المَطلَبُ الرَّابِعُ: يُقدَّمُ في كُلِّ وِلايةٍ مَن هو أقومُ بمَصالِحِها
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "يُقدَّمُ في كُلِّ وِلايةٍ مَن هو أقومُ بمَصالِحِها"
[6671] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (9/3949)، ((المنثور)) للزركشي (1/388). ، وصيغةِ: "يُقدِّمُ الشَّرعُ في كُلِّ وِلايةٍ مَن هو أقومُ بمَصالِحِها"
[6672] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (4/246). ، وصيغةِ: "يُقدِّمُ الشَّرعُ في كُلِّ وِلايةٍ مَن هو أقومُ بمَصالِحِ تلك الوِلايةِ"
[6673] يُنظر: ((الإتقان والإحكام)) لميارة (1/270). ، وصيغةِ: "الضَّابِطُ في الوِلاياتِ كُلِّها أنَّا لا نُقدِّمُ فيها إلَّا أقومَ النَّاسِ بجَلبِ مَصالِحِها ودَرءِ مَفاسِدِها"
[6674] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/76)، ((حسن السلوك)) لابن الموصلي (ص: 89). ، وصيغةِ: "يُقدَّمُ في كُلِّ وِلايةٍ مَن هو أدرى بمَصالِحِها"
[6675] يُنظر: ((البهجة)) للتسولي (1/646). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه يُقدَّمُ في الوِلاياتِ كُلِّها الأعرَفُ بأركانِها وشَرائِطِها وسُنَنِها وآدابِها وسائِرِ مَصالِحِها ومَفاسِدِها، مَعَ القُدرةِ على جَلبِ مَصالِحِها ودَرءِ مَفاسِدِها، فيُقدَّمُ في كُلِّ وِلايةٍ مَن هو أعلَمُ بما تَقتَضيه وِلايَتُه مِنَ الأعمالِ، وما تَتَوقَّفُ عليه مِنَ المَواهبِ والدِّرايةِ، فلَيسَ ما يُشتَرَطُ في القاضي يُشتَرَطُ في قائِدِ الجَيشِ مَثَلًا، وبِمِقدارِ التَّفاوُتِ في الخِصالِ التي تَقتَضيها إحدى الوِلاياتِ يَكونُ تَرجيحُ مَن تُسنَدُ إلَيه الوِلايةُ على غَيرِه؛ حِرصًا على حِفظِ مَصالِحِ الأُمَّةِ، فيُقدَّمُ في كُلِّ وِلايةٍ مَن هو أقوى كَفاءةً لإتقانِ أعمالِها، وأشَدُّ اضطِلاعًا بمُمارَسَتِها.
ويَتَحَرَّرُ بهذه القاعِدةِ الفَرقُ بَينَ مَن يَصِحُّ تَقديمُه وبَينَ مَن يَصِحُّ تَأخيرُه، وذلك عامٌّ في الصَّلاةِ والقَضاءِ والأوصياءِ والكُفَلاءِ في الحَضانةِ وفي غَيرِها، ووِلايةِ النِّكاحِ وصَلاةِ الجَنازةِ، وكَثيرٌ مِن أبوابِ الفِقه يُحتاجُ فيه إلى مَعرِفةِ هذا الفَرقِ وتَحريرِ ضابِطِه. فإنِ استَوى اثنانِ في مَقاصِدِ الوِلاياتِ أُقرِعَ بَينَهما.
وعِندَما يُقدَّمُ في كُلِّ حُكمٍ خاصٍّ الأعرَفُ به الأقومُ بمَصالِحِه فلا يَضُرُّه الجَهلُ بأحكامِ غَيرِه، وبِذلك يَكونُ المُقدَّمُ في بابٍ رُبَّما أُخِّرَ في بابٍ آخَرَ، كالنِّساء مُقدَّماتٌ في بابِ الحَضانةِ على الرِّجالِ؛ لأنَّهنَّ أصبَرُ على أخلاقِ الصِّبيانِ وأشَدُّ شَفَقةً ورَأفةً وأقَلُّ أنَفةً عَن قاذوراتِ الأطفالِ، والرِّجالُ على العَكسِ مِن ذلك في هذه الأحوالِ؛ فقدِّمنَ لذلك وأُخِّرَ الرِّجالُ عَنهنَّ، وأُخِّرنَ في الإمامةِ والحُروبِ وغَيرِهما مِنَ المَناصِبِ؛ لأنَّ الرِّجالَ أقومُ بمَصالِحِ تلك الوِلاياتِ مِنهنَّ؛ لخَورِ طَبعِها في الحُروبِ، ومُلاقاةِ الأعداءِ في الغالِبِ.
وتُشتَرَطُ العَدالةُ في نَظَرِ الإنسانِ لمَصالِحِ غَيرِه؛ لتَكونَ عَدالَتُه وازِعةً عَنِ الخيانةِ والتَّقصيرِ في جَلبِ مَصالِحِ المَولَّى عليه ودَفعِ المَفاسِدِ عَنه، وقد يَسقُطُ شَرطُ العَدالةِ لكَونِ الطَّبعِ قائِمًا مَقامَها في جَلبِ المَصالِحِ ودَرءِ المَفاسِدِ كَعَدالةِ المَولى في النِّكاحِ والحَضانةِ؛ لأنَّ طَبعَ المَولى والحاضِنِ يَحُثَّانِ على تَحصيلِ مَصالِحِ النِّكاحِ والحَضانةِ ودَفعِ المَفاسِدِ عَنِ المَولى عليهم، وشَفَقةُ القَرابةِ تَحُثُّ على القيامِ بمَصالِحِ الأطفالِ ودَفعِ المَفاسِدِ عنهم
[6676] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) (1/76)، ((الفوائد)) (ص: 80) كلاهما للعز بن عبد السلام، ((الفروق)) (2/158)، ((الذخيرة)) (10/42)، ((نفائس الأصول)) (9/3949) جميعها للقرافي، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (30/181). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، وفِعلِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:- عَن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لكُلِّ أُمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ هذه الأُمَّةِ أبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ )) [6677] أخرجه البخاري (4382) واللفظ له، ومسلم (2419). .
- وعَن حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((جاءَ العاقِبُ والسَّيِّدُ صاحِبا نَجرانَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يُريدانِ أن يُلاعِناه، قال: فقال أحَدُهما لصاحِبِه: لا تَفعَل؛ فواللهِ لَئِن كان نَبيًّا فلاعَنَّا، لا نُفلِحُ نَحنُ ولا عَقِبُنا مِن بَعدِنا، قالا: إنَّا نُعطيكَ ما سَألتَنا، وابعَثْ مَعَنا رَجُلًا أمينًا، ولا تَبعَثْ مَعَنا إلَّا أمينًا، فقال: لَأبعَثَنَّ مَعَكُم رَجُلًا أمينًا حَقَّ أمينٍ، فاستَشرَفَ له أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: قُم يا أبا عُبَيدةَ بنَ الجَرَّاحِ، فلَمَّا قامَ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا أمينُ هذه الأُمَّةِ )) [6678] أخرجه البخاري (4380) واللفظ له، ومسلم (2420). .
- وعَن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ألا تَستَعمِلُني؟ قال: فضَرَبَ بيَدِه على مَنكِبي. ثُمَّ قال:
((يا أبا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعيفٌ، وإنَّها أمانةٌ، وإنَّها يَومَ القيامةِ خِزيٌ ونَدامةٌ، إلَّا مَن أخَذَها بحَقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها )) [6679] أخرجه مسلم (1825). .
وَجهُ الدَّلالةِ:كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقدِّمُ مِن أصحابِه الأقومَ بحَسَبِ المُهمَّةِ التي يَنتَدِبُهم إلَيها في كُلِّ شَيءٍ كما بَعَثَ أبا عُبَيدةَ بنَ الجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عنه لأمانَتِه. فالمُؤمِنونَ يَكونُ فيهمُ القَويُّ، ويَكونُ فيهمُ الضَّعيفُ، وقد ظَنَّ أبا ذَرٍّ أنَّه يَصلُحُ له العَمَلُ، فعَلِمَ مِنه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَعفَه فأخبَرَه بأنَّه ضَعيفٌ عَنِ القيامِ بما يَتَعَيَّنُ على الأميرِ مِن مُراعاةِ مَصالِحِ رَعيَّتِه الدُّنيَويَّةِ والدِّينيَّةِ، ووَجهُ ضَعفِ أبي ذَرٍّ عَن ذلك أنَّ الغالِبَ عليه كان الزُّهدَ المُفرِطَ واحتِقارَ الدُّنيا وتَركَ الاحتِفالِ بها، ومَن كان هذا حالَه لَم يَعتَنِ بمَصالِحِ الدُّنيا ولا بأموالِها اللَّذَينِ بمُراعاتِهما تَنتَظِمُ مَصالِحُ الدِّينِ ويَتِمُّ أمرُه. وقد كان أبو ذَرٍّ أفرَطَ في الزُّهدِ في الدُّنيا، حَتَّى انتَهى به الحالُ إلى أن يُفتيَ بتَحريمِ الجَمعِ للمالِ وإن أُخرِجَت زَكاتُه، وكان يَرى أنَّه الكَنزُ الذي توعَّدَ اللهُ عليه بكَيِّ الوُجوهِ والجُنوبِ والظُّهورِ
[6680] يُنظر: ((الإفصاح)) لابن هبيرة (2/196)، ((المفهم)) للقرطبي (4/21). .
2- مِن فِعلِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم:ومن ذلك
[6681] يُنظر: ((الفوائد)) للعز بن عبد السلام (ص: 84). :
لَمَّا رَأى أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه أصلَحَ للوِلايةِ مِن غَيرِه أوصى له بها، وصَدَقَت فِراسَتُه.
ولَمَّا رَأى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه فضلَ السِّتَّةِ رَضِيَ اللهُ عنهم على مَن سِواهم ولَم يَظهَرْ له الأصلَحُ مِنهم حَصَرَها فيهم.
ولَمَّا رَأى عبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه أصلَحَ أخرَجَ نَفسَه مِنها؛ إذ لا يَجوزُ التَّقدُّمُ على الأصلَحِ، فلَمَّا فوَّضوا أمرَ التَّوليةِ إلَيه فوَّضَ الخِلافةَ إلى عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَم يَتَمَكَّنْ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه مِنَ الوصيَّةِ.
3- مِنَ القواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدةِ: (المَرجِعُ في كُلِّ شَيءٍ إلى الصَّالِحينَ مِن أهلِ الخِبرةِ بهـ).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- يُقدَّمُ في إمامةِ الصَّلاةِ مَن هو أعرَفُ بأحكامِها وعَوارِضِ سَهوِها واستِخلافِها وغَيرِ ذلك مِن عَوارِضِها ومَصالِحِها، كالعِلمِ بأركانِها وشَرائِطِها وسُنَنِها وآدابِها وسائِرِ مَصالِحِها ومُبطِلاتِها، فيُقدَّمُ الفَقيهُ القارِئُ على غَيرِه، ويُقدَّمُ الأفقَهُ على الأقرَأِ؛ لأنَّ الفَقيهَ أعرَفُ باختِلالِ الأركانِ والشَّرائِطِ، وبِما يَطرَأُ على الصَّلاةِ مِنَ المُفسِداتِ، وكَذلك يُقدَّمُ الأورَعُ على الورِعِ، لأنَّ ورَعَه يَحُثُّه على إكمالِ الشَّرائِطِ والسُّنَنِ والأركانِ، ويَكونُ أقومَ إذًا بمَصلَحةِ الصَّلاةِ. وقدَّمَ بَعضُ الشَّافِعيَّةِ بنَظافةِ الثِّيابِ؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّ المُتَنَزِّهَ مِنَ الأقذارِ التي لَيسَت بأنجاسٍ أنَّه يَتَنَزَّهُ عَنِ النَّجاساتِ، فيَكونُ أقومَ بشَرطِ الصَّلاةِ. وكَذلك يُقدَّمُ البَصيرُ على الأعمى عِندَ بَعضِهم؛ لأنَّه يَرى مِنَ النَّجاساتِ ما لا يَراه الأعمى؛ فيَكونُ أشَدَّ تَحَرُّزًا مِنَ النَّجاساتِ التي اجتِنابُها شَرطٌ في صِحَّةِ الصَّلاةِ
[6682] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) (1/76)، ((الفوائد)) (ص: 80) كلاهما للعز بن عبد السلام، ((الفروق)) للقرافي (2/158). .
2- تُقدَّمُ النِّساءُ على الرِّجالِ في الحَضانةِ؛ لأنَّهنَّ أعرَفُ بالتَّربيةِ وأشفَقُ على الأطفالِ، وتُقدَّمُ الأُمُّ على سائِرِ الأقارِبِ؛ لفَرطِ حُنوِّها وشَفَقَتِها على طِفلِها. وتُقدَّمُ الأُمُّ الجاهلةُ بأحكامِ الحَضانةِ على العَمَّةِ العالِمةِ بأحكامِها؛ لأنَّ طَبعَها يَحُثُّها على مَعرِفةِ مَصالِحِ الطِّفلِ وعَلى القيامِ بها، وحَثُّ الطَّبعِ أقوى مِن حَثِّ الشَّرعِ
[6683] يُنظر: ((الفوائد)) للعز بن عبد السلام (ص: 80). .
3- يُقدَّمُ الآباءُ والأجدادُ على الحُكَّامِ في النَّظَرِ في مَصالِحِ أموالِ الأطفالِ والمَجانينِ؛ لأنَّ فرطَ الشَّفَقةِ يَحُثُّهم على المُبالَغةِ على جَلبِ المَصالِحِ ودَرءِ المَفاسِدِ. ويُقدَّمُ في وِلايةِ الأيتامِ الأعرَفُ بالأحكامِ المُتَعَلِّقةِ بالأيتامِ، وبِمَصالِحِ التَّصَرُّفِ لَهم، ودَرءِ المَفاسِدِ عَنهم وعَن أموالِهم، فيُقدَّمُ مَن هو أعلَمُ بتَنميةِ أموالِ اليَتامى، وتَقديرِ أموالِ النَّفَقاتِ وغَيرِ ذلك، مَعَ الشَّفَقةِ والرَّحمةِ على الأيتامِ
[6684] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) (1/76)، ((الفوائد)) (ص: 81) كلاهما للعز بن عبد السلام، ((الفروق)) للقرافي (2/158). .
4- يُقدَّمُ في وِلايةِ الحُروبِ أشجَعُ النَّاسِ، وأعرَفُهم بمَكائِدِ الحُروبِ وخُدَعِ القِتالِ، وسياسةِ الجُيوشِ، والصَّولةِ على الأعداءِ، والهَيبةِ عليهم، مَعَ النَّجدةِ والشَّجاعةِ وحُسنِ السِّيرةِ في الاتباعِ، فإنِ استَووا فإن كانتِ الجِهةُ واحِدةً تَخَيَّرَ الإمامُ، ولَه أن يُقرِعَ بَينَهم كَي لا يَجِدَ بَعضُهم على الإمامِ بتَقديمِ غَيرِه عليه، وإن تَعَدَّدَتِ الجِهاتُ صُرِفَ بكُلِّ واحِدٍ مِنهم إلى الجِهةِ التي تَليقُ به
[6685] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/75)، ((الذخيرة)) للقرافي (10/42)، ((حسن السلوك)) لابن الموصلي (ص: 89). .