المَطلبُ الثَّالثُ: كُلُّ ما ضَرَّ النَّفسَ والعَقلَ فالتَّداوي به حَرامٌ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ: "التَّداوي بالمُحَرَّماتِ غَيرُ جائِزٍ"
[993] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/63). ، وصيغةِ: "لا يَجوزُ التَّداوي بشَيءٍ مُحَرَّمٍ ولا بشَيءٍ فيه مُحَرَّمٌ"
[994] يُنظر: ((الشرح الكبير على المقنع)) لشمس الدين ابن قدامة (11/108)، ((الإقناع)) للحجاوي (4/314)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (14/306). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِجاءَتِ الشَّريعةُ بدَفعِ الضَّرَرِ عنِ الضَّروريَّاتِ الخَمسِ الشَّرعيَّةِ التي هيَ: حَفِظُ الدِّينِ، والنَّفسِ، والعَقلِ، والمالِ، والعِرضِ؛ فحَرَّمَتِ الشِّركَ، والقَتلَ، والخَمرَ، والسَّرِقةَ، والزِّنا
[995] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/464)، ((القواعد)) للحصني (1/335)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2142). .
ومِن هنا فإنَّ كُلَّ ما يَضُرُّ النَّفسَ والعَقلَ فلا يَجوزُ التَّداوي به؛ لأنَّ فيه اعتِداءً على هذه الضَّروريَّاتِ التي جاءَتِ الشَّريعةُ بحِمايَتِها والأمرِ بحِفظِها، ومِن هنا كان تَحريمُ التَّداوي بكُلِّ ما يَضُرُّ النَّفسَ والعَقلَ؛ لِما فيها مِن مَفاسِدَ، قال ابنُ القَيِّمِ: (المُعالجةُ بالمُحَرَّماتِ قَبيحةٌ عَقلًا وشَرعًا. أمَّا الشَّرعُ فما ذَكَرنا مِنَ الأحاديثِ وغَيرِها. وأمَّا العَقلُ فهو أنَّ اللَّهَ سُبحانَه إنَّما حَرَّمَه لخُبثِه، فإنَّه لم يُحَرِّمْ على هذه الأُمَّةِ طَيِّبًا عُقوبةً لها، كَما حَرَّمَه على بَني إسرائيلَ بقَولِه:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] . وإنَّما حَرَّمَ على هذه الأُمَّةِ ما حَرَّمَه لخُبثِه. وتَحريمُه له حِميةٌ لهم وصيانةٌ عن تَناوُلِه، فلا يُناسِبُ أن يُطلَبَ به الشِّفاءُ مِنَ الأسقامِ والعِلَلِ؛ فإنَّه وإن أثَّرَ في إزالتِها، لكِنَّه يُعقِبُ سَقَمًا أعظَمَ مِنه في القَلبِ بقوَّةِ الخُبثِ الذي فيه؛ فيَكونُ المُداوى به قد سَعى في إزالةِ سَقَمِ البَدَنِ بسَقَمِ القَلبِ... وأيضًا فإنَّه داءٌ كَما نَصَّ عليه صاحِبُ الشَّريعةِ، فلا يَجوزُ أن يُتَّخَذَ دَواءً)
[996] ((زاد المعاد)) (4/223). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ ما يَضُرُّ النَّفسَ والعَقل تَجِبُ إزالتُه، فلا يَجوزُ التَّداوي به.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قَولُ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى أخبَرَ في هذه الآيةِ أنَّ الخَمرَ والمَيسِرَ والأنصابَ والأزلامَ رِجسٌ، وأمَر باجتِنابِها، واجتِنابُها عامٌّ في كُلِّ الأحوالِ في البَيعِ والشِّراءِ والتَّداوي والشُّربِ
[997] يُنظر: ((البيوع المحرمة)) لعبد الناصر ميلاد (ص: 220). .
قال القُرطُبيُّ: (قَولُه:
فَاجْتَنِبُوهُ يَقتَضي الاجتِنابَ المُطلَقَ الذي لا يُنتَفَعُ مَعَه بشَيءٍ بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ، لا بشُربٍ ولا بَيعٍ ولا تَخليلٍ ولا مُداواةٍ ولا غَيرِ ذلك)
[998] ((تفسير القرطبي)) (6/289). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الدَّواءِ الخَبيثِ )) [999] أخرجه أبو داود (3870)، والترمذي (2045)، وابن ماجه (3459). قَوَّى إسنادَه شُعَيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (12/140)، وقال الذهبي في ((المهذب في اختصار السنن)) (8/3966): إسنادُه صالحٌ. وذَهَبَ إلى تَصحيحِه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (8480) وقال: على شَرطِ الشَّيخَينِ، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3870). .
والحَديثُ صَريحٌ في النَّهيِ عنِ التَّداوي بكُلِّ خَبيثٍ، ولا يخفى أنَّ الخَبيثَ ضارٌّ.
- وعن وائِلِ بنِ حُجرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ عنِ الخَمرِ:
((إنَّه ليسَ بدَواءٍ، ولكِنَّه داءٌ )) [1000] أخرجه مسلم (1984). .
والحَديثُ يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على مَنعِ التَّداوي بالخَمرِ، وأنَّها ليسَت بدَواءٍ
[1001] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/347)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/571). .
3- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بأدِلَّةِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- يَحرُمُ شُربُ الخَمرِ للعَطَشِ وللتَّداوي؛ لأنَّ شُربَها لا يَدفعُ العَطَشَ بَل يَزيدُه، وإن سَكَّنَه في الحالِ؛ لأنَّها تَروي في الحالِ، ثُمَّ تُثيرُ عَطَشًا شَديدًا، ولأنَّ اللَّهَ سَلَب الخَمرَ مَنافِعَها عِندَما حَرَّمَها، وتَحريمُها مَقطوعٌ به، وحُصولُ الشِّفاءِ بها مَظنونٌ، فلا يَقوى على إزالةِ المَقطوعِ. ومَحَلُّ ذلك إذا لم يَنتَهِ به الأمرُ إلى الهَلاكِ، وإلَّا فيَتَعَيَّنُ شُربُها، كَما يَتَعَيَّنُ على المُضطَرِّ أكلُ المَيْتةِ
[1002] يُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/571)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/170)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (5/518). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ في هذا الدَّواءِ المُحَرَّمِ مِنَ الأدواءِ ما يَزيدُ على ما يُظَنُّ فيه مِنَ الشِّفاءِ. ولنَفرِضِ الكَلامَ في أُمِّ الخَبائِثِ التي ما جَعَل اللهُ لنا فيها شِفاءً قَطُّ)
[1003] ((زاد المعاد)) (4/224). .
2- لا يَجوزُ التَّداوي بالزِّنا؛ فإنَّه ليسَ بدَواءٍ
[1004] يُنظر: ((اللباب في الفقه الشافعي)) لابن المحاملي (ص: 390). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِاستِثنَاءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ؛ مِنها:
1- يَجوزُ التَّداوي بالنَّجاساتِ إذا لم يَجِدْ طاهرًا يَقومُ مَقامَها؛ تَحصيلًا لأعلى المَصلحَتَينِ أو دَفعًا لأعظَمِ المَفسَدَتَينِ؛ لأنَّ مَصلَحةَ العافيةِ والسَّلامةِ أكمَلُ مِن مَصلحةِ اجتِنابِ النَّجاسةِ
[1005] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/95). ويُنظر أيضًا: ((القواعد)) للحصني (1/347). .
2- يَجوزُ لُبسُ الحَريرِ عِندَ الحِكَّةِ؛ للحاجةِ
[1006] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (1/204)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/175)، ((المنثور)) للزركشي (2/65). ؛ فقد رَخَّصَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ، والزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ في لُبسِ قَميصِ الحَريرِ للحِكَّةِ التي كانت بهما
[1007] لفظُه: عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَخَّصَ لعَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ والزُّبَيرِ في قَميصٍ مِن حَريرٍ؛ مِن حِكَّةٍ كانت بهما)). أخرجه البخاري (2919) واللَّفظُ له، ومسلم (2076). .