موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ السَّابِعُ: إنَّما العُقوبةُ في الأبدانِ لا في الأموالِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت هذه القاعِدةُ بالصِّيغةِ المَذكورةِ: "إنَّما العُقوبةُ في الأبدانِ لا في الأموالِ" [6606] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (6/214)، ((معرفة السنن والآثار)) للبيهقي (12/425)، ((الشافي)) لابن الأثير (5/303). ، وصيغةِ: "جُعِلَتِ العُقوبةُ في الأبدانِ دونَ الأموالِ" [6607] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (5/2442). ، وصيغةِ: "العُقوبةُ في الأبدانِ خاصَّةً" [6608] يُنظر: ((تحفة الناظر)) لابن العقباني (ص: 14). ، وصيغةِ: "العُقوبةُ بالمالِ وارِدةٌ على خِلافِ الأُصولِ الشَّرعيَّةِ" [6609] يُنظر: ((الفتح الرباني)) للشوكاني (7/3286). ، وصيغةِ: "العُقوبةُ بالمالِ أولى مِنَ الإهمالِ وعَدَمِ الزَّجرِ" [6610] يُنظر: ((أجوبة التسولي)) (ص: 153). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العُقوبةَ تَكونُ في الأبدانِ لا في الأموالِ، وذَهَبَ بَعضُ الفُقَهاءِ إلى جَوازِ العُقوبةِ في المالِ لأجلِ المَصلَحةِ؛ لأنَّ ذلك أبلَغُ في الرَّدعِ، وأزجَرُ عَنِ المُنكَراتِ، فإذا جازَ للإمامِ أن يُعاقِبَهم في أبدانِهم فكَذلك يَجوزُ أن يُعاقِبَهم في أموالِهم، بَل كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ تَكونُ العُقوبةُ في المالِ لَدَيه أيسَرَ وأسهَلَ مِنَ العُقوبةِ في البَدَنِ [6611] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (6/214)، ((الأوسط)) لابن المنذر (6/57)، ((أعلام الحديث)) للخطابي (3/2073)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (2/28)، ((الشافي)) لابن الأثير (5/303)، ((تهذيب سنن أبي داود)) لابن القيم (2/216)، ((لوامع الدرر)) للمجلسي الشنقيطي (8/219)، ((الأحكام الفقهية التي قيل فيها بالنسخ)) لابن سركند (4/2490)، ((البدر التمام)) للمغربي (9/120). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
أوّلًا: ما استُدِلَّ به على أنَّ العُقوبةَ في الأبدانِ دونَ الأموالِ:
عَن حَرامِ بنِ مُحَيِّصةَ: أنَّ ناقةً للبَراءِ دَخَلَت حائِطًا فأفسَدَت فيه، فقَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ على أهلِ الحَوائِطِ حِفظَها بالنَّهارِ، وأنَّ ما أفسَدَتِ المَواشي باللَّيلِ ضامِنٌ على أهلِها [6612] أخرجه من طرقٍ: ابن ماجه (2332)، وأحمد (23691) واللفظ له. قال ابنُ حزم في ((المحلى)) (8/146): لا يصِحُّ، وقال الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (15/462): منقَطِعٌ، وقال ابنُ عبد البر في ((التمهيد)) (6/211)، والعيني في ((نخب الأفكار)) (15/396): مُرسَلٌ. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ في قَضاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أهلِ الماشيةِ أنَّ ما أفسَدَته باللَّيلِ فهو ضامِنٌ على أهلِها دَلالةً على أنَّهم إنَّما يَضمَنونَه بقيمةٍ لا بقيمَتَينِ؛ لأنَّه لا تُضَعَّفُ الغَرامةُ على أحَدٍ في شَيءٍ؛ لأنَّ العُقوبةَ إنَّما تَكونُ في الأبدانِ لا في الأموالِ [6613] ينظر: ((الأم)) للشافعي (6/214)، ((السنن الكبرى)) للبيهقي (17/358)، ((المهذب)) للذهبي (7/3416)، ((البدر التمام)) للمغربي (9/120). .
ثانيا: ما استُدِلَّ به على جَوازِ العُقوبةِ في المالِ:
- عَن ثَعلَبةَ بنِ الحَكَمِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أصَبنا غَنَمًا للعَدوِّ فانتَهَبناها فنَصَبنا قُدورَنا فمَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقُدورِ، فأمَرَ بها فأُكفِئَت، ثُمَّ قال: إنَّ النُّهبةَ لا تَحِلُّ )) [6614] أخرجه من طرقٍ: ابنُ ماجه (3938) واللفظ له، والطبراني (2/84) (1378)، والحاكم (2640). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجهـ)) (3938)، وصحَّح إسنادَه الحاكم، وابن حجر في ((الإصابة)) (1/199)، وجوده العيني في ((عمدة القاري)) (14/338)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (3002). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّهم كانوا قد خَرَجوا مِن بلادِ العَدوِّ؛ لأنَّ النُّهبةَ مُباحةٌ في بلادِ العَدوِّ وغَيرُ مُباحةٍ في دارِ الإسلامِ، وهذه القِصَّةُ أصلٌ في جَوازِ العُقوبةِ في المالِ [6615] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (5/237)، ((التبصرة)) للخمي (6/2874)، ((التوضيح)) لابن الملقن (18/341). .
- وعَن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: رَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليَّ ثَوبَينِ مُعَصفَرَينِ، فقال: ((أأُمُّكَ أمَرَتكَ بهذا؟ قُلتُ: أغسِلُهما؟ قال: بَل أحرِقْهما )) [6616] أخرجه مسلم (2077). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بَل أحرِقْهما)) مُبالَغةٌ في الرَّدعِ والزَّجرِ، وهو مِن بابِ جَوازِ العُقوبةِ في الأموالِ [6617] يُنظر: ((المعلم)) للمازري (3/131)، ((المفهم)) للقرطبي (5/400). .
وقد يُستَدَلُّ أيضًا بالإجماعِ على أصلِ مَشروعيَّةِ العُقوبةِ في المالِ مِن قَبلُ؛ فقال ابنُ القَيِّمِ: (العُقوبةُ في المالِ لمَصلَحةٍ مَشروعةٌ بالاتِّفاقِ، ولَكِنِ اختَلَفوا: هَل نُسِخَت بَعدَ مَشروعيَّتِها؟ ولَم يَأتِ على نَسخِها حُجَّةٌ) [6618] ((تهذيب سنن أبي داود)) (2/216). .
وقال أيضًا: (ومَن قال: إنَّ العُقوباتِ الماليَّةَ مَنسوخةٌ، وأطلَقَ ذلك، فقد غَلِطَ على مَذاهبِ الأئِمَّةِ نَقلًا واستِدلالًا، فأكثَرُ هذه المَسائِلِ سائِغةٌ في مَذهَبِ أحمَدَ، وكَثيرٌ مِنها سائِغٌ عِندَ مالِكٍ، وفِعلُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ وأكابِرِ الصَّحابةِ لَها بَعدَ مَوتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُبطِلٌ أيضًا لدَعوى نَسخِها، والمُدَّعونَ للنَّسخِ ليس مَعَهم كِتابٌ ولا سُنَّةٌ، ولا إجماعٌ يُصَحِّحُ دَعواهم، إلَّا أن يَقولَ أحَدُهم: مَذهَبُ أصحابِنا عَدَمُ جَوازِها، فمَذهَبُ أصحابِه عيارٌ على القَبولِ والرَّدِّ، وإذا ارتَفَعَ عَن هذه الطَّبَقةِ ادَّعى أنَّها مَنسوخةٌ بالإجماعِ، وهذا غَلَطٌ أيضًا، فإنَّ الأُمَّةَ لَم تُجمِعْ على نَسخِها، ومُحالٌ أنَّ الإجماعَ يَنسَخُ السُّنَّةَ، ولَكِن لَو ثَبَتَ الإجماعُ لَكان دَليلًا على نَصٍّ ناسِخٍ) [6619] ((الطرق الحكمية)) (2/691-692). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- مَن ظَهَرَ عليه أنَّه أكَلَ أو شَرِبَ في رَمَضانَ مُتَعَمِّدًا عوقِبَ على قدرِ ما يُرى أنَّ فيه رَدعًا له ولِغَيرِه مِنَ الضَّربِ أوِ السِّجنِ، أو يُجمَعُ عليه الوجهانِ جَميعًا: الضَّربُ والسِّجنُ، والكَفَّارةُ ثابِتةٌ بَعدَ ذلك، فتُجمَعُ عليه العُقوبةُ في المالِ والجِسمِ [6620] يُنظر: ((التبصرة)) للخمي (2/801). .
2- لا تُضَعَّفُ الغَرامةُ على أحَدٍ في شَيءٍ؛ لأنَّ العُقوبةَ إنَّما تَكونُ في الأبدانِ لا في الأموالِ على القَولِ الآخَرِ بعَدَمِ جَوازِ العُقوبةِ في الأموالِ [6621] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (6/214)، ((معرفة السنن والآثار)) للبيهقي (12/425). .
3- لا يَجوزُ أن يُحرَقَ بَيتُ الرَّجُلِ الذي يوجَدُ فيه خَمرٌ يَبيعُها؛ لأنَّ العُقوبةَ لا تَكونُ في الأموالِ، وإنَّما تَكونُ في الأبدانِ على القَولِ الآخَرِ [6622] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد (16/297). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
فائدةٌ:
قيلَ: كانتِ العُقوبةُ بالمالِ جائِزةً في صَدرِ الإسلامِ ثُمَّ نُسِخَت. وقيلَ: إنَّه مَردودٌ بأنَّ ذلك غَيرُ ثابِتٍ ولا مَعروفٍ، ودَعوى النَّسخِ -على فرضِ صِحَّتِه- غَيرُ مَقبولةٍ مَعَ الجَهلِ بالتَّاريخِ؛ لأنَّ النَّسخَ لا يَثبُتُ إلَّا بشَرطِه كَمَعرِفةِ التَّاريخِ [6623] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (5/334)، ((تهذيب سنن أبي داود)) لابن القيم (2/216)، ((فتح الباري)) لابن حجر (13/355)، ((البدر التمام)) للمغربي (9/120). .
استثناءٌ:
يُستَثنى مِنَ العُقوبةِ بالمالِ: ما شَرَعَ اللهُ فيه حَدًّا مَعلومًا، كالزِّنا، والسَّرِقةِ، والحِرابةِ، والقَذفِ، ونَحوِها، فلا تَجوزُ فيه العُقوبةُ بالمالِ اتِّفاقًا؛ لِما فيه مِن تَبديلِ الحُدودِ المُعَيَّنةِ مِنَ الشَّارِعِ سُبحانَه، إلَّا أن يَتَعَذَّرَ إقامَتُها فيُعاقَبُ بالمالِ حينَئِذٍ؛ ارتِكابًا لأخَفِّ الضَّرَرَينِ، ودَفعًا لأثقَلِ المَفسَدَتَينِ ما أمكَنَ، ولا يَسقُطُ الحَدُّ إن زالَ العُذرُ [6624] يُنظر: ((أجوبة التسولي)) (ص: 162). .

انظر أيضا: