موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الحادي والعِشرونَ: الغالبُ كالمُحَقَّقِ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الغالبُ كالمُحَقَّقِ" [510] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (4/74)، ((التوضيح)) لخليل (3/201)، ((المختصر الفقهي)) لابن عرفة (4/207)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/138)، ((شرح المنهج المنتخب)) للمنجور (1/110). وصَرَّحَ المقري باشتِهارِ القاعِدةِ في مَذهَبِ المالكيَّةِ، فقال: (قاعِدةٌ: المَشهورُ مِن مَذهَبِ مالكٍ أنَّ الغالِبَ مُساوٍ للمُحَقَّقِ في الحُكمِ). ((القواعد)) (1/241). ، وصيغةِ: "غَلَبةُ الظَّنِّ كاليَقينِ" [511] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد (1/286)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/342)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/441)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (4/337). ، وصيغةِ: "الشَّيءُ إذا غَلبَ عليه وجودُه يُجعَلُ كالمَوجودِ حَقيقةً" [512] يُنظر: ((تأسيس النظر)) للدبوسي (ص: 56). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
غالبُ الظَّنِّ عِندَ الفُقَهاءِ مُلحَقٌ باليَقينِ، وتُبنى عليه الأحكامُ العَمَليَّةُ، ويَجِبُ العَمَلُ به إذا لم يوجَدْ دَليلٌ قاطِعٌ مِنَ النُّصوصِ، ولا مُعارِضَ له أرجَحُ مِنه، ومَن لم يَعمَلْ بغَلبةِ الظَّنِّ عَطَّل كَثيرًا مِنَ الأحكامِ؛ حَيثُ إنَّنا لو فرَضنا الأخذَ باليَقينِ دائِمًا لتَعَطَّلت مَصالحُ المُسلمينَ، ولما أمكَنَ دَرءُ المَفاسِدِ [513] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/865). .
قال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (الاعتِمادُ في جَلبِ مُعظَمِ مَصالحِ الدَّارَينِ ودَرءِ مَفاسِدِهما على ما يَظهَرُ في الظُّنونِ. وللدَّارَينِ مَصالِحُ إذا فاتَت فسَدَ أمرُهما، ومَفاسِدُ إذا تَحَقَّقَت هَلكَ أهلُهما، وتَحصيلُ مُعظَمِ هذه المَصالحِ بتَعاطي أسبابِها مَظنونٌ غَيرُ مَقطوعٍ به؛ فإنَّ عُمَّالَ الآخِرةِ لا يَقطَعونَ بحُسنِ الخاتِمةِ وإنَّما يَعمَلونَ بناءً على حُسنِ الظُّنونِ، وهم مَعَ ذلك يَخافونَ ألَّا يُقبَلَ مِنهم ما يَعمَلونَ، وقد جاءَ التَّنزيلُ بذلك في قَولِه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60] ، فكذلك أهلُ الدُّنيا إنَّما يَتَصَرَّفونَ بناءً على حُسنِ الظُّنونِ، وإنَّما اعتمدَ عليها لأنَّ الغالبَ صِدقُها عِندَ قيامِ أسبابها؛ فإنَّ التُّجَّارَ يُسافِرونَ على ظَنِّ أنَّهم يَستَعمِلونَ بما به يَرتَفِقونَ، والأكَّارون يَحرُثونَ ويَزرَعونَ بناءً على أنَّهم مُستَغِلُّونَ، والجَمَّالونَ والبَغَّالونَ يَتَصَدَّرونَ للكِراءِ لعَلَّهم يُستأجَرون، والمُلوكُ يُجَنِّدونَ الأجنادَ ويُحَصِّنونَ البلادَ بناءً على أنَّهم بذلك يَنتَصِرونَ، وكذلك يَأخُذُ الأجنادُ الحَذَرَ والأسلِحةَ على ظَنِّ أنَّهم يَغلِبونَ ويَسلَمونَ، والشُّفَعاءُ يَشفَعونَ على ظَنِّ أنَّهم يُشَفَّعونَ، والعُلماءُ يَشتَغِلونَ بالعُلومِ على ظَنِّ أنَّهم يَنجَحونَ ويَتَمَيَّزونَ.
وكذلك النَّاظِرونَ في الأدِلَّةِ والمُجتَهدونَ في تَعَرُّفِ الأحكامِ يَعتَمِدونَ في الأكثَرِ على ظَنِّ أنَّهم يَظفَرونَ بما يَطلُبونَ، والمَرضى يَتَداوَونَ لعَلَّهم يَشفونَ ويبرؤون.
ومُعظَمُ هذه الظُّنونِ صادِقٌ موافِقٌ غَيرُ مُخالفٍ ولا كاذِبٍ، فلا يَجوزُ تَعطيلُ هذه المَصالحِ الغالبةِ الوُقوعِ خَوفًا مِن نُدورِ وكَذِبِ الظُّنونِ، ولا يَفعَلُ ذلك إلَّا الجاهِلونَ) [514] ((قواعد الأحكام)) (1/4). .
وقال القَرافيُّ: (قاعِدةٌ: الأصلُ ألَّا تُبنى الأحكامُ إلَّا على العِلمِ؛ لقَولِه تعالى وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ لكِن دَعَتِ الضَّرورةُ للعَمَلِ بالظَّنِّ لتَعَذُّرِ العِلمِ في أكثَرِ الصُّورِ، فتَثبُتُ عليه الأحكامُ؛ لنُدرةِ خَطَئِه وغَلَبةِ إصابَتِهـ) [515] ((الذخيرة)) (1/177). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عن قاعِدةِ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها اعتِبارُ غالِبِ الظَّنِّ في حُكمِ اليَقينِ في وُجوبِ العَمَلِ به وبناءِ الأحكامِ عليه.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة: 282] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الآيةُ تَدُلُّ على جَوازِ الاجتِهادِ والاستِدلالِ بالأماراتِ والعَلاماتِ على ما خَفِيَ مِنَ المَعاني والأحكامِ؛ فإنَّ الحُكمَ بعَدالةِ الشَّاهِدِ طَريقُه العِلمُ الظَّاهِرُ دونَ المَغيبِ الذي لا يَعلمُه إلَّا اللهُ تعالى، وهذا أصلٌ كَبيرٌ في الدَّلالةِ على صِحَّةِ القَولِ باجتِهادِ الرَّأيِ في أحكامِ الحَوادِثِ؛ إذ كانتِ الشَّهاداتُ مِن مَعالمِ أُمورِ الدِّينِ والدُّنيا، وقد عُقِدَ بها مَصالِحُ الخَلقِ في وثائِقِهم وإثباتِ حُقوقِهم وأملاكِهم وإثباتِ الأنسابِ والدِّماءِ والفُروجِ، وهيَ مَبنيَّةٌ على غالِبِ الظَّنِّ وأكثَرِ الرَّأيِ؛ إذ لا يُمكِنُ أحَدًا مِنَ النَّاسِ إمضاءُ حُكمٍ بشَهادةِ شُهودٍ مِن طَريقِ حَقيقةِ العِلمِ بصِحَّةِ المَشهودِ به، وفيما تَعبَّدَنا اللَّهُ به في هذه الآيةِ مِنِ اعتِبارِ أحوالِ الشُّهودِ بما يَغلِبُ في الظَّنِّ مِن عَدالتِهم وصَلاحِهم دَلالةٌ على بُطلانِ قَولِ نُفاةِ القياسِ والاجتِهادِ في الأحكامِ التي لا نُصوصَ فيها ولا إجماعَ؛ لأنَّ الدِّماءَ والفُروجَ والأموالَ والأنسابَ مِنَ الأُمورِ التي قد عُقِدَ بها مَصالِحُ الدِّينِ والدُّنيا، وقد أمَرَ اللهُ فيها بقَبولِ شَهادةِ الشُّهودِ الذينَ لا نَعلمُ مَغيبَ أُمورِهم، وإنَّما نَحكُمُ بشَهاداتِهم بغالِبِ الظَّنِّ وظاهرِ أحوالِهم، مَعَ تَجويزِ الكَذِبِ والخَطَأِ والزَّلَلِ والسَّهوِ عليهم؛ فثَبَتَ بذلك تَجويزُ الاجتِهادِ، واستِعمالُ غَلبةِ الرَّأيِ فيما لا نَصَّ فيه مِن أحكامِ الحَوادِثِ ولا إجماعَ [516] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/616)، ((تفسير القرطبي)) (3/396). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- حَديثُ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَقولوا: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، فإذا قالوا: لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، عَصَموا مِنِّي دِماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّها، وحِسابُهم على اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأ: إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)) [517] أخرجه مسلم (21). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه: ((وحِسابُهم على اللهِ)) يَدُلُّ على قَبولِ الأعمالِ الظَّاهرةِ والحُكمِ بما يَقتَضيه الظَّاهرُ، وفيه دَليلٌ على أنَّ أُمورَ النَّاسِ في مُعامَلةِ بَعضِهم بَعضًا إنَّما تَجري على الظَّاهرِ مِن أحوالهم دونَ باطِنِها، وأنَّ مَن أظهَرَ شِعارَ الدِّينِ أُجري عليه حُكمُه، ولم يُكشَفْ عن باطِنِ أمرِه [518] يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (1/70)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/77)، ((عمدة القاري)) للعيني (1/182). .
- وعن أُمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَمِعَ خُصومةً ببابِ حُجرَتِه، فخَرَجَ إليهم فقال: ((إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّه يَأتيني الخَصمُ، فلعَلَّ بَعضَكُم أن يَكونَ أبلَغَ مِن بَعضٍ فأحسِبُ أنَّه صادِقٌ فأقضي له بذلك، فمَن قَضَيتُ له بحَقِّ مُسلمٍ فإنَّما هيَ قِطعةٌ مِنَ النَّارِ فليَأخُذْها أو ليَترُكْها )) [519] أخرجه البخاري (7181) واللفظ له، ومسلم (1713). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَرَّحَ بأنَّه يَبني حُكمَه القَضائيَّ على ظاهرِ ما يَقومُ مِن حُجَّةٍ، وإن كانت قد تَكونُ مُخالِفةً لواقِعِ الأمرِ. وقد عَلَّل حُكمَه بالظَّاهرِ وإن لم يُطابِقْ واقِعَ الأمرِ بكَونِه بَشَرًا، أي: لا يَعلمُ الغَيبَ؛ فدَلَّ على أنَّه لم يَمنَعْه مِنَ العَمَلِ باليَقينِ الذي هو الأصلُ هنا إلَّا عَدَمُ قُدرَتِه على ذلك لصِفتِه البَشَريَّةِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكذلك قَولُه: ((فإنَّما أقضي له بقِطعةٍ مِنَ النَّارِ)) فمَعناه أنَّ المَطلوبَ هو موافَقةُ الباطِنِ، لكِن لمَّا تَعَذَّرَ ذلك أُقيمَ الظَّنُّ الغالِبُ مَقامَه [520] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/639). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أمثِلةٌ كَثيرةٌ؛ مِنها:
1- إذا نامَ المُتَوضِّئُ جالسًا مُمكِنًا مَقعَدَتَه مِنَ الأرضِ لم يَنتَقِضْ وُضوؤه، وإلَّا انتَقَضَ، سَواءٌ قَلَّ أو كَثُرَ، سَواءٌ كان في الصَّلاةِ أو خارِجَها، وهذا مَذهَبُ الشَّافِعيِّ، وعِندَه أنَّ النَّومَ ليسَ حَدَثًا في نَفسِه، وإنَّما هو دَليلٌ على خُروجِ الرِّيحِ، فإذا نامَ غَيرَ مُمكِنٍ المَقعَدةَ غَلبَ على الظَّنِّ خُروجُ الرِّيحِ؛ فجَعَل الشَّرعُ هذا الغالِبَ كالمُحَقَّقِ، وأمَّا إذا كان مُمكِنًا فلا يَغلِبُ على الظَّنِّ الخُروجُ، والأصلُ بَقاءُ الطَّهارةِ [521] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (4/73)، ((الكواكب الدراري)) للكرماني (3/62)، ((التوضيح)) لابن الملقن (4/384). .
2- مَن عَدِمَ الماءَ يَجوزُ له التَّيَمُّمُ، وعَدَمُ الماءِ يَتَحَقَّقُ بأمرَينِ:
الأوَّلُ: بيَقينٍ يُقطَعُ به بعَدَمِ وُجودِ الماءِ، وهذا بلا إشكالٍ يُعتَبَرُ مُبيحًا للتَّيَمُّمِ.
والثَّاني: أن يَغلبَ على ظَنِّه الفقدُ، بمَعنى: أن يَكونَ احتِمالُ وُجودِ الماءِ ضَئيلًا، فإذا كان احتِمالُ وُجودِ الماءِ ضَئيلًا فإنَّ العِبرةَ بغالِبِ ظَنِّه لا بنادِرِه؛ لأنَّ أحكامَ الشَّريعةِ مَبنيَّةٌ على الغالِبِ لا على النَّادِرِ، ومِن قَواعِدِها: "الغالبُ كالمُحَقَّقِ"، و "النَّادِرُ لا حُكمَ له"، فلمَّا كان غالِبُ ظَنِّك أنَّ الماءَ غَيرُ مَوجودٍ في هذا المَوضِعِ، أو في هذا المَكانِ؛ فإنَّه يُعتَبَرُ كَأنَّك قَطَعتَ بعَدَمِ وُجودِه، فيُنَزَّلُ غالبُ ظَنِّك مَنزِلةَ اليَقينِ بعَدَمِ الوُجودِ. وبناءً على ذلك تَستَبيحُ التَّيَمُّمَ باليَقينِ، وبغَلبةِ الظَّنِّ [522] يُنظر: ((شرح زاد المستقنع)) لمحمد بن المختار الشنقيطي (ص: 316). .
3- لا بُدَّ للشَّهادةِ مِن مُستَنَدٍ، والأصلُ فيه العِلمُ بالمَشهودِ به؛ قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] ، وقال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 86] ، وقد يَقومُ الظَّنُّ المُؤَكَّدُ مَقامَ العِلمِ للحاجةِ مِنَ المَشهودِ به ما يَكفي في الإبصارِ بغَيرِ سَمعٍ، وهو الفِعلُ وما في مَعناه، كَزِنًا وسَرِقةٍ ووِلادةٍ، وكَونِ المالِ بيَدِ فُلانٍ، ومِنه ما يَحتاجُ إليهما، وهو القَولُ، كالعَقدِ والفَسخِ والإقرارِ، ومِنه ما يَكفي فيه السَّمعُ، وهو ما يَشهَدُ فيه بالتَّسامُعِ [523] يُنظر: ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (5/249). .
4- تَجوزُ عَمَليَّاتُ الجِراحةِ الطِّبِّيَّةِ إذا غَلبَ على ظَنِّ الطَّبيبِ الجَرَّاحِ نَجاحُ الجِراحةِ، بمَعنى أن تَكونَ نِسبةُ نَجاحِ العَمَليَّةِ ونَجاةِ المَريضِ مِن أخطارِها أكبَرَ مِن نِسبةِ عَدَمِ نَجاحِها وهَلاكِه، وبناءً على ذلك فإنَّه إذا غَلبَ على ظَنِّه هَلاكُ المَريضِ بسَبَبها فإنَّه لا يَجوزُ له فِعلُها، فالجِراحاتُ الطِّبِّيَّةُ تَختَلفُ نِسَبُ نَجاحِها بحَسَبِ اختِلافِ دَرَجاتِ الخُطورةِ المَوجودةِ فيها، وبحَسَبِ اختِلافِ الجَرَّاحينَ أنفُسِهم مِن حَيثُ المَهارةُ وطولُ التَّجرِبةِ.
ويُعتَبَرُ الطَّبيبُ الجَرَّاحُ هو المَرجِعَ في الحُكمِ بغَلبةِ الظَّنِّ بسَلامةِ المَريضِ مِن أخطارِ الجِراحةِ أو عَدَمِها، فهو الذي يَقومُ بالنَّظَرِ في نَوعيَّةِ الجِراحةِ المُقَرَّرةِ، ودَرَجةِ خُطورَتِها، وقُدرةِ تَحمُّلِ المَريضِ لأخطارِها، ثُمَّ بَعدَ ذلك يَحكُمُ بما يُؤَدِّيه إليه نَظَرُه واجتِهادُه.
وإنَّما اعتَبَرَ الشَّرعُ غَلَبةَ الظَّنِّ بسَلامةِ المَريضِ؛ لأنَّها في حُكمِ اليَقينِ، فالشَّيءُ الغالِبُ كالمُحَقَّقِ حُكمًا، ومِن ثَمَّ فإنَّه لا يَنبَغي للطَّبيبِ الجَرَّاحِ أن يَلتَفِتَ إلى النِّسبةِ الضَّعيفةِ التي تُقابِلُ النِّسبةَ الرَّاجِحةَ؛ لأنَّها لا تَقوى على مُعارَضَتِها فلا يُلتَفَتُ إليها، ولو ذَهَبنا نَعتَبِرُ هذه النِّسَبَ الضَّعيفةَ لتَعَطَّلت مَصالحُ الدَّارينِ، ولما أمكَنَنا دَرءُ مَفاسِدِهما [524] يُنظر: ((أحكام الجراحة الطبية)) لمحمد بن المختار الشنقيطي (ص: 117). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ التي يَجِبُ الأخذُ فيها باليَقينِ، ولا يُكتَفى فيها بغَلبةِ الظَّنِّ، ومِنها:
1- لا يُلتَفَتُ إلى غَلبةِ الظَّنِّ إذا أمكَنَ اليَقينُ بلا مَشَقَّةٍ، كالمَكِّيّ الذي يَقدِرُ على استِقبالِ عَينِ الكَعبةِ، فلا يَصِحُّ مِنه الاجتِهادُ بغَلبةِ الظَّنِّ [525] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/866)، ((موسوعة أحكام الطهارة)) للدبيان (7/236). .
2- إذا وقَعَتِ النَّجاسةُ في مائِعٍ، وإذا خَفيَ مَوضِعُ نَجاسةٍ في بَدَنٍ أو ثَوبٍ أو مُصَلًّى صَغيرٍ، كَبَيتٍ صَغيرٍ: لزِمَه غَسلُ ما يَتَيَقَّنُ به إزالتَها، فلا يَكفي الظَّنُّ؛ لأنَّه اشتَبَهَ الطَّاهرُ بالنَّجِسِ، فوجَبَ عليه اجتِنابُ الجَميعِ، حتَّى يَتَيَقَّنَ الطَّهارةَ بالغَسلِ. كَما لو خَفِيَ المُذَكَّى بالمَيِّتِ. ولأنَّ النَّجاسةَ مُتَيَقَّنةٌ، فلا تَزولُ إلَّا بيَقينِ الطَّهارةِ. وأمَّا إذا كان في صَحراءَ واسِعةٍ ونَحوِها يُصَلِّي فيها بلا غَسلٍ ولا تَحَرٍّ، فيُصَلِّي حَيثُ شاءَ؛ لئَلَّا يُفضيَ إلى الحَرَجِ والمَشَقَّةِ [526] يُنظر: ((الإقناع)) للمقدسي (1/61)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/445). .
3- لا يَثبُتُ حُكمُ الرَّضاعِ إلَّا بَعدَ العِلمِ بعَدَدِ الرَّضَعاتِ، ولا يَكفي الظَّنُّ، بَل يَرجِعُ مَعَه ومَعَ الشَّكِّ إلى الأصلِ، وهو العَدَمُ [527] يُنظر: ((نيل الأوطار)) للشوكاني (12/618). .
فائِدةٌ:
لمَّا كان الغالِبُ كالمُحَقَّقِ، كَما في هذه القاعِدةِ، فإنَّ التَّكليفَ باعتِبارِ المَصالحِ والمَفاسِدِ شَرعًا إنَّما يَكونُ بناءً على الغالِبِ مِنها عِندَ مُقارَنَتِها بالأُخرى؛ حَيثُ يَكونُ الغالِبُ مِنها كالمُحَقَّقِ في حُكمِ الأخذِ به؛ ولذلك قال الشَّاطِبيُّ: (وأمَّا النَّظَرُ الثَّاني فيها مِن حَيثُ تَعَلُّقُ الخِطابِ شَرعًا، فالمَصلحةُ إذا كانت هيَ الغالبةَ عِندَ مُناظَرَتِها مَعَ المَفسَدةِ في حُكمِ الاعتيادِ فهيَ المَقصودةُ شَرعًا، ولتَحصيلِها وقَعَ الطَّلبُ على العِبادِ؛ ليَجريَ قانونُها على أقومِ طَريقٍ وأهدى سَبيلٍ، وليَكونَ حُصولُها أتَمَّ وأقرَبَ وأَولى بنَيلِ المَقصودِ على مُقتَضى العاداتِ الجاريةِ في الدُّنيا، فإن تَبعَها مَفسَدةٌ أو مَشَقَّةٌ فليسَت بمَقصودةٍ في شَرعيَّةِ ذلك الفِعلِ وطَلَبِه. كذلك المَفسَدةُ إذا كانت هيَ الغالِبةَ بالنَّظَرِ إلى المَصلحةِ في حُكمِ الاعتيادِ فرَفعُها هو المَقصودُ شَرعًا، ولأجلِه وقَعَ النَّهيُ؛ ليَكونَ رَفعُها على أتَمِّ وُجوهِ الإمكانِ العاديِّ، فيُمَثِّلُها حَسَبَما يَشهَدُ له كُلُّ عَقلٍ سَليمٍ، فإن تَبِعَتها مَصلحةٌ أو لذَّةٌ فليسَت هيَ المَقصودةَ بالنَّهيِ عن ذلك الفِعلِ، بَل المَقصودُ ما غَلبَ في المَحَلِّ، وما سِوى ذلك مُلغًى في مُقتَضى النَّهيِ، كَما كانت جِهةُ المَفسَدةِ مُلغاةً في جِهةِ الأمرِ) [528] ((الموافقات)) (2/46). .

انظر أيضا: