المَطلبُ الخامِسُ: الذِّمَّةُ إذا عُمِرَت بيَقينٍ فلا تَبرَأُ إلَّا بيَقينٍ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِالصِّيغةُ المَذكورةُ هيَ المَشهورةُ والمُتَداوَلةُ في كُتُبِ المالكيَّةِ، ومِنهم: الوَنشريسيُّ
[301] يُنظر: ((عدة البروق)) (ص: 496)، ((إيضاح المسالك)) (1/199). . وعَبَّرَ عنها المقري بقَولِه: (إذا عُمِرَتِ الذِّمَّةُ لم تَبرَأْ إلَّا بالإتيانِ بما عُمِرَت به أو ما يَقومُ مَقامَه أو يَشتَمِلُ عليه ... وهَل يُجزِئُ الظَّنُّ ... أو لا بُدَّ مِنَ اليَقينِ؟)
[302] يُنظر: ((القواعد)) (2/607- 608). .
والفرقُ بَينَ الصِّيغَتَينِ: أنَّ ذِمَّةَ المُكَلَّفِ إذا ثَبَتَ شَغلُها بيَقينٍ فيَجِبُ أن تَبرَأَ بيَقينٍ مِثلِه، ولكِن هَل تَبرَأُ بالإتيانِ بما شُغِلت به فقَط، أو يَجوزُ أن تَبرَأَ بأداءِ ما يَقومُ مَقامَه أو يَشتَمِلُ عليه؟ فإذا أتى الإنسانُ بما شُغِلت به ذِمَّتُه بَرِئَ يَقينًا، ولكِن إن أتى بما يَقومُ مَقامَه أو يَشتَمِلُ عليه، لا يَكونُ مُتَيَقِّنًا مِنَ البَراءةِ، بَل هو ظانٌّ للبَراءةِ، فهَل يَكفي الظَّنُّ للبَراءةِ أو لا بُدَّ مِنَ اليَقينِ؟
تُفيدُ الصِّيغةُ الأولى للقاعِدةِ أنَّه لا بُدَّ مِنَ اليَقينِ، وأمَّا الصِّيغةُ الثَّانيةُ فتُفيدُ أنَّ في هذه المَسألةِ قَولينِ، ومَعنى الصِّيغةِ الثَّانيةِ: أنَّه يَجوزُ أن تَبرَأَ بالإتيانِ بما يَقومُ مَقامَ المَطلوبِ أو ما يَشتَمِلُ على المَطلوبِ
[303] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/1/324). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِإذا ثَبَتَ شَغلُ الذِّمَّةِ بيَقينٍ فلا تَبرَأُ إلَّا بالأداءِ أوِ الإبراءِ؛ لأنَّها إذا أُشغِلَت أو أُعمِرَت بتَكليفٍ يَقينًا فلا يُمكِنُ أن تَبرَأَ عن تَحَمُّلِ مسؤوليَّةِ ما أُشغِلَت به إلَّا بيَقينٍ مِثلِ يَقينِ ما أُشغِلَت أو أُعمِرَت به
[304] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/143)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (4/375). .
وهذه القاعِدةُ فَرعٌ عنِ القاعِدةِ الكُبرى: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ لأنَّ اليَقينَ لا يَزولُ إلَّا بيَقينٍ مِثلِه، ولأنَّ اليَقينَ ثابتٌ فلا يُلغى إلَّا بمِثلِه، وهذه القاعِدةُ تُمَثِّلُ جانِبًا مُهمًّا مِن جَوانِبِ القاعِدةِ الكُبرى، وهو ما يَتَعَلَّقُ بإبراءِ ذِمَّةِ المُكَلَّفِ، سَواءٌ أكان إشغالُها بحُقوقِ اللهِ سُبحانَه وتعالى أم بحُقوقِ العِبادِ
[305] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/195)، ((الوجيز)) (ص: 182)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) (2/547) كلاهما للبورنو. .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بأدِلَّةِ القاعِدةِ الأُمِّ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- الشَّكُّ في قَضاءِ الدَّينِ الثَّابتِ، والشَّكُّ في إخراجِ الغَنيِّ ما عليه مِنَ الزَّكاةِ، والكَفَّارةِ، والهَديِ، وقَضاءِ رَمَضانَ، وغَيرِ ذلك، فإنَّ انشِغالَ الذِّمَّةِ بذلك مُتَيَقَّنٌ؛ لذلك لا تُفرَغُ مِنه إلَّا بيَقينٍ
[306] يُنظر: ((إيضاح المسالك)) للونشريسي (1/199)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/143). .
2- مَن شَكَّ في عَدَدِ رَكَعاتِ ما صَلَّى، أو في عَدَدِ الأشواطِ في الطَّوافِ، أوِ السَّعيِ، بَنى على الأقَلِّ، طَرحًا للشَّكِّ، واستِصحابًا لليَقينِ في تَعميرِ الذِّمَّةِ، لأنَّ المُعتَدَّ به في إتمامِ العِبادةِ هو اليَقينُ، أوِ الظَّنُّ الغالبُ الذي تَسكُنُ إليه النَّفسُ ويَطمَئِنُّ إليه القَلبُ، فلا تَبرَأُ الذِّمَّةُ مِمَّا عُمِرَت به إلَّا بيَقينٍ
[307] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/195). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِفائِدةٌ:تَتَلاقى هذه القاعِدةُ مَعَ قاعِدةِ: (الأصلُ أنَّ الاحتياطَ في حُقوقِ اللهِ تعالى جائِزٌ، وفي حُقوقِ العِبادِ لا يَجوزُ) فيما يَتَعَلَّقُ بحُقوقِ اللهِ تعالى، والمُرادُ بالاحتياطِ هنا الأخذُ بما تَبرَأُ به الذِّمَّةُ؛ ففي حُقوقِ اللهِ سُبحانَه وتعالى الأخذُ بالاحتياطِ هو الأَولى عِندَ الشَّكِّ في بَراءةِ الذِّمَّةِ، وأمَّا بالنِّسبةِ لحُقوقِ العِبادِ فالاحتياطُ لا يَجوزُ؛ لأنَّ حُقوقَ العِبادِ لا تُبنى على الشَّكِّ بَل على اليَقينِ.
ومِثالُ ذلك: إذا دارَتِ الصَّلاةُ بَينَ الجَوازِ والفسادِ فالاحتياطُ أن يُعيدَ الأداءَ؛ ليَتَيَقَّنَ مِن بَراءةِ ذِمَّتِه؛ لأنَّ الذِّمَّةَ إذا أعمِرَت بيَقينٍ فلا تَبرَأُ إلَّا بيَقينٍ مِثلِه. وكذلك لو شَكَّتِ امرَأةٌ فيما عليها مِن صيامٍ فالاحتياطُ أن تَصومَ الأكثَرَ؛ لأنَّه الذي تَبرَأُ به الذِّمَّةُ.
وأمَّا بالنِّسبةِ لحُقوقِ العِبادِ فإذا دارَ الضَّمانُ بَينَ الجَوازِ وعَدَمِه فلا يَجِبُ الاحتياطُ؛ لأنَّه لا يُضمَنُ بالشَّكِّ، لأنَّ الأصلَ بَراءةُ الذِّمَّةِ مِن حُقوقِ العِبادِ
[308] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/1/418). .
وبمِثل ذلك قاعِدةُ: (مَبنى العِبادةِ على الاحتياطِ)؛ حَيثُ إنَّ العِبادةَ بأنواعِها مِن صَلاةٍ أو صيامٍ أو حَجٍّ أو زَكاةٍ، أو غَيرِ ذلك، فرضًا أو نَفلًا، إنَّما تُقامُ وتُبنى على الأخذِ بالأحوطِ للدِّينِ؛ لأنَّ ذِمَّةَ المُكَلَّفِ إنَّما أُعمِرَت بعِبادةٍ كامِلةٍ، فيَجِبُ أداؤُها كامِلةً للحُصولِ على بَراءةِ الذِّمَّةِ. وعَدَمُ الأخذِ بالأحوطِ قد يُؤَدِّي إلى الأداءِ النَّاقِصِ الذي لا تَبرَأُ به الذِّمَّةُ، وقد يُؤَدِّي إلى التَّساهُلِ في العِباداتِ وشُروطِها وأركانِها، فيَكونُ ذلك سَبَبًا في فسادِها وبُطلانِها وعَدَمِ قَبولِها. وشَرطُ الأخذِ بالأحوطِ أن لا يَكونَ مَوصِلًا إلى الوَساوِسِ
[309] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (9/433). .
تَقييدٌ:يَتَقَيَّدُ العَمَلُ بهذه القاعِدةِ بأنَّ ادِّعاءَ بَراءةِ الذِّمَّةِ لا يُقبَلُ إلَّا ببَيِّنةٍ
[310] يُنظر: ((الجمع والفرق)) لأبي محمد الجويني (3/43). .
والمَعنى: أنَّ الذِّمَّةَ إذا أُشغِلَت أو أُعمِرَت بحَقٍّ، ثُمَّ ادَّعى صاحِبُها أنَّ ذِمَّتَه قد بَرِئَت مِنَ الحَقِّ الذي شُغِلت به بإبراءِ صاحِبِه إيَّاه، أو بقَضائِه للحَقِّ وأدائِه لصاحِبِه، وأنكَرَ صاحِبُ الحَقِّ دَعواه؛ فإنَّ قَولَه هذا -أي المُدَّعي- لا يُقبَلُ مِنه إلَّا ببَيِّنةٍ، أو إذا اعتَرَف صاحِبُ الحَقِّ بالإبراءِ.
مِثالُ ذلك: رَجُلٌ عليه دَينٌ لآخَرَ، فادَّعى أنَّ الدَّائِنَ أبرَأه مِن دَينِه، أو أنَّه أدَّى دَينَه، فهذه دَعوى، وهذا القَولُ لا يُقبَلُ مِنه إلَّا إذا جاءَ شُهودٌ يَشهَدونَ له بذلك، أو أقَرَّ الدَّائِنُ بالإبراءِ أوِ الأداءِ
[311] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (8/625). .