المَطلبُ السَّابعُ: الأصلُ بَقاءُ المِلْكِ فيَجِبُ استِصحابُه
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاختَلفت تَعبيراتُ الفُقَهاءِ عن هذه القاعِدةِ، وكُلُّ تَعبيراتِهم تَرجِعُ إلى مَعنًى واحِدٍ هو المَشهورُ، وهو: "الأصلُ بَقاءُ المِلكِ"
[323] يُنظر: ((نهاية المطلب)) للجويني (6/335)، ((بحر المذهب)) للروياني (3/207)، ((الوسيط)) للغزالي (7/480)، ((التهذيب)) للبغوي (8/358)، ((البيان)) للعمراني (10/234)، ((فتح العزيز)) للرافعي (11/161)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/53)، و(7/337)، و(11/339). .
وعُبِّرَ عنها بصيغةِ: "الأصلُ بَقاءُ المِلكِ لأربابِه"
[324] يُنظر: ((التبصرة)) للخمي (7/3208)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/53). ، وعُبِّرَ عنها بـ: "الأصلُ بَقاءُ المِلكِ لمَن مَلَكه"
[325] يُنظر: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (8/214). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِإذا وقَعَ الشَّكُّ في مِلكيَّةِ شَيءٍ، أو حَدَثَت مُنازَعةٌ على مَلكيَّتِه، فالأصلُ إضافةُ المِلكِ لمالكِه الأوَّلِ واستِمرارُه له حتَّى يَثبُتَ النَّقلُ لغَيرِه
[326] قال أبو محمَّدٍ الجوينيُّ: (الأصلُ بَقاءُ المِلكِ للمالكِ الأوَّلِ). ((الجمع والفرق)) (2/460). ؛ لأنَّه المُحَقَّقُ المُتَيَقَّنُ؛ ولذلك عَبَّرَ عنها ابنُ حَجَرٍ الهَيتميُّ بقَولِه: (الأصلُ بَقاءُ المِلكِ المُحَقَّقِ)
[327] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) (3/189). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عن قاعِدةِ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ ولذلك عَبَّرَ عنها الشِّيرازيُّ بقَولِه: (الأصلُ بَقاءُ المِلكِ والزَّوجيَّةِ، فلا يَزولُ بالشَّكِّ)
[328] يُنظر: ((المهذب)) (3/44). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: (ذَهَبَ فرَسٌ له فأخَذه العَدوُّ، فظَهَرَ عليه المُسلِمونَ، فرُدَّ عليه في زَمَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأَبَق عَبدٌ له فلَحِقَ بالرُّومِ، فظَهَرَ عليهمُ المُسلِمونَ، فرَدَّه عليه خالِدُ بنُ الوليدِ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[329] أخرجه معلَّقًا بصيغة الجزم: البخاري (3067) واللفظ له، وأخرجه موصولًا أبو داود (2699)، وابن ماجه (2847). صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (4845)، والبغوي في ((شرح السنة)) (5/626)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2699)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2699)، وقال ابن حجر في ((الدراية)) (2/129): اختُلِف في رَفعِ هذا الحَديثِ، والأكثَرُ على تَرجيحِ المَوقوفِ. وأخرجه البخاري مَوصولًا مَوقوفًا (3068) ولفظُه: عن عُبَيدِ اللهِ، قال: أخبَرَني نافِعٌ أنَّ عَبدًا لابنِ عُمَرَ أبَقَ فلحِقَ بالرُّومِ، فظَهَرَ عليه خالدُ بنُ الوليدِ، فرَدَّه على عَبدِ اللهِ، وأنَّ فرَسًا لابنِ عُمَرَ عارَ فلحِقَ بالرُّومِ، فظَهَرَ عليه، فرَدُّوه على عَبدِ اللهِ. ومَوصولًا مَوقوفًا برَقم (3069) ولفظُه: عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّه كان على فرَسٍ يَومَ لقيَ المُسلمونَ، وأميرُ المُسلمينَ يَومَئِذٍ خالدُ بنُ الوليدِ بَعَثَه أبو بَكرٍ، فأخَذَه العَدوُّ، فلمَّا هُزِمَ العَدوُّ رَدَّ خالدٌ فرَسَه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:رَدُّ الفرَسِ والعَبدِ لعَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما يَدُلُّ على أنَّ الكُفَّارَ إذا استَولوا على مالِ مُسلِمٍ لا يَتَمَلَّكونَه، وإنَّما يُرَدُّ إلى مالكِه الأصليِّ بَعدَ استِنقاذِه مِن أيديهم
[330] يُنظر: ((شرح المصابيح)) لابن الملك (4/433)، ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (11/556). .
2- مِنَ القَواعِدِ:- القاعِدةُ الأُمُّ: "اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ"؛ لِما سَبَقَ مِن تَفريعِها عليها.
- واستِصحابُ الأصلِ الثَّابتِ؛ فالأصلُ بَقاءُ المِلكِ، فالشَّرعُ دَلَّ على ثُبوتِ المِلكِ حتَّى يَثبُتَ بالحُجَّةِ ما يُزيلُه. وهو الذي عَرَّفه العُلماءُ بأنَّه ثُبوتُ أمرٍ في الثَّاني لثُبوتِه في الأوَّلِ؛ لفِقدانِ ما يَصلُحُ للتَّغييرِ. وعلى ذلك الأصل أنَّ الإنسانَ لا يَبذُلُ مِلكَه إلَّا بعِوَضٍ، فالأملاكُ لا تَنتَقِلُ عن يَدِ أربابِها إلَّا بمُقابِلٍ، فيُستَصحَبُ هذا الأصلُ حتَّى يَثبُتَ خِلافُه
[331] يُنظر: ((المعاملات المالية أصالة ومعاصرة)) للدبيان (7/107)، ((التحقيقات على شرح الجلال للورقات)) لفضل مراد (ص: 338). .
- ومِنَ القَواعِدِ التي يُستَدَلُّ بها: أنَّ بَقاءَ المِلكِ هو الموافِقُ للأصلِ، ويَتَبَيَّنُ هذا الاستِدلالُ بمِثالٍ ذَكَره القَرافيُّ لبَقاءِ أعيانِ الأموالِ المَوقوفةِ على مِلكِ الواقِفينَ؛ فإنَّ الوَقفَ هَل يَنقُلُ الأملاكَ والمَنافِعَ فقَط وتَبقى الأعيانُ على مِلكِ الواقِفينَ ولو ماتوا، فكَما يَكونُ لهم آخِرُ الرَّيعِ بَعدَ المَوتِ يَكونُ لهم مِلكُ الرَّقَبةِ، وهو المَشهورُ، ووَجهُه: أنَّ القاعِدةَ: مَهما أمكَنَ البَقاءُ على موافقةِ الأصلِ فَعَلنا، والقَولُ ببَقاءِ المِلكِ أقرَبُ لموافقةِ الأصلِ؛ فإنَّ الأصلَ بَقاءُ المِلكِ على مِلكِ أربابِها
[332] يُنظر: ((الذخيرة)) (3/53). .
ويَتَقَوَّى ذلك بأنَّ الأصلَ عِصمةُ الأموالِ وحِفظُها على أربابها، فلا تَنتَقِلُ مِلكيَّتُها إلَّا برِضاهم
[333] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (6/274)، و(9/109). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- مَن باعَ نَخلةً، فأطلعَت بَعدَ البَيعِ، وأفلسَ المُشتَري قَبلَ التَّأبيرِ، وأرادَ الرُّجوعَ، فله أن يَرجِعَ في الثِّمارِ مَعَ الأشجارِ. ولو أُبرَتِ الثِّمارُ قَبلَ الرُّجوعِ، لم يَرجِعِ البائِعُ في الثِّمارِ.
فلو قال البائِعُ: رَجَعتُ والثِّمارُ غَيرُ مُؤَبَّرةٍ، فهيَ لي، وقال المُشتَري: بَل رَجَعتَ بَعدَ التَّأبيرِ، فالثِّمارُ لي تُصرَفُ إلى غُرَمائي، فالقَولُ قَولُ المُشتَري؛ لأنَّ الأصلَ إبقاءُ مِلكِه في الثِّمارِ، والأصلُ عَدَمُ رُجوعِه أيضًا.
فإن قيل: قد تَقابَل قَولُنا: الأصلُ عَدَمُ الرُّجوعِ، وقَولُنا: الأصلُ عَدَمُ التَّأبيرِ، فتَعارَضا، وتَقابَلا، فليُخَرَّجْ ذلك على تَقابُلِ الأصلَينِ.
أُجيبَ عنه بأنَّه قد تَعارَضَ القَولانِ، والأصلُ بَقاءُ المِلكِ للمُشتَري
[334] يُنظر: ((نهاية المطلب)) للجويني (6/335). .
2- لو وقَعَ الشَّكُّ في أنَّ الصَّيدَ استَرسَل بنَفسِه، أو أرسَله صاحِبُه إرسالًا يَزولُ به المِلكُ عنه، ويَحِلُّ اصطيادُه: لا يَجوزُ أخذُه على حُكمِ الاصطيادِ، ويَتَّفِقُ ذلك فيما لو رَأى على الصَّيدِ أثَرَ مِلكٍ، كَأن يَكونَ مَقصوصَ الجَناحِ ونَحوَ ذلك؛ لأنَّ هذه الأحوالَ تَدُلُّ على أنَّه مِلكٌ، والأصلُ بَقاءُ المِلكِ فيه لمَن مَلَكه
[335] يُنظر: ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (8/214). .