موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّاني عَشَرَ: دَرءُ المَفاسِدِ أَولى مِن جَلبِ المَصالحِ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "دَرءُ المَفاسِدِ أَولى مِن جَلبِ المَصالحِ" [1105] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/105)، ((الموافقات)) للشاطبي (5/300)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3851)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 87)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/545)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 78)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/447). ، وصيغةِ: "دَرءُ المَفاسِدِ مُقدَّمٌ على جَلبِ المَصالِحِ" [1106] يُنظر: ((الغيث الهامع)) للعراقي (ص: 255)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2239)، ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/219)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 131). ، وصيغةِ: "دَرءُ المَفاسِدِ أَولى مِن تَحصيلِ المَصالِحِ" [1107] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (3/107). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
جاءَتِ الشَّريعةُ بجَلبِ المَنافِعِ، ودَرءِ المَفاسِدِ، فإذا تَعارَضَتِ المَصالِحُ والمَفاسِدُ، وجَبَ مُراعاةُ الأكثَرِ مِنها والأعظَمِ، فحُكِمَ بما تَقتَضيه، فإن تَساوت فدَرءُ المَفاسِدِ أَولى مِن جَلبِ المَصالِحِ، أي: أنَّه إذا دارَ الأمرُ بَينَ دَرءِ مَفسَدةٍ وجَلبِ مَصلحةٍ، كان دَرءُ المَفسَدةِ أَولى مِن جَلبِ المَصلحةِ، فدَرءُ المَفاسِدِ إنَّما يَتَرَجَّحُ على جَلبِ المَصالحِ إذا استَويا، أو كانتِ المَفسَدةُ أعظَمَ، ويُشتَرَطُ في تَقديِم دَرِء المَفسَدةِ ألَّا يُؤَدِّيَ إلى مَفسَدةٍ أُخرى، فيُلغى التَّقديمُ، وإنَّما قُدِّمَ دَفعُ المَفسَدةِ؛ لأنَّ اعتِناءَ الشَّارِعِ بالمَنهيَّاتِ أشَدُّ مِنِ اعتِنائِه بالمَأموراتِ، بدَليلِ أنَّه يَجِبُ دَفعُ كُلِّ مَفسَدةٍ، ولا يَجِبُ جَلبُ كُلِّ مَصلحةٍ [1108] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/105)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/21)، ((التحبير)) للمرداوي (8/3851)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 87)، ((الفواكه العديدة)) لابن المنقور (1/40)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (13/78)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/239). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ المَفاسِدَ أضرارٌ، فإذا تَعارَضَت مَعَ المَصالِحِ كان دَرءُ المَفاسِدِ مُقدَّمًا على جَلبِ المَصالِحِ؛ إزالةً للضَّرَرِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:
- قال اللهُ تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا ‌أَكْبَرُ ‌مِنْ ‌نَفْعِهِمَا [البقرة: 219] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى حَرَّمَهما حينَ غَلَبَت مَفسَدَتُهما على ما فيهما مِنَ المَنافِعِ [1109] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/354). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (جَميعُ المُحَرَّماتِ مِنَ الشِّركِ والخَمرِ والمَيسِرِ والفواحِشِ والظُّلمِ قد يَحصُلُ لصاحِبِه به مَنافِعُ ومَقاصِدُ، لكِن لمَّا كانت مَفاسِدُها راجِحةً على مَصالحِها نَهى اللهُ ورَسولُه عنها) [1110] ((مجموع الفتاوى)) (1/265). .
- وقال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا ‌يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة: 12] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى قدَّمَ المَنهيَّاتِ على المَأموراتِ المُستَفادةِ مِنَ المَعروفِ؛ لأنَّ التَّخَلِّيَ عنِ الرَّذائِلِ مُقدَّمٌ على التَّحلِّي بالفضائِلِ؛ لأنَّ دَرءَ المَفاسِدِ أَولى مِن جَلبِ المَصالِحِ [1111] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/524). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((فإذا نَهَيتُكُم عن شَيءٍ فاجتَنِبوه، وإذا أمَرتُكُم بأمرٍ فَأْتوا مِنه ما استَطَعتُم )) [1112] أخرجه البخاري (7288) واللفظ له، ومسلم (1337). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ الاهتِمامَ بتَركِ المَنهيِّ عنه أشَدُّ مِن فِعلِ المَأمورِ به؛ فقدَّمَ دَفعَ المَفسَدةِ، ومِن ثَمَّ سومِحَ في تَركِ بَعضِ الواجِباتِ بأدنى مَشَقَّةٍ، كالقيامِ في الصَّلاةِ، والفِطرِ، والطَّهارةِ، ولم يُسامِحْ في الإقدامِ على المَنهيَّاتِ، وخُصوصًا الكَبائِرَ، إلَّا إذا تَحَقَّقَتِ الضَّرورةُ [1113] يُنظر: ((إتمام الدراية)) (ص: 163)، ((الأشباه والنظائر)) (ص: 87) كلاهما للسيوطي، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 78)، ((الفتح المبين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 274). .
- وعن أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إنِّي لأقومُ في الصَّلاةِ أُريدُ أن أُطَوِّلَ فيها، فأسمَعُ بُكاءَ الصَّبيِّ، فأتجوَّزُ في صَلاتي؛ كَراهيةَ أن أشُقَّ على أُمِّه )) [1114] أخرجه البخاري (707). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُطِلِ الصَّلاةَ؛ مِن أجلِ دَفعِ مَفسَدةٍ، ومُراعاةُ دَرءِ المَفاسِدِ أولى [1115] يُنظر: ((النجم الوهاج)) للدميري (2/332). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- المُبالَغةُ في المَضمَضةِ والاستِنشاقِ مَسنونةٌ، وتُكرَهُ للصَّائِمِ؛ تَقديمًا لدَرءِ مَفسَدةِ إفسادِ الصِّيامِ على جَلبِ مَصلحةِ المُبالَغةِ المُستَحَبَّةِ في المَضمَضةِ والاستِنشاقِ [1116] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 88)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 78)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/241). .
2- لا يَجوزُ للمالكِ أن يَتَصَرَّفَ بمِلكِه بما يَضُرُّ بجارِه ضَرَرًا بَيِّنًا، كأن يَفتَحَ نافِذةً تُشرِفُ على مَقَرِّ نِساءِ جارِه، أو كَأن يَتَّخِذَ فِناءَها مَوضِعًا للنُّفاياتِ [1117] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/239). .
4- حِفظُ حُقوقِ طَبعِ الكُتُبِ للمُؤَلِّفينَ؛ باعتِبارِ أنَّ المَفسَدةَ الحاصِلةَ مِن تَركِ الكُتُبِ الشَّرعيَّةِ بلا حِفظٍ لحَقِّ طَبعِها مفسدةٌ في هذا الزَّمانِ مِن جَرَّاءِ قِلَّةِ أوِ انعِدامِ الوازِعِ الدِّينيِّ، فإذا لم تُدرَأْ مَفسَدةُ شُيوعِ حَقِّ النَّشرِ فإنَّ النَّاشِرينَ قد يَعيثون فسادًا في الكُتُبِ، كَتَركِ تَصحيحِها وتَصويبِها والاعتِناءِ بالآياتِ والأحاديثِ ونَحوِ ذلك، وقد يُسقِطونَ ما يُسقِطونَ جَهلًا، ويَزيدونَ ما يُريدونَ عَمدًا، كَما هو واقِعٌ؛ فيَنبَغي مُراعاةُ دَرءِ هذه المَفسَدةِ، والمَصالِحُ التي قد تَحصُلُ مِن شُيوعِ حَقِّ النَّشرِ لكافَّةِ النَّاسِ لا تُقدَّمُ على دَرءِ تلك المَفسَدةِ [1118] يُنظر: ((فقه النوازل)) لبكر أبي زيد (2/173). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثنَاءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ مَسائِلُ تَرجِعُ في مَجموعِها إلى أنَّ المَصلحةَ إذا عَظُمَ وُقوعُها كانت أولى بالاعتِبارِ، وكَذا إذا كانتِ المَفسَدةُ تَنغَمِرُ في جانِبِ المَصلحةِ فإنَّنا نُفضِّلُ المَصلَحةَ، وهذا عليه شَيءٌ كَثيرٌ مِن أحكامِ اللهِ الشَّرعيَّةِ والكَونيَّةِ؛ فهذا المَطَرُ الذي يَنزِلُ وفيه مَصلحةٌ عامَّةٌ قد يَكونُ فيه ضَرَرٌ على إنسانٍ بَنى سَقفَه، وجاءَ المَطَرُ فأفسدَه، لكِنَّ هذه المَفسَدةَ القَليلةَ مُنغَمِرةٌ في جانِبِ المَصلحةِ العامَّةِ، وهَكَذا أيضًا الأحكامُ الشَّرعيَّةُ كالأحكامِ الكَونيَّةِ [1119] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/105)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (5/209). .
ومِن هذه المَسائِلِ:
1- الصَّلاةُ مَعَ اختِلالِ أحَدِ شُروطِها مِنَ الطَّهارةِ، والسَّترِ، والاستِقبالِ، ففي كُلِّ ذلك مَفسَدةٌ؛ لِما فيه مِنَ الإخلالِ بإجلالِ اللَّهِ تعالى في أنَّه لا يُناجى إلَّا على أكمَلِ الأحوالِ، ومَعَ ذلك يَجِبُ فِعلُها؛ تَقديمًا لمَصلحَتِها، مَتى تَعَذَّرَ شَيءٌ مِن ذلك، فتَجوزُ الصَّلاةُ حينَها بدونِه؛ تَقديمًا لمَصلحةِ الصَّلاةِ على هذه المَفسَدةِ [1120] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/354)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 88)، ((الفتح المبين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 274). .
3- الكَذِبُ مَفسَدةٌ مُحَرَّمةٌ، ومَتى تَضمَّن جَلبَ مَصلحةٍ تَزيدُ على المَفسَدةِ جاز، مِثلُ كَذِبِ الرَّجُلِ على زَوجَتِه لإصلاحِها وحُسنِ عِشرَتِها، والكَذِبِ للإصلاحِ بَينَ النَّاسِ كذلك؛ لعُمومِ مَصلحَتِه [1121] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/354)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 88)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 78). .
فائِدةٌ:
يُبنى على هذه القاعِدةِ التَّرجيحُ بَينَ الحَظرِ والإباحةِ عِندَ التَّعارُضِ؛ فيُقدَّمُ الحَظرُ على الإباحةِ؛ لأنَّ الحَظرَ يعتَمِدُ المَفاسِدَ، ودَرءُ المَفاسِدِ أَولى، فإذا دارَ الأمرُ بَينَ المَنعِ والجَوازِ فالأحوَطُ التَّركُ [1122] يُنظر: ((نفائس الأصول)) (9/3772)، ((الفروق)) (4/211) كلاهما للقرافي، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/545). .

انظر أيضا: