موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الحادِيَ عَشَرَ: إذا تَعارَضَت مَفسَدَتانِ رُوعيَ أعظَمُهما ضَرَرًا بارتِكابِ أخَفِّهما


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ مَعَ اختِلافٍ يَسيرٍ [1092] يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (15/144)، ((الكواكب الدراري)) للكرماني (2/145)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 87)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 76)، ((الفتح المبين)) لابن حجر الهيتمي (ص: 526)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (4/262)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 19). . واستُعمِلَت أيضًا بصيغةِ: "المُبتَلى بَينَ الشَّرَّينِ يَختارُ أهوَنَهما" [1093] يُنظر: ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (1/234). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
جاءَتِ الشَّريعةُ لتَحقيقِ مَصالحِ النَّاسِ بجَلبِ النَّفعِ لهم، ودَرءِ المَفسَدةِ عنهم، فيَجِبُ دَفعُ المَفاسِدِ كُلِّها ما أمكَنَ، فإن تَعارَضَتِ المَفاسِدُ، ولا يُمكِنُ دَفعُها كُلِّها، فيَجِبُ اختيارُ المَفسَدةِ الأخَفِّ وارتِكابُها؛ لدَفعِ المَفسَدةِ الأعظَمِ والأشَدِّ. وأصلُ هذه القاعِدةِ أنَّ الضَّروراتِ تُبيحُ المَحظوراتِ، فإذا وُجِدَت مَحظوراتٌ، وكان مِنَ الضَّروريِّ ارتِكابُ أحَدِ الضَّرَرَينِ، فيُختارُ أهوَنُهما؛ لأنَّ مُباشَرةَ الحَرامِ لا تَجوزُ إلَّا لضَرورةٍ، ولا ضَرورةَ في حَقِّ الزِّيادةِ، أمَّا إذا كان الضَّرَرانِ مُتَساويَينِ فيُختارُ أحَدُهما [1094] يُنظر: ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (1/234)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 76)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (4/262)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/41)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 201)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/231). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ المَفاسِدَ أضرارٌ، وإذا تَعارَضَ الضَّرَرانِ فإنَّه يُراعى إزالتُهما إذا أمكَنَ، فإذا لم يُمكِنْ فإنَّه يُزالُ الضَّرَرُ الأعظَمُ وإن كان بارتِكابِ الأخَفِّ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:
- قال اللهُ تعالى: يَسْأَلُونَكَ ‌عَنِ ‌الشَّهْرِ ‌الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أن قَتلَ النُّفوسِ وإن كان فيه شَرٌّ فالفِتنةُ الحاصِلةُ بالكُفرِ وظُهورِ أهلِه أعظَمُ مِن ذلك، فيُدفَعُ أعظَمُ الفسادَينِ بالتِزامِ أدناهما؛ لأنَّ مَفسَدةَ أهلِ الشِّركِ مِنَ الكُفرِ باللهِ، وسَبيلِ هُداه، والصَّدِّ عنِ المَسجِدِ الحَرامِ، وإخراجِ أهلِه مِنه، وفِتنةِ المُؤمِنينَ بالسَّعيِ لإرجاعِهم إلى الشِّركِ: أعظَمُ مِن مَفسَدةِ قِتالِ المُشرِكينَ في الشَّهرِ الحَرامِ؛ فاحتُمِلت أخَفُّ المَفسَدَتَينِ لدَفعِ أعظَمِهما [1095] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/513)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/231). .
- وقال اللهُ تعالى حِكايةً عنِ الخَضِرِ: أَمَّا ‌السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف: 79] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الآيةِ دَليلٌ على أنَّه يَجوزُ إتلافُ بَعضِ مالِ الغَيرِ أو تَعييبُه لوِقاية باقيه؛ فإنَّ الخَضِرَ خَرَق السَّفينةَ لدَفعِ غَصبِها، فاستَدَلَّ به العُلماءُ على النَّظَرِ في المَصالحِ عِندَ تَعارُضِ الأُمورِ، وأنَّه إذا تَعارَضَت مَفسَدَتانِ دُفِعَ أعظَمُهما بارتِكابِ أخَفِّهما [1096] يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (15/144)، ((تفسير القاسمي)) (7/53). .
2- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ:
- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لولا أنَّ قَومَكِ حَديثو عَهدٍ بجاهليَّةٍ -أو قال: بكُفرٍ- لأنفَقتُ كَنزَ الكَعبةِ في سَبيلِ اللهِ، ولجَعَلتُ بابَها بالأرضِ، ولأدخَلتُ فيها مِنَ الحِجْرِ )) [1097] أخرجه مسلم (1333). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَكَ ذلك؛ خَشيةً مِن رُجوعِ النَّاسِ عنِ الإيمانِ إلى الكُفرِ، أو تَزَلزُلِ القُلوبِ عنه، أو لتَأليفِ القُلوبِ على الإسلامِ والدَّوامِ عليه [1098] يُنظر: ((العدة)) لابن العطار (2/1141). .
- وعن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: ((قَسَمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَسْمًا فقُلتُ: واللهِ يا رَسولَ اللهِ لغَيرُ هؤلاء كان أحَقَّ به مِنهم، قال: إنَّهم خَيَّروني أن يَسألوني بالفُحشِ، أو يُبَخِّلوني، فلستُ بباخِلٍ )) [1099] أخرجه مسلم (1056). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
فيه دَلالةٌ على ارتِكابِ أدنى المَفسَدَتَينِ مِن أجلِ دَفعِ أعلاهما، فكَأنَّه يَقولُ: إنَّهم يَسألونَني مَسألةً لا تَصلُحُ، فإن أعطيتُهم وإلَّا قالوا: هو بَخيلٌ، فقد خَيَّروني بَينَ أمرَينِ مَكروهَينِ لا يَترُكونَني مِن أحَدِهما: المَسألةُ الفاحِشةُ، أو نِسبَتي للبُخلِ، والتَّبخيلُ أشَدُّ؛ فأدفعُ الأشَدَّ بإعطائِهم [1100] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/266). .
3- مِنَ الإجماعِ:
فقد نُقِل الإجماعُ على مَضمونِ هذه القاعِدةِ، ومِمَّن نَقَله المَرداويُّ وغَيرُه [1101] قال: (إذا دارَ الأمرُ بَينَ دَرءِ إحدى المَفسَدَتَينِ، وكانت إحداهما أكثَرَ فسادًا مِنَ الأُخرى، فدَرءُ العُليا مِنهما أَولى مِن دَرءِ غَيرِها، وهذا واضِحٌ يَقبَلُه كُلُّ عاقِلٍ، واتَّفقَ عَليه أولو العِلمِ). ((التحبير)) (8/3851). ويُنظر أيضًا: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/447-448). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لو أنَّ امرَأةً إذا صَلَّت قائِمةً يَنكَشِفُ مِن عَورَتِها ما يَمنَعُ جَوازَ الصَّلاةِ، ولو صَلَّت قاعِدةً لا يَنكَشِفُ مِنها شَيءٌ، فإنَّها تُصَلِّي قاعِدةً؛ لأنَّ تَركَ القيامِ أهوَنُ [1102] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 76). .
2- يَجوزُ السُّكوتُ على المُنكَرِ إذا كان يَتَرَتَّبُ على إنكارِه ضَرَرٌ أعظَمُ، كَما تَجوزُ طاعةُ الأميرِ الجائِرِ إذا كان يَتَرَتَّبُ على الخُروجِ عليه شَرٌّ أعظَمُ [1103] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 201)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/232). .
3- مِمَّا يُشتَرَطُ لجَوازِ فِعلِ الجِراحةِ الطِّبِّيَّةِ ألَّا تَشتَمِلَ على ضَرَرٍ أكبَرَ مِن ضَرَرِ المَرَضِ الجِراحيِّ، فإنِ اشتَمَلت على ذلك حَرُمَ على الجَرَّاحِ فِعلُها؛ لِما فيه مِن تَعريضٍ لضَرَرٍ أكبَرَ، ووجَبَ على المَريضِ البَقاءُ على الضَّرَرِ الأخَفِّ، والامتِناعُ عن فِعلِ الجِراحةِ المُشتَمِلةِ على الإلقاءِ بالنَّفسِ إلى الهَلاكِ والتَّلفِ. ومِن أمثِلةِ هذا النَّوعِ مِنَ الجِراحةِ ما يَجري في عِلاجِ التَّحَدُّبِ الظَّهريِّ الحادِّ، فإنَّ الجِراحةَ المُتَعَلِّقةَ بهذا النَّوعِ مِنَ الآفاتِ التي تُصيبُ العَمودَ الفَقريَّ تَشتَمِلُ على ضَرَرٍ أكبَرَ مِنَ الضَّرَرِ المُتَرَتِّبِ على المَرَضِ نَفسِه. فالغالبُ في الجِراحةِ أنَّها تَنتَهي بالشَّلَلِ النِّصفيِّ [1104] يُنظر: ((أحكام الجراحة الطبية)) لمحمد بن المختار الشنقيطي (ص: 124). .

انظر أيضا: