المَطلَبُ الثَّالثَ عَشَرَ: الشَّريعةُ جاءَت بتَحصيلِ المَصالحِ وتَكميلِها، وتَعطيلِ المَفاسِدِ وتَقليلِها
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الشَّريعةُ جاءَت بتَحصيلِ المَصالحِ وتَكميلِها، وتَعطيلِ المَفاسِدِ وتَقليلِها"
[1123] يُنظر: ((منهاج السنة)) (1/551)، ((مجموع الفتاوى)) (1/265) كلاهما لابن تيمية، ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (2/534). ، وصيغةِ: "الواجِبُ تَحصيلُ المَصالِحِ وتَكميلُها، وتَبطيلُ المَفاسِدِ وتَقليلُها"
[1124] يُنظر: ((حسن السلوك)) لابن الموصلي (ص: 141). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالشَّريعةُ جاءَت بتَحصيلِ المَصالِحِ وتَكميلِها، وتَعطيلِ المَفاسِدِ وتَقليلِها؛ فهيَ تُحَصِّلُ أعظَمَ المُصلحَتَينِ بفواتِ أدناهما إذا لم يُمكِنْ أن يَجتَمِعا، وتَدفعُ أعظَمَ الفسادينِ باحتِمالِ أدناهما إذا لم يَندَفِعا جَميعًا، فما أمَرَ اللهُ به فمَصلحَتُه راجِحةٌ، وما نَهى عنه فمَفسَدَتُه راجِحةٌ، وليسَ في الشَّريعةِ أمرٌ يُفعَلُ إلَّا ووُجودُه للمَأمورِ خَيرٌ مَن عَدَمِه، ولا نُهِي عن فِعلٍ إلَّا وعَدَمُه خَيرٌ مِن وُجودِه. والعَقلُ والشَّرعُ يوجِبانِ تَحصيلَ المَصالحِ وتَكميلَها، وإعدامَ المَفاسِدِ وتَقليلَها، فإذا عَرَضَ للعاقِلِ أمرٌ يَرى فيه مَصلَحةٌ ومَفسَدةٌ، وجَبَ عليه أمرانِ: أمرٌ عِلميٌّ، وأمرٌ عَمَليٌّ، فالعِلميُّ: مَعرِفةُ الرَّاجِحِ مِن طَرَفيِ المَصلحةِ والمَفسَدةِ، فإذا تَبَيَّنَ له الرُّجحانُ وجَبَ عليه إيثارُ الأصلَحِ له
[1125] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/288)، ((الداء والدواء)) (ص: 212)، ((شفاء العليل)) (2/86) كِلاهما لابنِ القَيِّمِ. .
قال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (مَن مارَسَ الشَّريعةَ وفَهِمَ مَقاصِدَ الكِتابِ والسُّنَّةِ عَلِمَ أنَّ جَميعَ ما أُمِرَ به لجَلب مَصلحةٍ أو مَصالحَ، أو لدَرءِ مَفسَدةٍ أو مَفاسِدَ، أو للأمرَينِ، وأنَّ جَميعَ ما نُهيَ عنه إنَّما نُهِي عنه لدَفعِ مَفسَدةٍ أو مَفاسِدَ، أو جَلبِ مَصلحةٍ أو مَصالِحَ، أو للأمرَينِ، والشَّريعةُ طافِحةٌ بذلك)
[1126] ((الفوائد)) (ص: 53). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ تَعطيلَ المَفاسِدِ وتَقليلَها يُعَدُّ إزالةً لها؛ إذِ المَفاسِدُ أضرارٌ، والضَّرَرُ يَجِبُ أن يُزالَ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:أنَّ اللَّهَ تعالى أمَر بالصَّلاحِ ونَهى عنِ الفسادِ، وبَعَثَ رُسُلَه بتَحصيلِ المَصالِحِ وتَكميلِها وتَعطيلِ المَفاسِدِ وتَقليلِها؛ إذ قال تعالى:
وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] ، وقال شُعَيبٌ:
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] ، وقال تعالى:
فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف: 35] ، وقال تعالى:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [البقرة: 11-12] ، فوظيفةُ الرُّسُلِ وسُنَّتُهم ومِلَّتُهم إرادةُ الإصلاحِ بحَسَبِ القُدرةِ والإمكانِ، فيَأتونَ بتَحصيلِ المَصالِحِ وتَكميلِها أو بتَحصيلِ ما يَقدِرُ عليه مِنها، وبدَفعِ المَفاسِدِ وتَقليلِها
[1127] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (31/266)، ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 388). .
2- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ:الأحاديثُ التي تَنهى عن بُيوعِ الغَرَرِ، ومِنها:
- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن بَيعِ الثَّمَرِ حتَّى يَبدوَ صَلاحُها، نَهى البائِعَ والمُبتاعَ )) [1128] أخرجه البخاري (2194)، ومسلم (1534) واللفظ له .
- وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن بَيعِ الثِّمارِ حتَّى تُزهيَ، فقيل له: وما تُزهي؟ قال: حتَّى تَحمَرَّ. وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرَأيتَ إذا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرةَ، بمَ يَستَحِلُّ أحَدُكُم مالَ أخيه؟ )) [1129] أخرجه البخاري (2198) واللفظ له، ومسلم (1555). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ السَّابقَينِ:أنَّ بَيعَ الثَّمَرةِ قَبلَ ظُهورِ صَلاحِها فيه غَرَرٌ وخَطَرٌ؛ لأنَّ الثَّمَرَ قد تُصيبُه جائِحةٌ، فيَتلَفُ، فيَكونُ المُشتَري قد خَسِرَ ما دَفعَه ثَمَنًا لذلك، والشَّريعةُ الكامِلةُ جاءَت بتَحصيلِ المَصالِحِ وتَكميلِها، وتَعطيلِ المَفاسِدِ وتَقليلِها
[1130] يُنظر: ((منحة الباري)) لزكريا الأنصاري (4/ 601)، ((الإفهام)) لابن باز (ص: 527). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- أنَّ الأعمالَ الدِّينيَّةَ لا يَجوزُ أن يُتَّخَذَ مِنها شَيءٌ سَبَبًا إلَّا أن تَكونَ مَشروعةً، فلا يُعبَدُ اللهُ بالبدَعِ المُخالِفةِ للشَّريعةِ؛ إذِ المَفسَدةُ الحاصِلةُ بذلك أعظَمُ مِنَ المَصلحةِ الحاصِلةِ به؛ إذِ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بُعِثَ بتَحصيلِ المَصالِحِ وتَكميلِها، وتَعطيلِ المَفاسِدِ وتَقليلِها، فما أمَرَ اللَّهُ به فمَصلحَتُه راجِحةٌ، وما نَهى عنه فمَفسَدَتُه راجِحةٌ
[1131] يُنظر: ((الواسطة بين الحق والخلق)) لابن تيمية (ص: 45). .
2- أنَّ جَميعَ المُحَرَّماتِ مِنَ الشِّركِ والخَمرِ والميسِرِ والفواحِشِ والظُّلمِ قد يَحصُلُ لصاحِبِها بها مَنافِعُ ومَقاصِدُ، لكِن لمَّا كانت مَفاسِدُها راجِحةً على مَصالحِها نَهى اللَّهُ ورَسولُه عنها، كَما أنَّ كَثيرًا مِنَ الأُمورِ كالعِباداتِ والجِهادِ وإنفاقِ الأموالِ قد تَكونُ مُضِرَّةً، لكِن لمَّا كانت مَصلحَتُه راجِحةً على مَفسَدَتِه أمَر به الشَّارِعُ، فهذا أصلٌ يَجِبُ اعتِبارُه، وهو الشَّريعةُ جاءَت بتَحصيلِ المَصالِحِ وتَكميلِها وتَعطيلِ المَفاسِدِ وتَقليلِها
[1132] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/265). .
3- تَنظيمُ الذَّبائِحِ في الحَجِّ لتَحصيلِ مَقصودِ الشَّارِعِ مِنها مِنَ الأكلِ وإطعامِ فُقَراءِ الحَرَمِ والتَّوسِعةِ عليهم، والسَّلامةِ مِمَّا قد يَحدُثُ بسَبَبِ إلقاءِ لُحومِها ونَتنِها مِن أضرارٍ صِحِّيَّةٍ، ومِن ذَهابِها وعَدَمِ الانتِفاعِ بها، إذا اتُّبِعَتِ الطُّرُقُ السَّليمةُ التي تَتَمَشَّى مَعَ حِكمةِ الدِّينِ، ولا تَتَنافى ومَقاصِدَه الشَّريفةَ وتَشريعَه الحَكيمَ، ومِن ذلك: نَقلُ ما يَفضُلُ عن هذه اللُّحومِ إلى فُقَراءِ الحَرَمِ في مَكَّةَ وضَواحيها وتَوزيعُها عليهم، وإذا بَقيَ شَيءٌ مِن لُحومِ الهَدايا والأضاحيِّ في الحَجِّ بحَيثُ لم تُؤكَلْ ولم تُدَّخَرْ ولم يُمكِنْ إطعامُها وتَوزيعُها على الفُقَراءِ، وحُفِظَت في ثَلَّاجاتٍ ونَحوِها، ووُزِّعَت على فُقَراءَ الحَرَمِ، فلا بَأسَ بذلك. وفي حِفظِ هذه اللُّحومِ مَصلحةٌ ظاهرةٌ، والشَّريعةُ المُطَهَّرةُ جاءَت بتَحصيلِ المَصالحِ وتَكميلِها، وتَعطيلِ المَفاسِدِ وتَقليلِها
[1133] يُنظر: ((فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ)) (6/54). .