ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ يَنزِلُ رَبُّنا إلى سَماءِ الدُّنيا)) الحديثَ [126] أخرجه البخاريُّ (1145) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (758). . وهذا يدُلُّ على أنَّ اللَّيلَ أخَصُّ بالنَّفَحاتِ الإلهيَّةِ، وبتجَلِّياتِ الرَّبِّ سُبحانَه لعبادِه؛ وذلك لِخُلُوِّ القَلبِ، وانقِطاعِ الشَّواغِلِ. وسُكونُ اللَّيلِ ورَهبتُه أقوى على استِحضارِ القَلبِ وصَفائِه [127] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/38). .
6- في قَولِه تعالى: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إشارةٌ إلى أنَّهم لا يُخْلُونَ وَقتًا عن العِبادةِ؛ فإنَّهم باللَّيلِ لا يَهجَعونَ، ومع أوَّلِ جُزءٍ مِنَ السَّحَرِ يَستَغفِرونَ؛ فيَكونُ فيه بيانُ كَونِهم مُستَغفِرينَ مِن غَيرِ أن يَسبِقَ منهم ذَنبٌ [128] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/168). !
7- الزَّكاةُ واجِبةٌ في عُروضِ التِّجارةِ عندَ أكثرِ أهلِ العِلمِ، وهو القَولُ الصَّحيحُ المُتعيِّنُ، والدَّليلُ على ذلك: دُخولُها في عُمومِ قَولِه تعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [129] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (6/138). تجِبُ الزَّكاةُ في عُروضِ التِّجارةِ باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّة الأربَعةِ: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحَنابِلَة. يُنظر: ((تبيين الحقائق للزيلعي مع حاشية الشلبي)) (1/279)، ((الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي)) (1/472)، ((المجموع)) للنووي (6/47)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/240). وقد حُكِيَ في ذلك الإجماعُ. يُنظر: ((الأموال)) لأبي عبيد (ص: 525)، ((الإشراف)) لابن المنذر (3/81). .
8- في قَولِه تعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ تأمَّلْ حِكمةَ الرَّبِّ تعالى في كَونِه حَرَمه بقَضائِه، وشَرَع لأصحابِ الجِدَةِ إعطاءَه، وهو أغنى الأغنياءِ، وأجودُ الأجوَدِينَ! فلم يَجْمَعْ عليه بيْنَ الحِرمانِ بالقَدَرِ وبالشَّرْعِ، فشَرَعَ عَطاءَه بأمرِه، وحَرَمه بقَدَرِه، فلم يَجْمَعْ عليه حِرمانَينِ [130] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 294). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ
- قولُه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ... اعتِراضٌ قابَلَ به حالَ الكافرين في يومِ الدِّينِ، جَرَى على عادةِ القرآنِ في إتْباعِ النِّذارةِ بالبِشارةِ، والتَّرهيبِ بالتَّرغيبِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/347). .
- قَولِه: جَنَّاتٍ جُمِعَتْ باعتبارِ أنواعِها وأصنافِها، وقد جاءتْ في القُرآنِ مُفرَدةً، مِثلُ قَولِه تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] ، فهي مُفردةٌ باعتبارِ الجِنسِ، ومَجموعةٌ باعتِبارِ النَّوعِ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 123). . وقيل: جُمِعَ جَنَّاتٍ باعتِبارِ جَمْعِ المُتَّقينَ، وهي جَنَّاتٌ كثيرةٌ مُختلِفةٌ، وتنْكيرُها للتَّعظيمِ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/347). . وقيل: لأنَّها بالنِّسبةِ إلى الدُّنيا وبالإضافةِ إلى جِنانِها جَنَّاتٌ لا يَحصُرُها عَددٌ، ووحَّدها لأنَّها لاتِّصالِ المنازلِ والأشجارِ والأنهارِ كجنَّةٍ واحدةٍ، وقد ثنَّاها في قولِه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]؛ فقيل: يَجوزُ أنْ يكونَ المرادُ جِنسَينِ مِن الجنَّاتِ، وقد ذُكِرَت الجنَّاتُ في القُرآنِ بصِيغةِ الجمْعِ غيرَ مرَّةٍ، فالمرادُ جِنسانِ مِن الجنَّاتِ. ويجوزُ أنْ تكونَ التَّثنيةُ مُستعمَلةً كِنايةً عن التَّعدُّدِ، وإيثارُ صِيغةِ التَّثنيةِ هنا لِمُراعاةِ الفواصلِ السَّابِقةِ واللَّاحقةِ؛ فقد بُنِيَت قرائنُ السُّورة عليها، والقرينةُ ظاهرةٌ، وعلى هذا فجَميعُ ما أُجرِيَ بصِيغةِ التَّثنيةِ في شأْنِ الجنَّتينِ فمُرادٌ به الجمْعُ. وقيل: المرادُ بالجنَّتينِ جنَّةٌ واحدةٌ، وإنَّما ثَنَّى مُراعاةً للفواصلِ [134] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/452)، ((تفسير الرازي)) (28/165)، ((تفسير البيضاوي)) (5/174)، ((تفسير أبي حيان)) (10/67)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 546)، ((تفسير أبي السعود)) (8/184)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/264، 265). . وقيل غيرُ ذلك [135] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/165) و(29/370، 371)، ((تفسير الشربيني)) (4/95). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ ختَمَ الآيةَ هنا بقولِه: وَعُيُونٍ، وقال: آَخِذِينَ، وقالَ في سُورةِ (الطُّورِ): وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ [الطور: 17، 18]، وليس ذلك بتَكرارٍ؛ لأنَّ ما هنا مُتَّصِلٌ بما به يصِلُ الإنسانُ إلى الجنَّاتِ، وهو قولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذَّارِيات: 16] الآياتِ، وما في (الطُّورِ) مُتَّصِلٌ بما يَنالُه الإنسانُ فيها، وهو قولُه: وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا [الطور: 18، 19] الآياتِ [136] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 229)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/440)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 534). .
- قولُه: آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ، أي: قابِلون ما أعْطاهم، أي: راضُون به؛ فالأخذُ مُستعمَلٌ في صَريحِه وكِنايتِه كِنايةً رَمْزيةً عن كَونِ ما يُؤتَونَه أكمَلَ في جِنسِه؛ لأنَّ مَدارِكَ الجماعاتِ تَختلِفُ في الاستِجادةِ، حتَّى تَبلُغَ نِهايةَ الجَودةِ، فيَستوي النَّاسُ في استِجادتِه، وهي كِنايةٌ تَلْويحيَّةٌ [137] تَنقسِمُ الكِنايةُ باعتبارِ الوسائطِ (اللَّوازمِ) والسِّياقِ إلى أربعةِ أقسامٍ: تعريض، وتلويح، ورمْز، وإيماء؛ فالتَّعريضُ اصطِلاحًا: هو أنْ يُطلَقَ الكلامُ ويُشارَ به إلى معنًى آخَرَ يُفهَمُ مِن السِّياقِ؛ نحو قولِك للمؤْذِي: «المسلِمُ مَن سَلِمَ المسلمون مِن لِسانِه ويَدِه»؛ تعريضًا بنَفيِ صِفةِ الإسلامِ عن المؤذِي. والتَّلويحُ اصطِلاحًا: هو الَّذي كثُرَتْ وسائطُه بلا تَعريضٍ، ويُنتقَلُ فيه إلى الملزومِ بواسِطةِ لَوازِمَ؛ نحو قولِ المرأةِ في حديثِ أمِّ زَرْعٍ: (زَوجي رفيعُ العِمادِ، طويلُ النِّجادِ، عظيمُ الرَّمادِ)، فقولُها: (عظيمُ الرَّمادِ) يدُلُّ على كثرةِ الجَمرِ، وهي تدلُّ على كثرةِ إحراقِ الحطَبِ، وهي تدلُّ على كثرةِ الطَّبائخِ، وهي تدلُّ على كثرةِ الأكَلةِ، وهي تدلُّ على كثرةِ الضِّيفانِ، وهي تدلُّ على أنَّه مِضْيافٌ؛ فانتقَل الفِكرُ إلى جملةِ وسائطَ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 402 وما بعدها)، ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (145-155)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/300)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 286- 290). ، أي: رمزيَّةٌ عن المقصودِ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/347). .
- وفي إيثارِ التَّعبيرِ عن الجَلالةِ بوَصْفِ (رب) مُضافٍ إلى ضَميرِ المُتَّقينَ رَبُّهُمْ: مَعنًى مِن اختِصاصِهم بالكرامةِ، والإيماءُ إلى أنَّ سَببَ ما آتاهم هو إيمانُهم برُبوبيَّتِه المُختصَّةِ بهم، وهي المُطابِقةُ لصِفاتِ اللهِ تعالى في نفْسِ الأمرِ [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/348). .
- وجُملةُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ تَعليلٌ لجُملةِ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، أي: كان ذلك جَزاءً لهم عن إحسانِهم [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/348). .
- وفائدةُ الظَّرفِ في قولِه: قَبْلَ ذَلِكَ أنْ يُؤتَى بالإشارةِ إلى ما ذُكِرَ مِن الجنَّاتِ والعيونِ، وما آتاهم ربُّهم ممَّا لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمِعَتْ، ولا خطَرَ على قلْبِ بشَرٍ؛ فيَحصُلُ بسَببِ تلك الإشارةِ تَعظيمُ شأنِ المُشارِ إليه، ثمَّ يُفادُ بقَولِه: قَبْلَ ذَلِكَ -أي: قبْلَ التَّنعُّمِ به- أنَّهم كانوا مُحسِنينَ، أي: عامِلينَ الحَسَناتِ، كما فسَّرَه قولُه: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ... الآياتِ؛ فالمعنى: أنَّهم كانوا في الدُّنيا مُطيعينَ للهِ تعالى، واثِقينَ بوَعْدِه ولم يَرَوْه [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/348). .
2- قولُه تعالَى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ بدَلٌ مِن جُملةِ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ بدَلَ بَعضٍ مِن كلٍّ؛ لأنَّ هذه الخِصالَ الثَّلاثَ هي بَعضٌ مِن الإحسانِ في العَملِ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/348، 349). .
- قَولُه تعالى: مِنَ اللَّيْلِ خَصَّه بذلك؛ لأنَّ النَّومَ القَليلَ بالنَّهارِ قد يُوجَدُ مِن كُلِّ أحَدٍ، وأمَّا اللَّيلُ فهو زَمانُ النَّومِ، ولا يَسهَرُه في الطَّاعةِ إلَّا مُتعَبِّدٌ مُقبِلٌ [143] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/167). .
- وحرْفُ (ما) في قَولِه: قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ صِلةٌ للتَّأكيدِ، والمعنى: كانوا يَهجَعون قليلًا مِن اللَّيلِ، أو كانُوا يَهجَعونَ في طائفةٍ قليلةٍ منَ اللَّيلِ، أو مَصدريَّةٌ، أو مَوصولةٌ، أي: في قليلٍ مِن اللَّيلِ هُجوعُهم، أو ما يَهجَعون فيه [144] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/398)، ((تفسير البيضاوي)) (5/147)، ((تفسير أبي السعود)) (8/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/349). .
- وقد اشتمَلَت جُملةُ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ على خَصائصَ مِن البلاغةِ:
أُولاها: فِعلُ الكَونِ في قولِه: (كانوا) الدَّالُّ على أنَّ خَبرَها سُنَّةٌ مُتقرِّرةٌ.
الثَّاني: العُدولُ عن أنْ يُقالَ: كانوا يُقيمونَ اللَّيلَ، أو كانوا يُصَلُّون في جَوفِ اللَّيلِ، إلى قولِه: قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ؛ لأنَّ في ذِكرِ الهُجوعِ تَذكيرًا بالحالةِ الَّتي تَميلُ إليها النُّفوسُ فتَغلِبُها وتَصرِفُها عن ذِكرِ اللهِ تعالى، فكان في الآيةِ إطنابٌ اقتَضاهُ تَصويرُ تلك الحالةِ، والبليغُ قد يُورِدُ في كَلامِه ما لا تَتوقَّفُ عليه استِفادةُ المَعنى إذا كان يَرْمي بذلك إلى تَحصيلِ صُوَرِ الألفاظِ المَزيدةِ.
الثَّالثُ: التَّصريحُ بقولِه: مِنَ اللَّيْلِ؛ للتَّذكيرِ بأنَّهم ترَكوا النَّومَ في الوقتِ الَّذي مِن شَأنِه استِدعاءُ النُّفوسِ للنَّومِ فيه؛ زِيادةً في تَصويرِ جَلالِ قِيامِهم اللَّيلَ، وإلَّا فإنَّ قولَه: (كانوا قليلًا ما يَهجَعون) يُفيدُ أنَّه مِن اللَّيلِ.
الرَّابعُ: تَقييدُ الهُجوعِ بالقليلِ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم لا يَستكمِلون مُنتهى حَقيقةِ الهُجوعِ، بلْ يأخُذون منه قليلًا.
الخامسُ: المُبالَغةُ في تَقليلِ هُجوعِهم؛ لإفادةِ أنَّه أقَلُّ ما يَهْجَعُه الهاجِعُ [145] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/398)، ((تفسير البيضاوي)) (5/147)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/16)، ((تفسير أبي حيان)) (9/552)، ((تفسير أبي السعود)) (8/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/349، 350). .
- وفي بِناءِ الفعلِ على الضَّميرِ في قولِه: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إشعارٌ بأنَّهم أحِقَّاءُ بذلك؛ لِوُفورِ عِلْمِهم باللهِ، وخَشْيتِهم منه، فكأنَّهم المُختصُّون به؛ لاستِدامتِهم له، وإطنابِهم فيه [146] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/399)، ((تفسير البيضاوي)) (5/147)، ((تفسير أبي السعود)) (8/138). . وقيل: صِيغَ استِغفارُهم بأُسلوبِ إظهارِ اسمِ المسنَدِ إليه هُمْ، دونَ ضَميرِه -حيثُ لم يقُلْ: (وَبِالْأَسْحَارِ يَستغفِرون)-؛ لقصْدِ إظهارِ الاعتناءِ بهم، ولِيقَعَ الإخبارُ عن المُسنَدِ إليه بالمُسنَدِ الفِعليِّ، فيُفيدَ تَقوِّيَ الخبَرِ؛ لأنَّه مِن النُّدرةِ بحيثُ يَقتضي التَّقويةَ؛ لأنَّ الاستِغفارَ في السَّحَرِ يَشُقُّ على مَن يقومُ اللَّيلَ؛ لأنَّ ذلك وقتُ إعيائِه [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/350، 351). .
- والأسحارُ: جمْعُ سَحَرٍ، وهو آخِرُ اللَّيلِ، وخُصَّ هذا الوقتُ؛ لكَونِه يَكثُرُ فيه أنْ يَغلِبَ النَّومُ على الإنسانِ فيه، فصَلاتُهم واستِغفارُهم فيه أعجَبُ مِن صَلاتِهم في أجزاءِ اللَّيلِ الأُخرى. وجُمِعَ الأسحارُ باعتبارِ تَكرُّرِ قِيامِهم في كلِّ سَحَرٍ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/350). .
- وتَقديمُ وَبِالْأَسْحَارِ على يَسْتَغْفِرُونَ؛ للاهتِمامِ به [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/350). .
- قولُه: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ في قولِه: وَفِي أَمْوَالِهِمْ أضافَ المالَ إليهم، وقال في مَواضِعَ: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [يس: 47]، وقال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] ؛ فأضافَ الرِّزقَ إليه سُبحانَه؛ وسبَبُ هذا أنَّ في تلك المواضِعِ كان الذِّكرُ للحَثِّ، فذُكِرَ معه ما يَدفَعُ الحثَّ ويَرفَعُ المانِعَ؛ فقال: هو رِزقُ اللهِ، واللهُ يَرزُقُكم، فلا تَخافوا الفقْرَ وأعْطُوا، وأمَّا هاهنا فمَدْحٌ على ما فَعَلوه؛ فلم يكُنْ إلى الحِرصِ حاجةٌ [150] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/169). .
- قيل: لَمَّا كان مَآلُ أمْرِ مَن لم يَسأَلِ النَّاسَ إلى ما يَؤولُ إليه أمْرُ المحرومِ أُطلِقَ عليه لَفظُ المحرومِ تَشبيهًا به، في أنَّه لا تَصِلُ إليه مُمكِناتُ الرِّزقِ بعدَ قُربِها منه؛ فكأنَّه نالَه حِرمانٌ. والمقصودُ مِن هذا الإطلاقِ تَرقيقُ النُّفوسِ عليه، وحثُّ النَّاسِ على البحثِ عنه ليَضَعوا صَدقاتِهم في مَوضعٍ يُحِبُّ اللهُ وضْعَها فيه [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/351). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وقال في سُورةِ (المعارجِ): وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 24، 25]؛ فزِيدَت الصِّفةُ في سُورةِ (المعارجِ) مَعْلُومٌ، وسقَطَت مِن (الذَّارياتِ)؛ وذلك لأنَّ آيةَ (المعارِجِ) قد تَقدَّمَها مُتَّصِلًا بها قولُه تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج: 22]، والمرادُ بالصَّلاةِ هنا المكتوبةُ، وأيضًا يُقرَنُ بها في آيِ الكتابِ الزَّكاةُ المفروضةُ، وبها فُسِّرَ الحقُّ المعلومُ في آيةِ (المعارِجِ)؛ وهذا لأنَّها مُقدَّرةٌ مَعلومةٌ، وليس في المالِ حقٌّ مُقدَّرٌ مَعلومٌ وقْتًا ونِصابًا ووُجوبًا غيرَها، فلمَّا أُرِيدَ بالحقِّ هنا الزَّكاةُ، أُتبِعَ بوَصْفٍ يُحرِزُ المَقصودَ. ولَمَّا قُصِدَ في آيةِ (الذَّارياتِ) غيرُ هذا المَقصدِ؛ بدَليلِ ما تَقدَّمَها مِن وصَفِ هؤلاء بطُولِ صَلاتِهم وتَهجُّدِهم ومُداومتِهم الاستِغفارَ في الأسحارِ؛ فذُكِروا بزِيادةٍ مِن التَّطوُّعِ والنَّفلِ على ما فُرِضَ عليهم -على أحدِ الأقوالِ-؛ فناسَبَ هذا الإطلاقُ الواردُ في إنفاقِهم ليُفهِمَ الزِّيادةَ على ما فُرِضَ عليهم مِن الزَّكاةِ المُقدَّرةِ، ولم يكُنْ لِيُناسِبَ هنا الإشارةُ إلى قدْرِ المَنْفوقِ كما في سُورةِ (المعارِجِ)، ولم يكُنْ عكْسُ الواردِ لِيُناسِبَ، واللهُ أعلَمُ [152] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/450). .