المَطلبُ التَّاسِعُ: الأصلُ في الأعيانِ الطَّهارةُ
أوَّلًا: صِيغَةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَةِ: "الأصلُ في الأعيانِ الطَّهارةُ"
[358] يُنظر: ((شرح عمدة الفقهـ)) لابن تيمية (1/39)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (6/431)، ((التنبيه على مشكلات الهداية)) لابن أبي العز (1/328)، ((شرح المنهج المنتخب)) لابن المنجور (2/553)، ((سبل السلام)) للصنعاني (1/158). ، وصيغةِ: "الأصلُ في الأشياءِ الطَّهارةُ"
[359] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازة (5/361)، ((طرح التثريب)) للعراقي (2/114)، ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (4/264)، ((فتح الباري)) لابن حجر (3/492)، ((عمدة القاري)) للعيني (9/276)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/87). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالأصلُ في الأعيانِ أنَّها خُلِقَت طاهِرةً لمَنافِعِ العِبادِ، والنَّجاسةُ طارِئةٌ عليها، فلا يَجوزُ الحُكمُ بنَجاسَتِها إلَّا بدَليلٍ؛ فإنَّ النَّجاساتِ مَضبوطةٌ مَحصورةٌ، وما خَرَجَ عنِ الضَّبطِ والحَصرِ فهو في حُكمِ الطَّهارةِ، كَما يُقالُ فيما يَنقُضُ الوُضوءَ ويوجِبُ الغُسلَ، وما لا يَحِلُّ نِكاحُه، وشِبه ذلك؛ فإنَّه في المُتَقابِلاتِ تَجِدُ أحَدَ الجانِبَينِ فيها مَحصورًا مَضبوطًا، والجانِبُ الآخَرُ مُطلَقٌ مُرسَلٌ
[360] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/542)، ((حاشيتا قليوبي وعميرة)) (1/79). .
وعلى ذلك فلا يُطالَبُ مَن يَدَّعي طَهارةَ عَينٍ أو إباحَتَها بالدَّليلِ؛ لأنَّ دَليلَه الأصلُ والبَراءةُ، ولكِن يُطالَبُ مَن زَعَمَ أنَّ عَينًا مِنَ الأعيانِ نَجِسةٌ أو مُحَرَّمةٌ، فمَنِ ادَّعى نَجاسةَ شَيءٍ مِنَ الأشياءِ فعليه الدَّليلُ، فإن جاءَ بما يَصلُحُ للنَّقلِ عن هذا الأصلِ المَصحوبِ بالبَراءةِ الأصليَّةِ فذاكَ، وإلَّا فلا قَبولَ لقَولِه. وهذا أصلٌ عَظيمٌ مِن أُصولِ الشَّريعةِ، يَحتاجُ إليه الفقيهُ في كَثيرٍ مِنَ الأعيانِ المُختَلَفِ في نَجاسَتِها
[361] يُنظر: ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 62)، ((موسوعة أحكام الطهارة)) للدبيان (1/26). .
قال ابنُ حَزمٍ: (مَنِ ادَّعى نَجاسةً أو تَحريمًا لم يُصَدَّقْ إلَّا بدَليلِ مَن نَصَّ قُرآنٌ أو سُنَّةٌ صحيحةٌ)
[362] ((المحلى)) (6/19). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عن قاعِدةِ: (اليَقينُ لا يَزولُ بالشَّكِّ)، ووَجهُ تَفريعِها عنها أنَّ اليَقينَ الثَّابتَ في الأعيانِ أنَّها خُلقَت طاهِرةً، فلا تَتَغَيَّرُ عن هذا اليَقينِ إلَّا بيَقينٍ مِثلِه، ولا يَجوزُ الانتِقالُ عنه إلى النَّجاسةِ بالشَّكِّ. قال ابنُ تَيميَّةَ: (الأصلُ في الأعيانِ الطَّهارةُ، فيَجِبُ القَضاءُ بطَهارَتِه حتَّى يَجيئَنا ما يوجِبُ القَولَ بأنَّه نَجِسٌ)
[363] ((مجموع الفتاوى)) (21/591). . وقال أيضًا: (الأصلُ الجامِعُ طَهارةُ جَميعِ الأعيانِ حتَّى تَتَبَيَّنَ نَجاسَتُها، فكُلُّ ما لم يُبَيِّنْ لنا أنَّه نَجِسٌ فهو طاهِرٌ)
[364] ((مجموع الفتاوى)) (21/542). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والإجماعِ والقَواعدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:عُمومُ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وجُعِلَت لنا الأرضُ كُلُّها مَسجِدًا، وجُعِلت تُربَتُها لنا طَهورًا، إذا لم نَجِدِ الماءَ)) [365] أخرجه مسلم (522) من حديثِ حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: عن حُذَيفةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فُضِّلنا على النَّاسِ بثَلاثٍ: جُعِلَت صُفوفُنا كَصُفوفِ المَلائِكةِ، وجُعِلت لنا الأرضُ كُلُّها مَسجِدًا، وجُعِلت تُربَتُها لنا طَهورًا، إذا لم نَجِدِ الماءَ)) وذَكَرَ خَصلةً أُخرى. .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ بعُمومِه على أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الطَّهارةُ حتَّى تَتَحَقَّقَ النَّجاسةُ، وقد كانتِ الأُمَمُ المُتَقدِّمةُ لا يُصَلُّونَ إلَّا على أرضٍ يَتَحَقَّقونَ طَهارَتَها، وخَفَّف عن هذه الأُمَّةِ فأُبيحَ لهم أن يُصَلُّوا على ما لا يَتَحَقَّقونَ نَجاسَتَه
[366] يُنظر: ((طرح التثريب)) للعراقي (2/114). .
2- مِنَ الإجماعِ:فقد نَقَل ابنُ تيميَّةَ اتِّفاقَ الفُقَهاءِ على العَمَلِ بهذه القاعِدةِ
[367] قال: (الفُقَهاءُ كُلُّهمُ اتَّفقوا على أنَّ الأصلَ في الأعيانِ الطَّهارةُ، وأنَّ النَّجاساتِ مُحصاةٌ مُستَقصاةٌ، وما خَرَجَ عنِ الضَّبطِ والحَصرِ فهو طاهِرٌ). ((مجموع الفتاوى)) (21/542). .
3- مِنَ القَواعدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدةِ: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحةُ).
وَجهُ دَلالتِها على الطَّهارةِ:أنَّ الطَّاهرَ ما حَلَّ مُلابَسَتُه ومُباشَرَتُه وحَملُه في الصَّلاةِ. والنَّجِسُ بخِلافِه. وأكثَرُ الأدِلَّةِ السَّابقةِ تَجمَعُ جَميعَ وُجوهِ الانتِفاعِ بالأشياءِ: أكلًا وشُربًا ولُبسًا ومَسًّا وغَيرَ ذلك؛ فثَبَتَ دُخولُ الطَّهارةِ في الحِلِّ
[368] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/541). .
وأيضًا فإنَّ اللَّهَ تعالى أباحَ الانتِفاعَ بالأشياءِ كُلِّها، ولا يُباحُ الانتِفاعُ إلَّا بالطَّاهرِ
[369] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/64). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- طَهارةُ بَولِ ما يُؤكَلُ لحمُه؛ فإنَّ أكثَرَ السَّلَفِ على أنَّه طاهِرٌ؛ لأنَّ الأصلَ في الأعيانِ الطَّهارةُ، فلا يَجوزُ التَّنجيسُ إلَّا بدَليلٍ، ولا دَليلَ على النَّجاسةِ؛ إذ ليسَ في ذلك نَصٌّ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ صحيحٌ. ونَحنُ نَعلمُ أنَّ الصَّحابةَ كانوا أصحابَ إبِلٍ وغَنَمٍ، فالحاجةُ داعيةٌ إلى بَيانِ حُكمِها لو كانت نَجِسةً، وليسَتِ البَلوى في وُلوغِ الكَلبِ في الأواني أكثَرَ مِنَ البَلوى في أبوالِ المَواشي ورَوثِها، فلمَّا لم يَأتِ بَيانٌ بأنَّها نَجِسةٌ عُلِمَ أنَّها طاهِرةٌ
[370] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/615)، ((موسوعة أحكام الطهارة)) للدبيان (6/180). .
2- تَدخُلُ هذه القاعِدةُ في كَثيرٍ مِنَ التَّطبيقاتِ المُعاصِرةِ؛ فإنَّ جَميعَ ما في الكَونِ إمَّا جَمادٌ أو حَيَوانٌ أو فَضلاتٌ. والأصلُ في جَميعِ هذه الأشياءِ الطَّهارةُ ما لم تَثبُتْ نَجاسَتُها بدَليلٍ شَرعيٍّ
[371] يُنظر: ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (1/292) و(7/5264). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِدَفعُ تَعارُضٍ:إذا تَعارَضَت هذه القاعِدةُ مَعَ قاعِدةِ: (الأصلُ في الأرواثِ النَّجاسةُ) قُدِّمَت قاعِدةُ: (الأصلُ في الأعيانِ الطَّهارةُ).
ومِثالُ ذلك: إذا شَكَّ في الرَّوثةِ: هَل هيَ مِن رَوثِ ما يُؤكَلُ لحمُه أو مِن رَوثِ ما لا يُؤكَلُ لحمُه؟ ففيها قَولانِ للعُلماءِ: أحَدُهما: يُحكَمُ بنَجاسَتِها؛ لأنَّ الأصلَ في الأرواثِ النَّجاسةُ. والثَّاني: وهو الأصَحُّ: يُحكَمُ بطَهارَتِها؛ لأنَّ الأصلَ في الأعيانِ الطَّهارةُ. ودَعوى أنَّ الأصلَ في الأرواثِ النَّجاسةُ مَمنوعٌ؛ فلم يَدُلَّ على ذلك لا نَصٌّ ولا إجماعٌ
[372] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/74). .