المَطلبُ الثَّاني: يُحالُ بالحادِثِ على أقرَبِ الأوقاتِ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ: "الأصلُ إضافةُ الحادِثِ إلى أقرَبِ أوقاتِه"
[239] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 55)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 17)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 125)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/146)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) (1/2/112)، ((الوجيز)) (ص: 187) كلاهما للبورنو، ((قاعدة اليقين لا يزول بالشك)) ليعقوب الباحسين (ص: 108)، ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 100). ، وصيغةِ: "الأصلُ في كُلِّ حادِثٍ تَقديرُه بأقرَبِ زَمَنٍ"
[240] ((المنثور)) للزركشي (1/174)، ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 59). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِمِنَ المُقَرَّرِ شَرعًا أنَّ اليَقينَ لا يَزولُ بالشَّكِّ، وأنَّ الأصلَ في الصِّفاتِ العارِضةِ العَدَمُ، فإذا وقَعَ الاختِلافُ في سَبَبِ وزَمَنِ حُدوثِ أمرٍ، ولا توجَدُ بَيِّنةٌ؛ فإنَّه يُنسَبُ إلى أقرَبِ الأوقاتِ، ما لم تَثبُتْ نِسبَتُه إلى الزَّمانِ البَعيدِ، فإذا ثَبَتَت نِسبَتُه إلى الزَّمَنِ البَعيدِ يُحكَمُ بذلك
[241] يُنظر: ((مجلة الأحكام)) (ص: 17)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/28)، ((شرح المجلة)) لسليم رستم (ص: 24)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 187). .
وهذا إذا كان الحُدوثُ مُتَّفَقًا عليه، وإنَّما وقَعَ الاختِلافُ في تاريخِ حُدوثِه، أمَّا إذا كان الحُدوثُ غَيرَ مُتَّفقٍ عليه بأن كان الاختِلافُ في أصلِ حُدوثِ الشَّيءِ وقِدَمِه، كَما لو كان في مِلكِ أحَدٍ مَسيلٌ لآخَرَ، ووقَعَ بَينَهما اختِلافٌ في الحُدوثِ والقِدَمِ، فادَّعى صاحِبُ الدَّارِ حُدوثَه وطَلَبَ رَفعَه، وادَّعى صاحِبُ المَسيلِ قِدَمَه؛ فإنَّ القَولَ لمُدَّعي القِدَمِ، والقديمُ يُترَكُ على قِدَمِه، والبَيِّنةُ لمُدَّعي الحُدوثِ، حتَّى إذا أقامَ كُلٌّ مِنهما بَيِّنَتَه رَجَحَت بَيِّنةُ مُدَّعي الحُدوثِ، وهو صاحِبُ الدَّارِ؛ وذلك لأنَّ بَيِّنَتَه تُثبِتُ وِلايةَ النَّقضِ، فكانت أولى، أمَّا مُدَّعي القِدَمِ فهو مُنكِرٌ مُتَمَسِّكٌ بالأصلِ
[242] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 125)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/146). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالأدِلَّةِ المُثبتةِ لقاعِدةِ: اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ؛ فإنَّ الوقتَ البَعيدَ مَشكوكٌ فيه، أمَّا الوقتُ القَريبُ فمُتَيَقَّنٌ مُتَّفَقٌ عليه، ولا يَجوزُ تَركُ المُتَيَقَّنِ للمَشكوكِ فيه.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ1- إذا طَلَّقَ رَجُلٌ زَوجَتَه طَلاقًا بائِنًا ثُمَّ ماتَ قَبل أن تَنقَضيَ عِدَّتُها، فادَّعَتِ الزَّوجةُ أنَّ زَوجَها طَلَّقَها طَلاقَ الفارِّ أثناءَ مَرَضِ المَوتِ، أي: أبانَها وهو في مَرَضِه، فصارَ بذلك فارًّا، فتَرِثُ هيَ مِنه، وطَلبَتِ الإرثَ، وادَّعى الورَثةُ أنَّه طَلَّقَها في حالِ صِحَّتِه فلم يَكُنْ فارًّا، فلا حَقَّ لها بالإرثِ. فالقَولُ قَولُ الزَّوجةِ، والبَيِّنةُ على الورَثةِ؛ لأنَّ الأمرَ الحادِثَ المُختَلَفَ على زَمَنِ وُقوعِه هنا هو الطَّلاقُ، فيَجِبُ أن يُضافَ إلى الوقتِ الأقرَبِ، وهو مَرَضُ المَوتِ الذي تَدَّعيه الزَّوجةُ، ما لم يُقِمِ الورَثةُ البَيِّنةَ
[243] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/200)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/28)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 126). .
2- ما يَقَعُ في كَثيرٍ مِن حَوادِثِ السَّيَّاراتِ، فإذا اصطَدَمَت سَيَّارةٌ بإنسانٍ، وبَقيَ حَيًّا زَمانًا، ثُمَّ ماتَ، فلا ديةَ على صاحِبِ السَّيَّارةِ؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنَّه ماتَ بسَبَبٍ آخَرَ غَيرِ حادِثةِ السَّيَّارةِ، إلَّا إذا ثَبَتَ بتَقريرِ الأطِبَّاءِ أنَّه ماتَ بسَبَبِ حادِثِ السَّيَّارةِ.
ويَشهَدُ لذلك عِندَ الفُقَهاءِ قَولُ الزَّركَشيِّ: (لو ضَرَبَ بَطنَ الحامِلِ فانفصَل الولدُ حَيًّا وبَقيَ زَمانًا غَيرَ مُتَألِّمٍ، ثُمَّ ماتَ، فلا ضَمانَ على الضَّارِبِ؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنَّه ماتَ بسَبَبٍ آخَرَ، بخِلافِ ما لو ماتَ عِندَ ضَربِه، أو بَقيَ مُتَألِّمًا حتَّى ماتَ، تَجِبُ ديةٌ كامِلةٌ؛ لتَيَقُّنِ حَياتِهـ)
[244] ((المنثور)) (1/174). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِاستِثناءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ مَسائِلُ خَرَجَت عنها؛ لاندِراجِها تَحتَ قَواعِدَ أُخرى أقوى مِنها تَعارَضَت مَعَها، فكان الحُكمُ فيها للأقوى؛ ولذلك قال ابنُ نُجَيمٍ: (تَحتاجُ هذه المَسائِلُ إلى نَظَرٍ دَقيقٍ للفَرقِ بَينَها)
[245] ((الأشباه والنظائر)) (ص: 56). .
ومِن هذه المُستَثنَياتِ:
1- إن ماتَ ذِمِّيٌّ فادَّعَت زَوجَتُه أنَّ إسلامَها وقَعَ بَعدَ وفاةِ زَوجِها، وأنَّ لها الحَقَّ في أن تَرِثَه؛ لكَونِها حينَ وفاتِه كانت على دينِه، وادَّعى الورَثةُ أنَّها أسلمَت قَبلَ مَوتِ المورِّثِ، فالقَولُ للورَثةِ، مَعَ أنَّه حَسَبَ القاعِدةِ يَجِبُ أن يَكونَ القَولُ للزَّوجةِ؛ لأنَّ اعتِناقَها الدِّينَ الإسلاميَّ أمرٌ حادِثٌ، والزَّوجةُ تَدَّعي حُدوثَه في الوقتِ الأقرَبِ، وعلى الورَثةِ أن يُثبِتوا خِلافَ الأصلِ. والسَّبَبُ في عَدَمِ جَرَيانِ هذه القاعِدةِ في مِثلِ هذه الدَّعوى: هو العَمَلُ بقاعِدةِ الاستِصحابِ في هذه المَسألةِ، وأنَّ اختِلافَ الدِّينِ -أي سَبَبَ الحِرمانِ مِنَ الإرثِ- مَوجودٌ بالحالِ، وبالاستِصحابِ المَقلوبِ تُعتَبَرُ في الزَّمَنِ السَّابقِ مُسلِمةً أيضًا
[246] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/29). .
2- إذا ادَّعى الأجيرُ على الحِفظِ أنَّ العَينَ هَلكَت بَعدَ تَمامِ المُدَّةِ المَعقودِ عليها، فيَستَحِقُّ كُلَّ الأُجرةِ، وقال المُستَأجِرُ: هَلكَت قَبلَ تَمامِ المُدَّةِ بكَذا أيَّامًا، فالقَولُ للمُستَأجِرِ بيَمينِه؛ وذلك لأنَّ مِنَ المُقَرَّرِ الثَّابتِ فراغُ ذِمَّةِ المُستَأجِرِ على الحِفظِ مِنَ الأُجرةِ، وإنَّما تَثبُتُ الأُجرةُ في ذِمَّتِه بمِقدارِ المُدَّةِ التي يوجَدُ فيها الحِفظُ مِنَ الأجيرِ فِعلًا، فلو جُعِل القَولُ للأجيرِ في حُدوثِ هَلاكِ العَينِ بَعدَ تَمامِ المُدَّةِ بناءً على إضافةِ الحادِثِ إلى أقرَبِ أوقاتِه، يَلزَمُ مِنه نَقضُ الأمرِ الثَّابتِ المُتَقَرِّرِ، وهو فَراغُ ذِمَّةِ المُستَأجِرِ؛ لأنَّه لم يَثبُتْ بالمِقدارِ الزَّائِدِ الذي يَدَّعيه الأجيرُ، وإضافةُ الحادِثِ إلى أقرَبِ أوقاتِه إنَّما تُعتَبَرُ إذا لم يُؤَدِّ اعتِبارُها إلى نَقضِ ما هو ثابتٌ، فكان القَولُ قَولَ المُستَأجِرِ. ولأنَّ إضافةَ الحادِثِ -وهو الهَلاكُ هنا- إلى أقرَبِ الأوقاتِ، مِن قَبيلِ الظَّاهرِ، والظَّاهرُ لا يَكفي حُجَّةً للاستِحقاقِ
[247] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 128)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (ص: 150). ويُنظر لمزيد استثناءات: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 56)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/221)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 129)، ((الوجيز)) للبورنو (ص: 189). .
شُروطُ إعمالِ القاعِدةِالعَمَلُ بهذه القاعِدةِ واجِبٌ بشَرطَينِ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: ألَّا تَثبُتَ نِسبةُ الحادِثِ إلى الزَّمَنِ البَعيدِ، فإن ثَبَتَت نِسبَتُه إليه أُضيفَ إليه، وخولِفَ الأصلُ، ومِثالُ ذلك: لوِ ادَّعى مَن له الخيارُ في البَيعِ بَعدَ مُرورِ مُدَّةِ الخيارِ أنَّه فَسَخ العَقدَ في ظَرفِ مُدَّةِ الخيارِ، وادَّعى الفريقُ الآخَرُ أنَّ الفسخَ حَصَل بَعدَ مُضيِّ مُدَّةِ الخيارِ، وأنَّ الفسخَ غَيرُ مُعتَبَرٍ؛ فالأمرُ الحادِثُ -وهو الفَسخُ- يُضافُ إلى أقرَبِ الأوقاتِ، وهو حُصولُ الفسخِ بَعدَ مُضيِّ مُدَّةِ الخيارِ، والقَولُ لمَن يُنكِرُ حُصولَ الفَسخِ بمُدَّةِ الخيارِ. لكِن إذا أثبَتَ صاحِبُ الخيارِ بالبَيِّنةِ حُصولَ الفَسخِ في مُدَّةِ الخيارِ فيُحكَمُ بموجِبِ البَيِّنةِ؛ لأنَّه يَكونُ قد أثبَتَ خِلافَ الأصلِ
[248] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/28). .
الشَّرطُ الثَّاني: ألَّا تَتَعارَضَ القاعِدةُ مَعَ قاعِدةٍ أقوى مِنها، كقاعِدةِ: (الأصلُ بَراءةُ الذِّمَّةِ) فإن تَعارَضَت مَعَها فيَجِبُ العَمَلُ ببَراءةِ الذِّمَّةِ؛ لأنَّها أقوى. ومِثالُ ذلك: إذا ادَّعى شَخصٌ على آخَرَ بقَرضٍ، والمُدَّعى عليه أنكَرَ ذلك القَرضَ، فالقَولُ للمُدَّعى عليه مَعَ اليَمينِ، والمُدَّعي مُكَلَّفٌ بإثباتِ خِلافِ الأصلِ، أي: إثباتِ شَغلِ ذِمَّةِ المُدَّعى عليه، فإذا أقامَ المُدَّعي البَيِّنةَ فيَكونُ قد وُجِدَ دَليلٌ على خِلافِ الأصلِ، فيُحكَمُ حينَئِذٍ بالبَيِّنةِ
[249] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/25)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 129). .
ومِن هنا يَظهَرُ أنَّ اعتِبارَ هذه القاعِدةِ مُقَيَّدٌ بألَّا يُؤَدِّيَ إلى نَقضِ ما هو ثابتٌ مُقَرَّرٌ؛ لأنَّ الحُكمَ بحُدوثِها لأقرَبِ ما ظَهَرَ ثابتٌ باستِصحابِ الحالِ، لا بدَليلٍ أوجَبَ الحُدوثَ للحالِ، والثَّابتُ باستِصحابِ الحالِ لا يَصلُحُ لنَقضِ ما هو ثابتٌ، وهذا القَيدُ واضِحٌ في مُستَثنَياتِ القاعِدةِ؛ لأنَّ غالِبَ المُستَثنَياتِ إنَّما خَرَجَت عن هذه القاعِدةِ؛ لأنَّ تَطبيقَها عليها يَستَلزِمُ نَقضَ ما هو ثابتٌ مُتَقَرِّرٌ
[250] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 126)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/146). .