موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الأوَّلُ: ما يُفعَلُ مِنَ العِباداتِ في حالِ الشَّكِّ لا على وَجهِ الاحتياطِ مِن غَيرِ أصلٍ يُرَدُّ إليه، ولا يَكونُ مَأمورًا به، فإنَّه لا يُجزِئُ وإن وافقَ الصَّوابَ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ: "ما يُفعَلُ مِنَ العِباداتِ في حالِ الشَّكِّ مِن غَيرِ أصلٍ يُرَدُّ إليه، ولا يَكونُ مَأمورًا به، فإنَّه لا يُجزِئُ وإن وافقَ الصَّوابَ" [230] ((الأشباه والنظائر)) لابن الوكيل (ص: 181). .
ومِنَ الصِّيَغِ أيضًا: "ما أتى به المُكَلَّفُ في حالِ الشَّكِّ لا على وَجهِ الاحتياطِ، ولا لامتِثالِ الأمرِ، فوافقَ الصَّوابَ في نَفسِ الأمرِ، فإنَّه لا يُجزِئُ؛ لأجلِ اشتِراطِ الجَزمِ بالنِّيَّةِ" [231] ((المجموع المذهب)) للعلائي (1/53)، ((المنثور)) للزركشي (2/271)، ((القواعد)) للحصني (1/239). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
النِّيَّةُ مَعناها القَصدُ، وهو لا يُؤَثِّرُ إلَّا إذا كان المُكَلَّفُ جازِمًا بالمَقصودِ بصِفتِه الخاصَّةِ، وإلَّا لم يَكُنْ قَصدًا، فإذا فعَل العِبادةَ في حالِ الشَّكِّ، ثُمَّ تَبَيَّنَ له بَعدَ الانتِهاءِ أنَّه قد وافقَ الصَّوابَ، ففِعلُه غَيرُ صَحيحٍ، ولا يُعتَدُّ به؛ لعَدَمِ الجَزمِ [232] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/239). .
ولا يُشتَرَطُ في الجَزمِ حُصولُ القَطعِ، بَل يَكفي ظَنٌّ غالِبٌ لا اعتِبارَ مَعَه بالاحتِمالِ [233] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/63)، ((نواضر النظائر)) لابن الملقن (1/138). .
ويَتَّضِحُ مِن سياقِ القاعِدةِ أنَّ عَدَمَ الإجزاءِ لفِعلٍ إنَّما يَكونُ في حالتَينِ:
الأولى: أن يَفعَلَه المُكَلَّفُ لا على وَجهِ الاحتياطِ.
والثَّانيةُ: أن يَفعَلَه مِن تِلقاءِ نَفسِه وليسَ امتِثالًا لأمرِ الشَّارِعِ.
وجُملةُ: (لا على وَجهِ الاحتياطِ) احتِرازٌ عَمَّا إذا أتى به على وَجهِ الاحتياطِ، كَما إذا كان مُحدِثًا، وشكَّ هَل تَوضَّأ أم لا، فتَوضَّأ احتياطًا، ثُمَّ بانَ أنَّه مُحدِثٌ، فإنَّه يَصِحُّ وضوؤُه؛ لأنَّ الأصلَ بَقاءُ الحَدَثِ، فلا يَضُرُّ التَّرَدُّدُ مَعَه.
وكَذا إذا نَسيَ صَلاةً مِنَ الخَمسِ، ولم يَعرِفْ عَينَها، فصَلَّى الصَّلواتِ الخَمسَ، مَعَ عَدَمِ الجَزمِ في واحِدةٍ مِنهنَّ أنَّها المَنسيَّةُ، ثُمَّ عَلمَ المَنسيَّةَ، فإنَّه تَبرَأُ الذِّمَّةُ مَعَ الشَّكِّ في كُلِّ صَلاةٍ؛ لأنَّه أتى بها على وَجهِ الاحتياطِ [234] يُنظر: ((المجموع المذهب)) للعلائي (1/53)، ((المنثور)) للزركشي (2/271)، ((نواضر النظائر)) لابن الملقن (1/135)، ((القواعد)) للحصني (1/239). .
وجُملةُ: (ولا يَكونُ مَأمورًا بهـ) احتِرازٌ عَمَّا إذا اجتَهَدَ، وغَلبَ على ظَنِّه بالاجتِهادِ شَيءٌ، فإنَّه يُجزِئُه وإن كان الشَّكُّ بَعدُ قائِمًا؛ لأنَّه مَأمورٌ بالعَمَلِ بما غَلبَ على ظَنِّه، كالاجتِهادِ في القِبلةِ. لكِن إن تَيَقَّن الخَطَأَ بَعدَ ذلك أعادَ وُجوبًا.
ومِن هنا يَتَّضِحُ أنَّه إذا تَجَرَّدَ فِعلُ العِبادةِ مَعَ الشَّكِّ عن هَذَينِ القَيدَينِ -وهما الاحتياطُ، وامتِثالُ الأمرِ- كان غَيرَ مُجزِئٍ [235] يُنظر: ((المجموع المذهب)) للعلائي (1/53)، ((المنثور)) للزركشي (2/272)، ((القواعد)) للحصني (1/240). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بأدِلَّةٍ كَثيرةٍ، كالأدِلَّةِ المُثبتةِ لقاعِدةِ: الأُمورُ بمَقاصِدِها، والأدِلَّةِ السَّابقةِ في قاعِدةِ: اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ، والتي تَقتَضي أنَّه لا بُدَّ مِنَ اليَقينِ.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ على هذه القاعِدةِ:
لو شَكَّ في دُخولِ الوقتِ فصَلَّى بلا اجتِهادٍ، فصادَف الوقتَ وتَيَقَّنَ أنَّه كان قد دَخَل، فإنَّه لا يُجزِئُ [236] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/371)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/97)، ((القواعد)) للحصني (1/242). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ بَعضُ المَسائِلِ؛ مِنها:
1- لو أحرَمَ في يَومِ الثَّلاثينَ مِن رَمَضانَ وهو شاكٌّ، فقال: إن كان مِن رَمَضانَ فإحرامي بعُمرةٍ، وإن كان مِن شَوَّالٍ فهو بحَجٍّ، ثُمَّ بانَ أنَّه مِن شَوَّالٍ، كان حَجًّا صحيحًا؛ لأنَّ الحَجَّ والعُمرةَ يُغتَفرُ فيهما ما لا يُغفَرُ في غَيرِهما؛ ولذلك جازَ تَعليقُ إحرامِه على إحرامِ زَيدٍ، دونَ بَقيَّةِ العِباداتِ [237] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (6/300)، ((المجموع المذهب)) للعلائي (1/54)، ((القواعد)) للحصني (1/243). .
2- لو أحرَمَ بالصَّلاةِ في آخِرِ وقتِ الجُمعةِ، ونَوى الجُمعةَ إن كان وقتُها باقيًا، وإلَّا فالظُّهرُ، فبانَ بَقاءُ الوقتِ، ففي صِحَّةِ الجُمُعةِ وجهانِ، ووَجهُ الجَوازِ: اعتِضادُ نيَّتِه باستِصحابِ الوقتِ، كَليلةِ الثَّلاثينَ مِن رَمَضانَ [238] يُنظر: ((المجموع المذهب)) للعلائي (1/54)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (1/98)، ((القواعد)) للحصني (1/243). .

انظر أيضا: