المَطلبُ الرَّابعُ: لا يُعتَبَرُ الضَّرَرُ المَوهومُ تِجاهَ الضَّرَرِ المُحَقَّقِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "لا يُعتَبَرُ الضَّرَرُ المَوهومُ تِجاهَ الضَّرَرِ المُحَقَّقِ"
[1008] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/749). ، وصيغةِ: "لا يلتَزمُ ضَرَرُ المُتَحَقِّقِ لدَفعِ ضَرَرٍ مَوهومٍ"
[1009] يُنظر: ((البناية)) للعيني (11/283). ، وصيغةِ: "لا يَجوزُ الإضرارُ المُحَقَّقُ بقَطعِه لضَرَرٍ مُتَوهَّمٍ"
[1010] يُنظر: ((عجالة المحتاج)) لابن الملقن (2/764)، ((بداية المحتاج)) لابن قاضي شهبة (2/144). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِلا يُلتَفتُ إلى الضَّرَرِ المَوهومِ، بَل يُتَحَمَّلُ مِن أجلِ دَفعِ الضَّرَرِ المُحَقَّقِ؛ إذ إنَّ دَرءَ الضَّرَرِ المُحَقَّقِ مُقدَّمٌ على دَرءِ الضَّرَرِ المُحتَمَلِ الوُقوعِ
[1011] يُنظر: ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (4/1/175). ؛ لأنَّ تَحَمُّلَ الضُّرِّ المُتَحَقِّقِ الوُقوعِ لدَفعِ ضَرَرٍ مَوهومٍ أمرٌ لم يَرِدْ به الشَّرعُ
[1012] يُنظر: ((كنز الدقائق)) للنسفي (ص: 550)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/128). ، كَما أنَّ فِعلَ أعظَمِ المَضارِّ على سَبيلِ القَطعِ حَذَرًا مِن ضَرَرٍ مَوهومٍ لا شَكَّ أنَّه سَفاهةٌ
[1013] يُنظر: ((اللباب)) لابن عادل (8/466). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ الضَّرَرَ المُحَقَّقَ مَقطوعٌ بوُقوعِه، فلا يَجوزُ الوُقوعُ فيه مِن أجلِ دَفعِ ضَرَرٍ مَوهومٍ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:قال اللهُ تعالى:
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام: 140] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَتلَ الوَلَدِ كان للخَوفِ مِنَ الفقرِ، والفقرُ وإن كان ضَرَرًا إلَّا أنَّ القَتلَ أعظَمُ مِنه، وأيضًا فهذا القَتلُ ضَرَرٌ مُحَقَّقٌ، وذلك الفَقرُ مَوهومٌ، والتِزامُ أعظَمِ المَضارِّ على سَبيلِ القَطعِ حَذَرًا من ضَرَرٍ مَوهومٍ لا شَكَ أنَّه سَفاهةٌ، وهذه السَّفاهةُ إنَّما تَولَّدَت مِن عَدَمِ العِلمِ بأنَّ اللَّهَ رازِقٌ أولادَهم
[1014] يُنظر: ((اللباب)) لابن عادل (8/466)، ((شرح القسطلاني لصحيح البخاري)) (6/18). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عَنْ أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ:
((إذا سَمِعتُم بالطَّاعونِ بأرضٍ فلا تَدخُلوها، وإذا وقَعَ بأرضٍ وأنتُم بها فلا تَخرُجوا مِنها )) [1015] أخرجه البخاري (5728) واللفظ له، ومسلم (2218). .
وَجهُ الدَّلالةِ:الحَديثُ ظاهِرٌ في أنَّ عِلَّةَ النَّهيِ عنِ الإقدامِ على أرضِ الوَباءِ هو الحَذَرُ مِنَ العَدوى. أمَّا النَّهيُ عنِ الخُروجِ مِن بَلَدِ الوباء فِرارًا مِنه، فمَحمولٌ على الكَراهةِ، فلو خَرَجَ إنسانٌ مِنَ البَلدِ التي ضَرَبَ فيها الطَّاعونُ قاصِدًا الفِرارَ مِنَ الإصابةِ به، لأتى شَيئًا مَكروهًا.
وعِلَّةُ النَّهيِ عنِ الفِرارِ مِنَ الطَّاعونِ هيَ فيما يَظهَرُ: أنَّ الإذنَ في الخُروجِ قد يَفتَحُ البابَ لأن يَخرُجَ الأصِحَّاءُ، ويُترَكَ المَرضى به، فلا يَجِدُ هؤلاء المَرضى مَن يَتَعَهَّدُهم، ويَقومُ على أمرِهم؛ مِن نَحوِ طَعامٍ وسِقاءٍ وعِلاجٍ، وليسَ مِنَ المَقبولِ أن يَقولَ قائِلٌ: إنَّ هؤلاء المَرضى قد أُصيبوا، ووقَعوا بمَقرُبةٍ مِنَ المَوتِ، فإهمالُهم أخَفُّ شَرًّا مِن بَقاءِ الأصِحَّاءِ بمَوطِنٍ فيه المَرَضُ المُفضي في غالِبِ أحوالِه إلى المَوتِ. فالرَّدُّ على ذلك: بأنَّ هَلاكَ المَرضى بخُروجِ الأصِحَّاءِ مُحَقَّقٌ، وإصابةُ الأصِحَّاءِ وهَلاكُهم مَظنونٌ، ودَرءُ الضَّرَرِ المُحَقَّقِ مُقدَّمٌ على دَرءِ الضَّرَرِ المُحتَمَلِ الوُقوعِ
[1016] يُنظر: ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (4/1/175). .
3- مِنَ القَواعِدِيُستَدَلُّ لها بأدِلَّةِ القاعِدةِ الأُمِّ: (الضَّرَرُ يُزالُ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- يَصِحُّ استِئجارُ مُرضِعةٍ دونَ أن يُمنَعَ زَوجُها مِن وَطئِها، وإن كان الزَّوجُ قد رَضيَ بالإجارةِ، فلو أرادوا مَنعَه مِن غِشيانِها مَخافةَ الحَملِ فليسَ لهم ذلك؛ لأنَّ هذا ضَرَرٌ مَوهومٌ، والمَنعُ مِنَ الوطءِ ضَرَرٌ مُحَقَّقٌ، وتَحَمُّلُ الضُّرِّ النَّاجِزِ لدَفعِ ضَرَرٍ مَوهومٍ أمرٌ لم يَرِدْ به الشَّرعُ
[1017] يُنظر: ((كنز الدقائق)) للنسفي (ص: 550)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/128)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/53). .
2- إذا لم يَبقَ بالبَلدِ إلَّا مَطعونٌ، وافتَقَروا لمُتَعَهِّدٍ وقَدِمَ عليهم: لم يُنهَ عنِ الدُّخولِ، بَل يُندَبُ؛ للإعانةِ، ولأنَّه يُعرَّضُ لضَرَرٍ مَوهومٍ على رَجاءِ دَفعِ ضَرَرٍ عن بَقيَّةِ المُسلِمينَ
[1018] يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (4/286). .
3- لا يُكرَهُ استِطبابُ أهلِ الذِّمَّةِ ضَرورةً، أي: لأجلِ الضَّرورةِ؛ لأنَّ الحاجةَ داعيةٌ إليه، ولأنَّ إدخالَ الضَّرَرِ مِنِ استِطبابِه مُتَوهَّمٌ، والعِلَّةُ مَعلومةٌ، فلا يُمتَنَعُ مِنِ اتِّخاذِ ما يُزيلُ المَعلومَ مِنَ الضَّرَرِ بخَوفِ إدخالِ ضَرَرٍ مُتَوهَّمٍ
[1019] يُنظر: ((غذاء الألباب)) للسفاريني (2/20). .