موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: القَرابةُ سَبَبٌ كامِلٌ لاستِحقاقِ الوِلايةِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "القَرابةُ سَبَبٌ كامِلٌ لاستِحقاقِ الوِلايةِ" [6625] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/215)، ((البناية)) للعيني (5/94). ، وصيغةِ: "سَبَبُ الوِلايةِ: القَرابةُ" [6626] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/369)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (20/182)، ((الاختيار)) للموصلي (3/97)، ((الممتع)) لابن المنجى (3/565). ، وصيغةِ: "قُربُ القَرابةِ سَبَبُ زيادةِ الوِلايةِ" [6627] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/238). ، وصيغةِ: "القَرابةُ سَبَبٌ للإرثِ والوِلايةِ" [6628] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/395). ، وصيغةِ: "القَرابةُ سَبَبٌ للإرثِ والوِلايةِ" [6629] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (7/326). ، وصيغةِ: "وِلايةُ القَرابةِ مُقدَّمةٌ على وِلايةِ السُّلطانِ" [6630] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (4/119). ، وصيغةِ: "وِلايةُ القَرابةِ فوقَ وِلايةِ السَّلطَنةِ" [6631] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/171). ، وصيغةِ: "استِحقاقُ الوِلايةِ بالقُربِ أولى مِنِ استِحقاقِها بالرِّئاسةِ مَعَ البُعدِ" [6632] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (9/110)، ((بحر المذهب)) للروياني (9/108). ، وصيغةِ: "القَرابةُ سَبَبٌ لإيجابِ الصِّلةِ في مالِ القَريبِ دونَ غَيرِه" [6633] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/145). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه يُقدَّمُ مِن جِهاتِ الوِلايةِ: القَرابةُ؛ لاختِصاصِ الأقارِبِ بزيادةِ الشَّفَقةِ، فاستِحقاقُ الوِلايةِ إنَّما هو باعتِبارِ الشَّفَقةِ المَوجودةِ بالقَرابةِ، وسَبَبُ ثُبوتِها هو أصلُ القَرابةِ وذاتُها، لا كَمالُ القُربةِ، وإنَّما الكَمالُ شَرطُ التَّقدُّمِ، ويَكونُ قُربُ القَرابةِ سَبَبَ زيادةِ الوِلايةِ. والقَريبُ بالتَّصَرُّفِ قائِمٌ مَقامَ الأبِ في التَّصَرُّفِ في النَّفسِ كالوصيِّ في التَّصَرُّفِ في المالِ، وكما أنَّ عَقدَ الوصيِّ يَلزَمُ ويَكونُ كَعَقدِ الأبِ فيما قامَ فِعلُه مَقامَه، فكَذلك عَقدُ الوليِّ. وشَرطُ وِلايةِ القَرابةِ: عَجزُ المَولى عليه عَن تَحصيلِ النَّظَرِ بنَفسِه مَعَ حاجَتِه إلى التَّحصيلِ؛ فالوِلايةُ لَم تُشرَعْ في غَيرِ مَوضِعِ النَّظَرِ صيانةً عَنِ الإفضاءِ إلى الضَّرَرِ [6634] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/215 و223)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/238)، ((البناية)) للعيني (5/94)، ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (4/110). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكريمِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى ببَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 75] .
- وقال اللهُ سُبحانَه: النَّبِيُّ أَوْلَى بالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى ببَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب: 6] .
وَجهُ الدَّلالةِ من الآيتينِ:
أنَّ أولَويَّةَ ذَوي الأرحامِ ببَعضِهم في هاتَينِ الآيَتَينِ شامِلةٌ لأحَقِّيَّتِهم بوِلايةِ النِّكاحِ والمالِ وغَيرِه مِنَ الوِلاياتِ الخاصَّةِ، كما تَشمَلُ الأولَويَّةَ بأحَقِّيَّةِ الإرثِ والانتِسابِ ونَحوِهما [6635] يُنظر: ((الولاية في النكاح)) للعوفي (2/61). ويُنظر أيضًا: ((مناهج التحصيل)) للرجراجي (3/334). .
- وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: 32] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا خِطابٌ لعامَّةِ المُؤمِنينَ؛ لأنَّه بُنيَ على قَولِه تَعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31] ، ثُمَّ خُصَّ مِنه الأجانِبُ، فبَقيَتِ الأقارِبُ تَحتَه إلَّا مَن خُصَّ بدَليلٍ [6636] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/238). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عَن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أيُّما امرَأةٍ نَكَحَت بغَيرِ إذنِ وليِّها فنِكاحُها باطِلٌ، فنِكاحُها باطِلٌ، فنِكاحُها باطِلٌ، فإن دَخَلَ بها فلَها المَهرُ بما استَحَلَّ مِن فرجِها، فإنِ اشتَجَروا فالسُّلطانُ وليُّ مَن لا وليَّ له )) [6637] أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1102) واللفظ له، وابن ماجه (1879). صحَّحه ابنُ معين والإمام أحمد كما في ((المقرر على أبواب المحرر)) ليوسف بن ماجد (2/112)، وابن حبان في ((صحيحهـ)) (4074)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (2744)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/105)، وابن الجوزي كما في ((تنقيح التحقيق)) لمحمد ابن عبد الهادي (4/286)، والقرطبي المفسر في ((التفسير)) (3/464)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/553)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (9/97)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (3/21)، وقال أبو موسى المديني في ((اللطائف)) (556): ثابتٌ مشهورٌ يُحتَجُّ به. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ وِلايةَ القَرابةِ مُقدَّمةٌ على وِلايةِ السُّلطانِ [6638] يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (4/119). .
3- مِنَ الإجماعِ:
وقد نَقَلَه الكاسانيُّ فيما يَتَعَلَّقُ بقَرابةِ الأبِ والجَدِّ [6639] قال: (تَثبُتُ الوِلايةُ للأبِ والجَدِّ بالنَّصِّ والإجماعِ؛ لكمالِ شَفَقتِهما). ((بدائع الصنائع)) (2/238). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- غَيرُ الأبِ والجَدِّ كالأخِ والعَمِّ لَهم وِلايةُ الإنكاحِ عِندَ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ سَبَبَ وِلايةِ التَّنفيذِ في الأبِ والجَدِّ هو مُطلَقُ القَرابةِ لا القَرابةُ القَريبةُ، وإنَّما قُربُ القَرابةِ سَبَبُ زيادةِ الوِلايةِ، وهيَ وِلايةُ الإلزامِ؛ لأنَّ مُطلَقَ القَرابةِ حاصِلٌ على أصلِ الشَّفَقةِ، أي شَفَقةٌ زائِدةٌ على شَفَقةِ الجِنسِ وشَفَقةِ الإسلامِ، وهيَ داعيةٌ إلى تَحصيلِ النَّظَرِ في حَقِّ المَولَّى عليه. وشَرطُها: عَجزُ المَولى عليه عَن تَحصيلِ النَّظَرِ بنَفسِه مَعَ حاجَتِه إلى التَّحصيلِ؛ لأنَّ مَصالِحَ النِّكاحِ مُضَمَّنةٌ تَحتَ الكَفاءةِ، والكُفءُ عَزيزُ الوُجودِ فيَحتاجُ إلى إحرازِه للحالِ لاستيفاءِ مَصالِحِ النِّكاحِ بَعدَ البُلوغِ. وفائِدَتُها: وُقوعُها وسيلةً إلى ما وُضِعَ النِّكاحُ له. وكُلُّ ذلك مَوجودٌ في إنكاحِ الأخِ والعَمِّ، فيُنَفَّذُ [6640] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/238). .
‌2- السُّلطانُ لا يُزَوِّجُ إلَّا بَعدَ فقدِ القَريبِ؛ لأنَّ وِلايةَ القَرابةِ فوقَ وِلايةِ السَّلطَنةِ [6641] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (3/171). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
فائدةٌ:
الوِلايةُ في النِّكاحِ مُرَتَّبةٌ، وتَرتيبُ العَصَبةِ في الوِلايةِ كَتَرتيبِهم في الإرثِ، فيُقدَّمُ مَن كان مِن جِهةِ البُنوَّةِ، أي: الابنُ وابنُ الابنِ وإن نَزَلَ، ثُمَّ مَن كان مِن جِهةِ الأُبوَّةِ، أي: الأبُ وأبو الأبِ وإن عَلا، ثُمَّ مَن كان مِن جِهةِ الأُخوَّةِ، أي: الأخُ الشَّقيقُ والأخُ لأبٍ وابنُ كُلٍّ مِنهما وإن نَزَلَ، ثُمَّ مَن كان مِن جِهةِ العُمومةِ، أي: العَمُّ الشَّقيقُ والعَمُّ لأبٍ وابنُ كُلٍّ مِنهما وإن نَزَلَ، ويُسَمَّى هذا تَقديمًا بالجِهةِ.
وإذا اجتَمَعَ عِدَّةُ عَصَباتٍ مِن جِهةٍ واحِدةٍ واستَوفى كُلٌّ مِنهم شُروطَ الوِلايةِ قُدِّمَ أقرَبُهم دَرَجةً إلى المَولى عليه، فيُقدَّمُ الابنُ على ابنِ الابنِ.
وإذا اجتَمَعَ عِدَّةُ عَصَباتٍ مِن جِهةٍ واحِدةٍ ودَرَجةٍ واحِدةٍ قُدِّمَ أقواهم قَرابةً بالمَولى عليه، فيُقدَّمُ الأخُ الشَّقيقُ على الأخِ لأبٍ.
أمَّا إذا اجتَمَعَ عِدَّةُ عَصَباتٍ مِن جِهةٍ واحِدةٍ ودَرَجةٍ واحِدةٍ وفي قوةِ قَرابةٍ واحِدةٍ، كابنَينِ أو أخَوينِ شَقيقَينِ، واستَوفى كُلٌّ مِنهما شُروطَ الوِلايةِ، فإنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما له وِلايةُ التَّزويجِ؛ لأنَّه لا مُرَجِّحَ لأحَدِهما على الآخَرِ، وأيُّ واحِدٍ مِنهما إذا انفَرَدَ بتَزويجِ الصَّغيرِ أو مَن في حُكمِه صَحَّ عَقدُه [6642] يُنظر: ((أحكام الأحوال الشخصية)) لخلاف (ص: 59). .
استثناءٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ: وِلايةُ ذَوي الأرحامِ في النِّكاحِ -وهمُ القَرابةُ مِن جِهةِ الأُمِّ- فلا وِلايةَ لَهم عِندَ الجُمهورِ، وإنَّما الوِلايةُ في النِّكاحِ خاصَّةً بالعَصَباتِ، وهمُ القَرابةُ مِن جِهةِ الأبِ، وفي الذُّكورِ مِنهم خاصَّةً، ضَرورةَ أنَّ المَرأةَ مُوَلًّى عليها في النِّكاحِ -عِندَهم- فلا تَلي نِكاحَ غَيرِها، فالوِلايةُ في هذا البابِ مُعتَبَرةٌ بجِهةِ الآباءِ لا بجِهةِ الأُمَّهاتِ [6643] يُنظر: ((الولاية في النكاح)) للعوفي (2/60). .

انظر أيضا: