موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ السَّادِسُ: الأصلُ صِحَّةُ الجِسمِ حتَّى يَثبُتَ المَرَضُ


أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِ
اختَلفت تَعبيراتُ الفُقَهاءِ عن هذه القاعِدةِ، وكُلُّ تَعبيراتِهم تَرجِعُ إلى مَعنًى واحِدٍ هو المَشهورُ، وهو: "الأصلُ الصِّحَّةُ" [312] يُنظر: ((المحرر)) لابن تيمية الجد (1/380)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (2/486)، ((فتح باب العناية)) للقاري (1/132)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 154)، ((رد المحتار)) لابن عابدين (1/284). .
وعُبِّرَ عنها بصيغةِ: "النَّاسُ على الصِّحَّةِ حتَّى يَثبُتَ المَرَضُ الطَّارِئُ" [313] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (5/258). ، وعُبِّرَ عنها بصيغةِ: "الأصلُ الصِّحَّةُ إلى أن يَظهَرَ خِلافُها" [314] يُنظر: ((الغاية)) للعز بن عبد السلام (4/460). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
الأصلُ صِحَّةُ الجِسمِ، والمَرَضُ عارِضٌ [315] يُنظر: ((رد المحتار)) لابن عابدين (1/284). ، ومُدَّعي المَرَضِ مُدَّعٍ خِلافَ الأصلِ، فعَليه البَيِّنةُ [316] يُنظر: بحث ((العرف)) لجعيط، منشور في ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) (5/2451). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عن قاعِدةِ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفريعِها عنها: أنَّ الصِّحَّةَ هيَ اليَقينُ، فيَنبَغي استِصحابُ حالةِ الصِّحَّةِ حتَّى يَثبُتَ المَرَضُ؛ لأنَّ المَرَضَ عارِضٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
فعنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضيَ اللهُ عنهُ، أنَّه قال: ((أعطاني أبي عَطيَّةً، فقالت عَمرةُ بنتُ رَواحةَ: لا أرضى حتَّى تُشهِدَ رَسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنِّي أعطَيتُ ابني مِن عَمرةَ بنتَ رَواحةَ عَطيَّةً، فأمَرَتني أن أُشهِدَك يا رَسولَ اللهِ. قال: أعطَيتَ سائِرَ وَلدِك مِثلَ هذا؟ قال: لا. قال: فاتَّقوا اللَّهَ واعدِلوا بَينَ أولادِكُم. قال: فرَجَعَ فرَدَّ عَطيَّتَه )) [317] أخرجه البخاري (2587) واللفظ له، ومسلم (1623). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ تَصَرُّفَ بَشيرٍ (والِدِ النُّعمانِ) بالهبةِ لوَلَدِه مَحمولٌ على أنَّه كان صحيحًا مُعافًى، ولا يَصِحُّ حَملُ تَصَرُّفِه على هبةِ المَريضِ؛ لأنَّ القاعِدةَ أنَّ النَّاسَ على الصِّحَّةِ حتَّى يَثبُتَ المَرَضُ الطَّارِئُ [318] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (5/258). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
مِنَ الأمثِلةِ المُخَرَّجةِ على القاعِدةِ: أنَّ الأصلَ في كُلِّ ما يَخرُجُ مِنَ الرَّحِمِ أنَّه حَيضٌ حتَّى يَقومَ دَليلٌ على أنَّه استِحاضةٌ؛ لأنَّ ذلك هو الدَّمُ الأصليُّ الجِبِلِّيُّ، وهو دَمٌ تُرخيه الرَّحِمُ، ودَمُ الفسادِ دَمُ عِرقٍ يَنفجِرُ، وذلك كالمَرَضِ، والأصلُ الصِّحَّةُ لا المَرَضُ، فمَتى رَأتِ المَرأةُ الدَّمَ جاريًا مِن رَحِمِها فهو حَيضٌ تَترُكُ لأجلِه الصَّلاةَ؛ لأنَّ دَمَ الحَيضِ دَمُ جِبلَّةٍ وطَبيعةٍ، ودَمُ الاستِحاضةِ دَمٌ عارِضٌ لمَرَضٍ عارِضٍ، والأصلُ الصِّحَّةُ والسَّلامةُ مِنَ المَرَضِ [319] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/238)، ((موسوعة أحكام الطهارة)) للدبيان (8/149). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ
فائِدةٌ:
تَتَأيَّدُ هذه القاعِدةُ بالضَّابطِ الفِقهيِّ: أنَّ ما يَمتَدُّ فلدَوامِه حُكمُ الابتِداءِ، وإلَّا فلا [320] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 152). .
ومُفادُه امتِدادُ الصِّحَّةِ دونَ المَرَضِ والحَيضِ [321] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (2/132). .
استِثناءٌ:
يُستَثنى مِن قاعِدةِ: (الأصلُ الصِّحَّةُ) ما إذا قالتِ المَرأةُ: طَلَّقَني زَوجي وهو مَريضٌ، وقالتِ الورَثةُ: طَلَّقَكِ وهو صحيحٌ، فالقَولُ قَولُ المَرأةِ؛ لأنَّ حَقَّها كان مُتَعَلِّقًا بمالِه، فإذا قالت: طَلَّقَني في المَرَضِ، فهيَ تَدَّعي بَقاءَ حَقِّها، والأصلُ بَقاؤُه [322] يُنظر: ((الفروق)) للكرابيسي (1/224). .

انظر أيضا: