المَطلَبُ الخامِسُ: ما صَحَّ فيه الاستِنابةُ إذا فعَلَه المُستَنابُ وقَعَ عَنِ المُستَنيبِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "ما صَحَّ فيه الاستِنابةُ إذا فعَلَه المُستَنابُ وقَعَ عَنِ المُستَنيبِ"
[6686] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (4/1651). ، وصيغةِ: "ما صَحَّتِ الاستِنابةُ فيه، فإذا فعَلَه المُستَنابُ وقَعَ عَنِ المُستَنيبِ"
[6687] يُنظر: ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى، من الاعتكاف للبيوع (1/91). ، وصيغةِ: "كُلُّ ما يَفعَلُه النَّائِبُ: عَنِ المُستَنيبِ"
[6688] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (5/27)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (8/63). ، وصيغةِ: "فِعلُ النَّائِبِ كَفِعلِ المَنوبِ عنه"
[6689] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (3/99)، ((الهداية)) للمرغيناني (3/22)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (3/182)، ((الجوهرة النيرة)) للحداد (2/32). ، وصيغةِ: "حُكمُ فِعلِ النَّائِبِ يَظهَرُ في حَقِّ المَنوبِ عنه"
[6690] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (21/151). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ ما تَصِحُّ فيه الاستِنابةُ مِنَ العِباداتِ إذا فعَلَه النَّائِبُ وقَعَ عَنِ المُستَنيبِ، فالمُستَنابُ مَتى فعَلَ عَنِ المُستَنيبِ نَفَعَته نيابَتُه، وبَرِئَت ذِمَّةُ المُستَنيبِ. ويُشتَرَطُ لذلك تَقديمُ النِّيَّةِ مِنَ النَّائِبِ؛ لأنَّ ما تَدخُلُه النِّيابةُ مِنَ الأعمالِ لا يَحصُلُ للمُستَنيبِ إلَّا بالنِّيَّةِ مِنَ النَّائِبِ
[6691] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (4/1651)، ((بحر المذهب)) للروياني (3/364)، ((الفروع)) لابن مفلح (3/425)، ((الإنصاف)) للمرداوي (6/259). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ:
1- عَن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال:
((جاءَتِ امرَأةٌ مِن خَثعَم عامَ حَجَّةِ الوداعِ، قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فريضةَ اللهِ على عِبادِه في الحَجِّ أدرَكَت أبي شَيخًا كَبيرًا، لا يَستَطيعُ أن يَستَويَ على الرَّاحِلةِ، فهَل يَقضي عَنه أن أحُجَّ عَنه؟ قال: نَعَم )) [6692] أخرجه البخاري (1854)، ومسلم (1334). .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الحَديثِ دَلالةُ جَوازِ الاستِنابةِ في الحَجِّ، وأنَّ مَن حَجَّ عَن غَيرِه فقد وقَعَ الحَجُّ عَنِ المُستَنيبِ. وفيه جَوازُ نيابةِ المَرأةِ عَنِ الرَّجُلِ وعَكسُه أولى، ويَكفي أن يَنويَ النَّائِبُ عَنِ المُستَنيبِ، وإن لَم يُسَمِّه لَفظًا
[6693] يُنظر: ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى، من الاعتكاف للبيوع (1/90)، ((المغني)) لابن قدامة (5/20)، ((فتح الباري)) لابن حجر (4/70)، ((شرح منتهى الإرادات)) لابن النجار (1/519). .
2- عَن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما
((أنَّ امرَأةً جاءَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: إنَّ أُمِّي نَذَرَت أن تَحُجَّ فماتَت قَبلَ أن تَحُجَّ، أفَأحُجُّ عَنها؟ قال: نَعَم، حُجِّي عَنها، أرَأيتِ لَو كان على أُمِّكِ دَينٌ أكُنتِ قاضيَتَه؟ قالت: نَعَم، فقال: اقضوا اللهَ الذي له؛ فإنَّ اللهَ أحَقُّ بالوفاءِ )) [6694] أخرجه البخاري (7315). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَبَّهَ قَضاءَ الحَجِّ بقَضاءِ الدَّينِ، فكَما أنَّ قَضاءَ الدَّينِ يُسقِطُ عَنها فرضَها، ويَقَعُ عَنها، فكَذلك قَضاءُ الحَجِّ، فدَلَّ على أنَّ ما صَحَّتِ الاستِنابةُ فيه، ففَعَلَه المُستَنابُ، وقَعَ عَنِ المُستَنيبِ
[6695] يُنظر: ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى، من الاعتكاف للبيوع (1/90). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- يَجوزُ أن يَستَنيبَ في دَفعِ الزَّكاةِ مَن ليس أهلًا للزَّكاةِ؛ فإنَّ المُسقِطَ للوُجوبِ فيها إنَّما هو المالُ، وهو للمُستَنيبِ لا للنَّائِبِ
[6696] يُنظر: ((مطالع الدقائق)) للإسنوي (2/135). .
2- مِن أفعالِ الحَجِّ ما لا تَعَلُّقَ له بالبَيتِ، كَرَميِ الجِمارِ، فهذا تَدخُلُه النِّيابةُ؛ للضَّرورةِ، إلَّا أنَّه لَمَّا كان مِنَ الأفعالِ لَم يَجُزْ أن يَفعَلَه النَّائِبُ عَن نَفسِه وعَنِ المُستَنيبِ فِعلًا واحِدًا، ولَكِن يَفعَلُه عَن نَفسِه، ثُمَّ يَفعَلُه عَنِ المُستَنيبِ ثانيةً، ولا يَصِحُّ رَميُ النَّائِبِ عَنِ المُستَنيبِ إلَّا بَعدَ رَميِه عَن نَفسِه، فلَو خالَفَ وقَعَ عَن نَفسِه، كَأصلِ الحَجِّ؛ لأنَّه لا يَنوبُ فيه فِعلٌ واحِدٌ عَن عِبادةِ رَجُلَينِ، ويَجِبُ أن يَتَقدَّمَ فِعلُ النَّائِبِ عَن نَفسِه قَبلَ أن يَفعَلَه عَن غَيرِه. ويُشتَرَطُ في جَوازِ النِّيابةِ أن يَكونَ العُذرُ مِمَّا لا يُرجى زَوالُه قَبلَ خُروجِ وقتِ الرَّميِ، فإذا وُجِدَ الشَّرطُ ثُمَّ زالَ العُذرُ عَنِ المُستَنيبِ والوقتُ باقٍ أجزَأ عِندَ أكثَرِ الفُقَهاءِ
[6697] يُنظر: ((المنتقى)) للباجي (3/78)، ((روضة الطالبين)) للنووي (3/115)، ((المهمات)) للإسنوي (4/386)، ((كفاية الأخيار)) للحصني (ص: 218). .
3- يُستَحَبُّ أن يَليَ المُضَحِّي ذَبحَ أُضحيَّتِه بنَفسِه إن كان مِمَّن يُحسِنُ الذَّبحَ، والاستِنابةُ جائِزةٌ إذا كان مِن أهلِ القُربةِ، وذَبحُ المُستَنابِ يَقَعُ عَنِ المُستَنيبِ
[6698] يُنظر: ((روضة المستبين)) لابن بزيزة (1/683). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استثناءٌ:استُثنيَ مِنَ القاعِدةِ بَعضُ الصُّورِ، مِنها: أن يُؤَدِّيَ الإنسانُ الحَجَّ عَن غَيرِه مَعَ وُجوبِه عليه.
فلَو حَجَّ عَن غَيرِه مَعَ وُجوبِ الحَجِّ عليه فإنَّ الحَجَّ يَقَعُ عَن نَفسِه، أي عَن نَفسِ النَّائِبِ، ويُرَدُّ للمُستَنيبِ ما أخَذَه مِنَ النَّفَقةِ؛ فعَن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما مَرَّ به رَجُلٌ يُهلُّ يَقولُ: لَبَّيكَ بحَجَّةٍ عَن شُبرُمةَ، قال: وما شُبرُمةُ؟ قال: رَجُلٌ أوصى أن يَحُجَّ عَنه، قال: أحَجَجتَ أنتَ؟ قال: لا، قال: فابدَأْ أنتَ فحُجَّ عَن نَفسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَن شُبرُمةَ
[6699] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (21/157). .