المَطلبُ الثَّامِنُ: الأصلُ في الأشياءِ الإباحةُ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأصلُ في الأشياءِ الإباحةُ"
[336] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 535)، ((شرح الإلمام)) لابن دقيق العيد (3/377)، ((التلويح)) للتفتازاني (2/30)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/896)، ((الإعلام)) لابن الملقن (10/98)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/101). .
وقَيَّدَها الإسنويُّ -تَبَعًا للبَيضاويِّ- بالأشياءِ النَّافِعةِ، فقال: (الأصلُ في المَنافِعِ الإباحةُ... وفي المَضارِّ التَّحريمُ)
[337] ((نهاية السول)) (ص: 360)، ((التمهيد)) (ص: 487). .
وعُبِّرَ عنها أيضًا بـ: (الأصلُ في الأشياءِ الحِلُّ، والتَّحريمُ عارِضٌ)
[338] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/400). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالأصلُ في الأشياءِ النَّافِعةِ الإباحةُ حتَّى يوجَدَ دَليلٌ شَرعيٌّ صحيحٌ يُخرِجُها مِنَ الإباحةِ إلى الحُرمةِ أوِ الكَراهةِ.
فأحكامُ الأشياءِ تَنقَسِمُ إلى حَلالٍ، وحَرامٍ، وما بَينَهما؛ لأنَّ كُلَّ شَيءٍ أو فِعلٍ: إمَّا مَنصوصٌ على الإذنِ فيه، وهو الحَلالُ البَيِّنُ، أو على المَنعِ مِنه وهو الحَرامُ البَيِّنُ، أو لا يُنَصُّ فيه لا على هذا ولا على هذا، وهو المَسكوتُ عنه، فهو مُباحٌ؛ بناءً على أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ إلَّا ما خَصَّه الدَّليلُ
[339] يُنظر: ((التعيين في شرح الأربعين)) للطوفي (ص: 98). .
فإذا سُئِل المُجتَهِدُ عن حُكمِ حَيَوانٍ أو جَمادٍ أو نَباتٍ أو أيِّ طَعامٍ أو أيِّ شَرابٍ أو عَمَلٍ مِنَ الأعمالِ، ولم يَجِدْ دَليلًا شَرعيًّا على حُكمِه، حُكِمَ بإباحَتِه؛ لأنَّ الإباحةَ هيَ الأصلُ، ولم يَقُمْ دَليلٌ على تَغَيُّرِه
[340] يُنظر: ((علم أصول الفقهـ)) لخلاف (ص: 91). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عن قاعِدةِ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)؛ فإنَّ الأصلَ المُتَيَقَّنَ هو الإباحةُ التي خَلقَ اللهُ تعالى الخَلقَ عليها، فلا يَزولُ حُكمُ الأشياءِ عن هذه الإباحةِ بالشَّكِّ؛ قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحةُ حتَّى يَقرَعَ السَّمعَ ما يوجِبُ الحَظرَ)
[341] ((الاستذكار)) (3/394). . وقال أيضًا: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحةُ حتَّى يَصِحَّ المَنعُ بوجهٍ لا مَعارِضَ له، ودَليلٍ غَيرِ مُحتَمِلٍ للتَّأويلِ)
[342] ((التمهيد)) (4/308). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكَريمِ، والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:- عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] ، وقَوله تعالى:
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الجاثية: 12] ، وقَوله تعالى:
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية: 13] ، ونَظائِرها مِنَ الآياتِ.
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى أخبَرَهم في مَعرِضِ الامتِنانِ عليهم، وتَذكيرِهم بالنِّعمةِ، أنَّه خَلقَ لهم ما في الأرضِ وسَخَّرَه لهم، واللَّامُ للاختِصاصِ أوِ المِلكِ، وإذا مَلكوه جازَ انتِفاعُهم؛ إذ فائِدةُ المِلكِ جَوازُ الانتِفاعِ
[343] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/399). ويُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/120)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/134)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 92)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 360). .
- وقَولُ اللهِ تعالى:
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 32] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى أنكَرَ على مَن حَرَّمَ زينَتَه، وإنكارُ التَّحريمِ يَقتَضي انتِفاءَ التَّحريمِ، وإلَّا لم يَجُزِ الإنكارُ، وإذا انتَفتِ الحُرمةُ تَعَيَّنَتِ الإباحةُ؛ فدَلَّ على أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ
[344] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 535)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2600)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 360). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ أعظَمَ المُسلمينَ في المُسلمينَ جُرمًا مَن سَأل عن شَيءٍ لم يُحَرَّمْ على المُسلِمينَ، فحُرِّمَ عليهم مِن أجلِ مَسألتِه )) [345] أخرجه البخاري (7289)، ومسلم (2358) واللفظ له. .
والحَديثُ ظاهِرٌ -إن لم يَكُن قاطِعًا- في أنَّ الأصلَ في الأشياء الإباحةُ، وأنَّ التَّحريمَ عارِضٌ
[346] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/400)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/10). .
- وعن عبدِ اللهِ بنِ أبي أوفى رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((أصابَتنا مَجاعةٌ لياليَ خَيبَرَ، فلمَّا كان يَومُ خَيبَرَ وقَعنا في الحُمُرِ الأهليَّةِ فانتحَرْناها، فلمَّا غَلت بها القُدورُ نادى مُنادي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أن اكْفَؤوا القُدورَ، ولا تَأكُلوا مِن لُحومِ الحُمُرِ شَيئًا )) [347] أخرجه البخاري (3155)، ومسلم (1937) واللفظ له. .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ الصَّحابةَ أقدَموا على ذَبحِ الحُمُرِ الأهليَّةِ وطَبخِها كَسائِرِ ما يُذبَحُ مِنَ الحَيَوانِ عِندَهم مِن قَبلِ أن يستأمِروا، مَعَ تَوفُّرِ دواعيهم على السُّؤالِ عَمَّا يُشكِلُ؛ فدَلَّ على أنَّ الأصلَ المُستَقِرَّ عِندَهم هو أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ
[348] يُنظر: ((الإعلام)) لابن الملقن (10/98)، ((فتح الباري)) لابن حجر (9/656). .
3- مِنَ الإجماعِ:ومِمَّن نَقَله ابنُ رَجَبٍ
[349] قال: (استَقَرَّ أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ بأدِلَّةِ الشَّرعِ. وقد حَكى بَعضُهمُ الإجماعَ على ذلك). ((جامع العلوم والحكم)) (2/166). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ1- يَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ أشياءُ كَثيرةٌ؛ فالأصلُ في المُعامَلاتِ -مِن بَيعٍ، وإجارةٍ، ورَهنٍ، وشَرِكةٍ، وغَيرِ ذلك- الحِلُّ، وكذلك التَّبَرُّعاتُ مِن هباتٍ وأوقافٍ ووصايا، وفي بابِ الأطعِمةِ مِن حَيَواناتٍ ونَباتاتٍ، وزُروعٍ، وثِمارٍ، وطُيورٍ: الأصلُ في ذلك الحِلُّ، وأيضًا في بابِ الألبِسةِ مِن قُطنٍ، وصوفٍ، وشَعرٍ، وكَتَّانٍ، وغَيرِ ذلك
[350] يُنظر: ((العقد الثمين)) لخالد المشيقح (ص: 90). .
2- مِنَ التَّطبيقاتِ المُعاصِرةِ التي تَتَخَرَّجُ على القاعِدةِ: إباحةُ السَّحبِ بالبطاقةِ مِن غَيرِ صَرَّافِ بَنكِ العَميلِ المُصدِرِ لها، فيَجوزُ القيامُ بالسَّحبِ مِن آلةِ مَصرِفٍ آخَرَ، وإن كانتِ العُمولةُ يَدفعُها المَصرِفُ المُصدِرُ للبطاقةِ؛ فإنَّ الأصلَ في الأشياء الإباحةُ، ولم يَأتِ ما يَمنَعُ هذه المُعامَلةَ بالأدِلَّةِ والبَراهينِ اليَقينيَّةِ
[351] يُنظر: ((أنظمة الدفع الإلكتروني المعاصر)) لصلاح عامر (ص: 213). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِاستِثناءاتٌ:يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ ما يَلي:
1- يُستَثنى مِنها: قاعِدةُ "الأصلُ في الأبضاعِ التَّحريمُ" فإذا تَقابَل في المَرأةِ حِلٌّ وحُرمةٌ غَلبَتِ الحُرمةُ؛ ولهذا امتَنَعَ الاجتِهادُ فيما إذا اختَلطَت مَحرَمٌ بنِسوةِ قَريةٍ كَبيرةٍ؛ فإنَّه ليسَ أصلُهنَّ الإباحةَ حتَّى يَتَأيَّدَ الاجتِهادُ باستِصحابِه، لكِن لوِ اختَلطَت مَحرَمُه بنِسوةٍ غَيرِ مَحصوراتٍ، فإنَّ له نِكاحَ ما شاءَ مِنهنَّ؛ كَي لا تَتَعَطَّلَ مَصلحةُ النِّكاحِ
[352] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/177). .
2- يُستَثنى مِن هذه القاعِدةِ أموالُ الآخَرينَ؛ لأنَّ الأصلَ فيها التَّحريمُ
[353] يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (15/423)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (6/101). ؛ لحَديثِ جابرٍ:
((إنَّ دِماءَكُم وأموالَكم حَرامٌ عليكُم )) [354] أخرجه مسلم (1218) ولفظُه: عن جَعفرِ بنِ مُحَمَّدٍ، عن أبيه، قال: دَخَلنا على جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ، فسَأل عنِ القَومِ حتَّى انتَهى إليَّ، فقُلتُ: أنا مُحَمَّدُ بنُ عليِّ بنِ حُسَينٍ، فأهوى بيَدِه إلى رَأسي، فنَزَعَ زِرِّي الأعلى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الأسفَلَ، ثُمَّ وضَعَ كَفَّه بَينَ ثَديَيَّ وأنا يَومَئِذٍ غُلامٌ شابٌّ، فقال: مَرحَبًا بكَ يا ابنَ أخي، سَل عَمَّا شِئتَ، فسَألتُه، وهو أعمى، وحَضَرَ وقتُ الصَّلاةِ، فقامَ في نِساجةٍ مُلتَحِفًا بها، كُلَّما وضَعَها على مَنكِبه رَجَعَ طَرَفاها إليه؛ مِن صِغَرِها، ورِداؤُه إلى جَنبِه على المِشجَبِ، فصَلَّى بنا، فقُلتُ: أخبرني عن حَجَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال بيَدِه فعَقدَ تِسعًا، فقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَكَثَ تِسعَ سِنينَ لم يَحُجَّ، ثُمَّ أذَّنَ في النَّاسِ في العاشِرةِ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حاجٌّ، فقدِمَ المَدينةَ بَشَرٌ كَثيرٌ، كُلُّهم يَلتَمِسُ أن يَأتَمَّ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَعمَلَ مِثلَ عَمَلِه. فخَرَجنا مَعَه، حتَّى أتَينا ذا الحُليفةِ، فولدَت أسماءُ بنتُ عُمَيسٍ مُحَمَّدَ بنَ أبي بَكرٍ، فأرسَلَت إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَيف أصنَعُ؟ قال: اغتَسِلي، واستَثفِري بثَوبٍ وأحرِمي. فصَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَسجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ القَصواءَ، حتَّى إذا استَوت به ناقَتُه على البَيداءِ، نَظَرتُ إلى مَدِّ بَصَري بَينَ يَدَيه، مِن راكِبٍ وماشٍ، وعن يَمينِه مِثُل ذلك، وعن يَسارِه مِثلُ ذلك، ومِن خَلفِه مِثلُ ذلك، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَ أظهُرِنا، وعليه يَنزِلُ القُرآنُ، وهو يَعرِفُ تَأويلَه، وما عَمِل به مِن شَيءٍ عَمِلنا به. فأهَلَّ بالتَّوحيدِ: لبَّيكَ اللهُمَّ لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شَريكَ لكَ لبَّيكَ، إنَّ الحَمدَ والنِّعمةَ لكَ والمُلكَ، لا شَريكَ لكَ، وأهَلَّ النَّاسُ بهذا الذي يُهلُّونَ به، فلم يَرُدَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم شَيئًا مِنه، ولزِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَلبيَتَه. قال جابرٌ رَضِيَ اللهُ عنه: لسنا نَنوي إلَّا الحَجَّ، لسنا نَعرِفُ العُمرةَ، حتَّى إذا أتَينا البَيتَ مَعَه، استَلمَ الرُّكنَ فرَمَل ثَلاثًا ومَشى أربَعًا، ثُمَّ نَفذَ إلى مَقامِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فقَرَأ: واتَّخِذوا مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى [البَقَرة: 125] ، فجَعَل المَقامَ بَينَه وبَينَ البَيتِ، فكان أبي يَقولُ -ولا أعلمُه ذَكَرَه إلَّا عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: كان يَقرَأُ في الرَّكعَتَينِ قُلْ هو اللهُ أحَدٌ وقُلْ يا أيُّها الكافِرونَ. ثُمَّ رَجَعَ إلى الرُّكنِ فاستَلمَه، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البابِ إلى الصَّفا، فلمَّا دَنا مِنَ الصَّفا قَرَأ: إنَّ الصَّفَا والمَروةَ مِن شَعائِرِ اللهِ [البَقَرة: 158] ، أبدَأُ بما بَدَأ اللهُ به، فبَدَأ بالصَّفا، فرَقِيَ عليه، حتَّى رَأى البَيتَ فاستَقبَل القِبلةَ، فوحَّدَ اللَّهَ وكَبَّرَه، وقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، له المُلكُ وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه، أنجَزَ وعدَه، ونَصَرَ عَبدَه، وهَزَمَ الأحزابَ وحدَه، ثُمَّ دَعا بَينَ ذلك، قال مِثلَ هذا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَل إلى المَروةِ، حتَّى إذا انصَبَّت قدَماه في بَطنِ الوادي سَعى، حتَّى إذا صَعِدَتا مَشى، حتَّى أتى المَروةَ، ففعَل على المَروةِ كَما فعَل على الصَّفا، حتَّى إذا كان آخِرُ طَوافِه على المَروةِ، فقال: لو أنِّي استَقبَلتُ مِن أمري ما استَدبَرتُ لم أسُقِ الهَديَ، وجَعَلتُها عُمرةً، فمَن كان مِنكُم ليسَ مَعَه هَديٌ فليَحِلَّ، وليَجعَلْها عُمرةً، فقامَ سُراقةُ بنُ مالكِ بنِ جُعشُمٍ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ألعامِنا هذا أم لأبَدٍ؟ فشَبَّكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصابعَه واحِدةً في الأُخرى، وقال: دَخَلتِ العُمرةُ في الحَجِّ، مَرَّتَينِ، لا، بَل لأبَدِ أبَدٍ. وقدِمَ عليٌّ مِنَ اليَمَنِ ببُدنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوجَدَ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها مِمَّن حَلَّ، ولبسَت ثيابًا صَبيغًا، واكتَحَلت، فأنكَرَ ذلك عليها، فقالت: إنَّ أبي أمَرَني بهذا، قال: فكان عليٌّ يَقولُ بالعِراقِ: فذَهَبتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحَرِّشًا على فاطِمةَ للذي صَنَعَت، مُستَفتيًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما ذَكَرَت عنه، فأخبَرتُه أنِّي أنكَرتُ ذلك عليها، فقال: صَدَقَت صَدَقَت، ماذا قُلتَ حينَ فرَضتَ الحَجَّ؟ قال: قُلتُ: اللهُمَّ إنِّي أُهلُّ بما أهَلَّ به رَسولُكَ، قال: فإنَّ مَعيَ الهَديَ، فلا تَحِلُّ، قال: فكان جَماعةُ الهَديِ الذي قدِمَ به عليٌّ مِنَ اليَمَنِ والذي أتى به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِائةً. قال: فحَلَّ النَّاسُ كُلُّهم وقَصَّروا، إلَّا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن كان مَعَه هَديٌ، فلمَّا كان يَومُ التَّرويةِ تَوجَّهوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ، ورَكِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصَلَّى بها الظُّهرَ والعَصرَ، والمَغرِبَ والعِشاءَ، والفَجرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَليلًا حتَّى طَلعَتِ الشَّمسُ، وأمَرَ بقُبَّةٍ مِن شَعَرٍ تُضرَبُ له بنَمِرةَ، فسارَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا تَشُكُّ قُرَيشٌ إلَّا أنَّه واقِفٌ عِندَ المَشعَرِ الحَرامِ كَما كانت قُرَيشٌ تَصنَعُ في الجاهليَّةِ، فأجازَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أتى عَرَفةَ، فوجَدَ القُبَّةَ قد ضُرِبَت له بنَمِرةَ، فنَزَل بها، حتَّى إذا زاغَتِ الشَّمسُ أمَرَ بالقَصواءِ، فرُحِلت له، فأتى بَطنَ الوادي، فخَطَبَ النَّاسَ وقال: إنَّ دِماءَكُم وأموالكُم حَرامٌ عليكُم، كَحُرمةِ يَومِكُم هذا، في شَهرِكُم هذا، في بَلدِكُم هذا، ألا كُلُّ شَيءٍ مِن أمرِ الجاهليَّةِ تَحتَ قدَمَيَّ مَوضوعٌ، ودِماءُ الجاهليَّةِ مَوضوعةٌ، وإنَّ أوَّلَ دَمٍ أضَعُ مِن دِمائِنا دَمُ ابنِ رَبيعةَ بنِ الحارِثِ، كان مُستَرضعًا في بَني سَعدٍ، فقَتَلته هُذَيلٌ، ورِبا الجاهليَّةِ مَوضوعٌ، وأوَّلُ رِبًا أضَعُ رِبانا؛ رِبا عبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ، فإنَّه مَوضوعٌ كُلُّه، فاتَّقوا اللَّهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكُم أخَذتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستَحللتُم فُروجَهنَّ بكَلمةِ اللهِ، ولكُم عليهنَّ أن لا يوطِئنَ فُرُشَكُم أحَدًا تَكرَهونَه، فإن فعَلنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكُم رِزقُهنَّ وكِسوتُهنَّ بالمَعروفِ، وقد تَرَكتُ فيكُم ما لن تَضِلُّوا بَعدَه إنِ اعتَصَمتُم به؛ كِتابَ اللهِ، وأنتُم تُسألونَ عنِّي، فما أنتُم قائِلونَ؟ قالوا: نَشهَدُ أنَّكَ قد بَلَّغتَ وأدَّيتَ ونَصَحتَ، فقال بإصبَعِه السَّبَّابةِ، يَرفعُها إلى السَّماءِ ويَنكُتُها إلى النَّاسِ: اللهُمَّ اشهَدْ، اللهُمَّ اشهَدْ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ أذَّنَ، ثُمَّ أقامَ فصَلَّى الظُّهرَ، ثُمَّ أقامَ فصَلَّى العَصرَ، ولم يُصَلِّ بَينَهما شَيئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أتى المَوقِفَ، فجَعَل بَطنَ ناقَتِه القَصواءِ إلى الصَّخَراتِ، وجَعَل حَبلَ المُشاةِ بَينَ يَدَيه، واستَقبَل القِبلةَ، فلم يَزَلْ واقِفًا حتَّى غَرَبَتِ الشَّمسُ، وذَهَبَتِ الصُّفرةُ قَليلًا، حتَّى غابَ القُرصُ، وأردَف أُسامةَ خَلفَه، ودَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد شَنَقَ للقَصواءِ الزِّمامَ، حتَّى إنَّ رَأسَها ليُصيبُ مَورِكَ رَحلِه، ويَقولُ بيَدِه اليُمنى: أيُّها النَّاسُ، السَّكينةَ السَّكينةَ، كُلَّما أتى حَبلًا مِنَ الحِبالِ أرخى لها قَليلًا حتَّى تَصعَدَ، حتَّى أتى المُزدَلفةَ، فصَلَّى بها المَغرِبَ والعِشاءَ بأذانٍ واحِدٍ وإقامَتَينِ، ولم يُسَبِّحْ بَينَهما شَيئًا، ثُمَّ اضطَجَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى طَلعَ الفجرُ، وصَلَّى الفجرَ حينَ تَبَيَّنَ له الصُّبحُ بأذانٍ وإقامةٍ. ثُمَّ رَكِبَ القَصواءَ حتَّى أتى المَشعَرَ الحَرامَ، فاستَقبَل القِبلةَ، فدَعاه وكَبَّرَه وهَلَّله ووحَّدَه، فلم يَزَلْ واقِفًا حتَّى أسفرَ جِدًّا، فدَفعَ قَبل أن تَطلُعَ الشَّمسُ، وأردَف الفَضلَ بنَ عبَّاسٍ، وكان رَجُلًا حَسَنَ الشَّعرِ أبيَضَ وسيمًا، فلمَّا دَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّت به ظُعُنٌ يَجرينَ، فطَفِقَ الفضلُ يَنظُرُ إليهنَّ، فوضَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه على وَجهِ الفَضلِ، فحَوَّل الفَضلُ وَجهَه إلى الشِّقِّ الآخَرِ يَنظُرُ، فحَوَّل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ على وَجهِ الفَضلِ، يَصرِفُ وجهَه مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ يَنظُرُ، حتَّى أتى بَطنَ مُحَسِّرٍ، فحَرَّكَ قَليلًا، ثُمَّ سَلكَ الطَّريقَ الوُسطى التي تَخرُجُ على الجَمرةِ الكُبرى، حتَّى أتى الجَمرةَ التي عِندَ الشَّجَرةِ، فرَماها بسَبعِ حَصَياتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصاةٍ مِنها، مِثل حَصى الخَذفِ، رَمى مِن بَطنِ الوادي، ثُمَّ انصَرَف إلى المَنحَرِ، فنَحَرَ ثَلاثًا وسِتِّينَ بيَدِه، ثُمَّ أعطى عَليًّا، فنَحَرَ ما غَبَرَ، وأشرَكَه في هَديِه، ثُمَّ أمَرَ مِن كُلِّ بَدَنةٍ ببَضعةٍ، فجُعِلَت في قِدرٍ، فطُبخَت، فأكَلا مِن لحمِها وشَرِبا مِن مَرَقِها. ثُمَّ رَكِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأفاضَ إلى البَيتِ، فصَلَّى بمَكَّةَ الظُّهرَ، فأتى بَني عَبدِ المُطَّلِبِ، يَسقونَ على زَمزَمَ، فقال: انزِعوا بَني عَبدِ المُطَّلِبِ، فلولا أن يَغلبَكُمُ النَّاسُ على سِقايَتِكُم لنَزَعتُ مَعَكُم، فناولوه دَلوًا فشَرِبَ مِنه. .
دَفعُ وَهمٍ:الآياتُ الدَّالَّةُ على أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ، كَقَولِ اللهِ تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] ، وقَولِه:
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 13] . وقَولِه:
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 22] ، وما كان نَحوَ ذلك ليسَت على مُقتَضى ظاهرِها بإطلاقٍ، بَل إنَّما يَنبَغي فَهمُها بقُيودٍ تَقَيَّدَت بها، حَسَبَما دَلَّت عليه الشَّريعةُ في وَضعِ المَصالحِ ودَفعِ المَفاسِدِ
[355] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/76). .
تَنبيهٌ:هذه القاعِدةُ يَخضَعُ القَولُ بالاختِلافِ فيها أوِ الإجماعِ عليها للتَّفريقِ بَينَ مَسألتَينِ أُصوليَّتَينِ شَهيرَتَينِ:
المَسألةُ الأولى: حُكمُ الأشياءِ قَبلَ وُرودِ الشَّرعِ
المَسألةُ الثَّانيةُ: حُكمُ الأشياءِ بَعدَ وُرودِ الشَّرعِ
فالخِلافُ وقَعَ في المَسألةِ الأولى ثُمَّ جَرَّ بَعضُهمُ الخِلافَ للمَسألةِ الثَّانيةِ؛ حَيثُ لم يُفرِّقْ بَينَهما. والصَّوابُ التَّفريقُ، وأنَّ المَسألةَ الثَّانيةَ مُجمَعٌ عليها.
وهذا ما سارَ عليه ابنُ تَيميَّةَ، فقال: (وذلك أنِّي لستُ أعلَمُ خِلافَ أحَدٍ مِنَ العُلماءِ السَّالفينِ في أنَّ ما لم يَجِئْ دَليلٌ بتَحريمِه فهو مُطلَقٌ غَيرُ مَحجورٍ، وقد نَصَّ على ذلك كَثيرٌ مِمَّن تَكَلَّمَ في أُصولِ الفِقهِ وفُروعِه وأحسَبُ بَعضَهم ذَكَر في ذلك الإجماعِ يَقينًا أو ظَنًّا كاليَقينِ. فإن قيل: كَيف يَكونُ في ذلك إجماعٌ، وقد عَلمتَ اختِلافَ النَّاسِ في الأعيانِ قَبلَ مَجيءِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ، هَل الأصلُ فيها الحَظرُ أوِ الإباحةُ؟ أو لا يُدرى ما الحُكمُ فيها؟ أو أنَّه لا حُكمَ لها أصلًا؟ واستِصحابُ الحالِ دَليلٌ مُتَّبَعٌ، وأنَّه قد ذَهَبَ بَعضُ مَن صَنَّف في أُصولِ الفِقهِ مِن أصحابِنا وغَيرِهم على أنَّ حُكمَ الأعيانِ الثَّابتَ لها قَبلَ الشَّرعِ مُستَصحَبٌ بَعدَ الشَّرعِ، وأنَّ مَن قال بأنَّ الأصلَ في الأعيانِ الحَظرُ، استَصحَبَ هذا الحُكمَ حتَّى يَقومَ دَليلُ الحِلِّ. فأقولُ: هذا قَولٌ مُتَأخِّرٌ لم يُؤثَرْ أصلُه عن أحَدٍ مِنَ السَّابقينَ مِمَّن له قَدَمٌ، وذلك أنَّه قد ثَبَتَ أنَّها بَعدَ مَجيءِ الرُّسُلِ على الإطلاقِ، وقد زال حُكمُ ذلك الأصلِ بالأدِلَّةِ السَّمعيَّةِ التي ذَكَرتُها، ولستُ أُنكِرُ أنَّ بَعضَ مَن لم يُحِطْ عِلمًا بمَدارِكِ الأحكامِ ولم يُؤتَ تَمييزًا في مَظانِّ الاشتِباهِ، رُبَّما سَحَبَ ذَيلَ ما قَبلَ الشَّرعِ على ما بَعدَه، إلَّا أنَّ هذا غَلَطٌ قَبيحٌ لو نُبِّهَ له لتَنَبَّهَ، مِثلُ الغَلَطِ في الحِسابِ، لا يَهتِكُ حَريمَ الإجماعِ، ولا يَثلِمُ سَنَنَ الاتِّباعِ)
[356] ((مجموع الفتاوى)) (21/ 538). .
وقال الزَّركَشيُّ: (الأصلُ في المَنافِعِ الإذنُ، وفي المَضارِّ المَنعُ، خِلافًا لبَعضِهم. وهذا عِندَنا مِنَ الأدِلَّةِ فيما بَعدَ وُرودِ الشَّرعِ. أعني أنَّ الدَّليلَ السَّمعيَّ دَلَّ على أنَّ الأصلَ ذلك فيهما إلَّا ما دَلَّ دَليلٌ خاصٌّ على خِلافِهما. أمَّا قَبلَه فقد سَبَقَتِ المَسألةُ في أوَّلِ الكِتابِ: "لا حُكمَ للأشياءِ قَبلَ الشَّرعِ"، ولم يَحكُموا هنا قَولًا بالوقفِ كَما هناكَ؛ لأنَّ الشَّرعَ ناقِلٌ. وقد خَلطَ بَعضُهمُ الصُّورَتَينِ، وأجرى الخِلافَ هنا أيضًا)
[357] ((البحر المحيط)) (8/8). .