المَطلَبُ الثَّالِثُ: العُقوباتُ لا تَسقُطُ بالتَّوبةِ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "العُقوباتُ لا تَسقُطُ بالتَّوبةِ"
[6544] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 362). ، وصيغةِ: "التَّوبةُ لا تُزيلُ عِقابَ الذَّنبِ قَطعًا"
[6545] يُنظر: ((الزواجر)) لابن حجر الهيتمي (2/366). ، وصيغةِ: "التَّوبةُ لا تُسقِطُ حَقَّ الآدَميِّينَ"
[6546] يُنظر: ((الجوهرة النيرة)) للحداد (2/174). ، وصيغةِ: "التَّوبةُ لا تُسقِطُ الحُدودَ"
[6547] يُنظر: ((الدلائل)) للسرقسطي (1/23)، ((المحلى)) لابن حزم (12/17)، ((المنتقى)) للباجي (7/168)، ((طرح التثريب)) للعراقي (2/149). ، وصيغةِ: "الحُدودُ لا تَسقُطُ بالتَّوبةِ بَعدَ القُدرةِ"
[6548] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/628). ، وصيغةِ: "التَّوبةُ لا تُسقِطُ الحَدَّ"
[6549] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/362)، ((شرح المختصر الكبير)) للأبهري (4/13)، ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/864)، ((التجريد)) للقدوري (11/5949)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 234). ، وصيغةِ: "التَّوبةُ لا تُسقِطُ الحَدَّ في الدُّنيا"
[6550] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (5/211)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/3). ، وصيغةِ: "التَّعزيرُ لا يَسقُطُ بالتَّوبةِ"
[6551] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 158). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ التَّوبةَ إنَّما تَنفَعُ عِندَ اللهِ تَعالى، ولا تُسقِطُ العُقوبةَ في الدُّنيا مُطلَقًا؛ فإنَّ الحَدَّ كَفَّارةٌ، فلَم يَسقُطْ بالتَّوبةِ، كَكَفَّارةِ اليَمينِ والقَتلِ، ولَو جازَ إسقاطُ الحَدِّ بالتَّوبةِ، لَتَمَكَّنَ كُلُّ مُجرِمٍ مِن إسقاطِ العُقوبةِ عَنه بادِّعاءِ التَّوبةِ، وفي ذلك تَشجيعٌ على الإجرامِ والفَسادِ. وقدِ اتَّفَقَ العُلَماءُ على أنَّ التَّوبةَ تُسقِطُ الآثامَ -المُختَصَّةَ باللهِ سُبحانَه- في الدَّارِ الآخِرةِ، فلَو ماتَ بَعدَ التَّوبةِ قَبلَ استيفاءِ الحَدِّ فلا شَيءَ عليه
[6552] اختَلَفَ الفُقَهاءُ فيما تُسقِطُه التَّوبةُ مِنَ الأحكامِ على أقوالٍ: الأوَّلُ: أنَّ التَّوبةَ لا تُسقِطُ إلَّا حَدَّ الحِرابةِ، ويُؤخَذُ بما سِوى ذلك مِن حُقوقِ اللهِ تَعالى، ومِن حُقوقِ عِبادِه. الثَّاني: أنَّ التَّوبةَ تُسقِطُ حَدَّ الحِرابةِ، وحُقوقَ اللهِ تَعالى في الزِّنا والقَطعِ والسَّرِقةِ وشُربِ الخَمرِ، وما أشبَهَ ذلك. ويُتبَعُ بحُقوقِ النَّاسِ في الأموالِ في ذِمَّتِه، وفي الدَّمِ. الثَّالِثُ: أنَّ التَّوبةَ تُسقِطُ عَنه حَدَّ الحِرابةِ، وجَميعَ حُدودِ اللهِ وما أُخِذَ مِنَ الأموالِ إلَّا أن يوجَدَ مِن ذلك شَيءٌ قائِمٌ فيُؤخَذُ. الرَّابِعُ: أنَّ تَوبَتَه تُسقِطُ عَنه جَميعَ ما قَبلَه مِن حُقوقِ اللهِ وحُقوقِ النَّاسِ مِن دَمٍ أو مالٍ، إلَّا أن يوجَدَ شَيءٌ قائِمٌ بيَدِه. يُنظر: ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (5/522)، ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (2/403)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (2/124)، ((المنثور)) للزركشي (1/428)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (7/5569). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكريمِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:- قال اللهُ تعالى:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2] .
- وقال اللهُ تعالى:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38] .
وَجهُ الدَّلالةِ من الآيتينِ:كِلتا الآيَتَينِ فيهما دَلالةٌ على أنَّ التَّوبةَ لا تُسقِطُ الحَدَّ؛ لعَدَمِ التَّفريقِ فيهما بَينَ التَّائِبِ وغَيرِه؛ فكُلٌّ مِنهما نَصٌّ عامٌّ في التَّائِبينَ وغَيرِهم
[6553] يُنظر: ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (3/1389)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (7/5568). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عَن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ امرَأةً مِن جُهَينةَ أتَت نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهيَ حُبلى مِنَ الزِّنا، فقالت: يا نَبيَّ اللهِ، أصَبتُ حَدًّا، فأقِمْه عليَّ، فدَعا نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وليَّها، فقال: أحسِنْ إلَيها، فإذا وضَعَت فأْتِني بها، ففَعَلَ، فأمَرَ بها نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فشُكَّت عليها ثيابُها، ثُمَّ أمَرَ بها فرُجِمَت، ثُمَّ صَلَّى عليها، فقال له عُمَرُ: تُصَلِّي عليها يا نَبيَّ اللهِ وقد زَنَت؟ فقال: لَقد تابَت تَوبةً لَو قُسِمَت بَينَ سَبعينَ مِن أهلِ المَدينةِ لَوسِعَتهم، وهَل وجَدتَ تَوبةً أفضَلَ مِن أن جادَت بنَفسِها للهِ تعالى؟)) [6554] أخرجه مسلم (1696). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَولَه:
((لَقد تابَت تَوبةً)) يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ التَّوبةَ إنَّما تَنفَعُ عِندَ اللهِ تَعالى، ولا تُسقِطُ الحَدَّ في الدُّنيا
[6555] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (11/5949)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/443)، ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (5/522)، ((البدر التمام)) للمغربي (9/49). .
3- مِنَ الإجماعِ:فقد حُكيَ الإجماعُ على أنَّ التَّوبةَ لا تُسقِطُ الحُدودَ إلَّا حَدَّ الحِرابةِ، حَكاه القاضي عياضٌ
[6556] قال: (قد أجمَعَ العُلَماءُ أنَّ التَّوبةَ لا تُسقِطُ حَدًّا مِن حُدودِ اللهِ إلَّا الحِرابةَ). ((إكمال المعلم)) (8/267). ، ونحوه: ابنُ رُشدٍ
[6557] قال: (هَل يَعودُ الاستِثناءُ في قَولِه تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 4] إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [النور: 5] إلى أقرَبِ مَذكورٍ إلَيه، أو على الجُملةِ إلَّا ما خَصَّصَه الإجماعُ، وهو أنَّ التَّوبةَ لا تُسقِطُ عَنه الحَدَّ). ((بداية المجتهد)) (4/246). ، وابنُ الهمامِ
[6558] قال: (الإجماعُ على أنَّ التَّوبةَ لا تُسقِطُ الحَدَّ في الدُّنيا). ((فتح القدير)) (5/211). ، وابن القيم
[6559] قال: (والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقًا). ((إعلام الموقعين)) (3/ 628). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- الحُدودُ لا تَسقُطُ بالتَّوبةِ إلَّا قَتلَ المُرتَدِّ وحدَه، وحَدَّ قاطِعِ الطَّريقِ إذا تابَ قَبلَ القُدرةِ عليه؛ وذلك لأنَّ الحُدودَ وُضِعَت للزَّجرِ، فلَو سَقَطَت بالتَّوبةِ أظهَرَها كُلُّ مَن يَجِبُ عليه الحَدُّ فيَسقُطُ عَنه، فيُؤَدِّي إلى أن لا يُقامَ حَدٌّ أبَدًا
[6560] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (11/5949)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/443). .
2- حُقوقُ الآدَميِّينَ مِنَ القِصاصِ وغَيرِه يُؤخَذُ بها، ولا تَسقُطُ بالتَّوبةِ، كما لَو أخَذَ شَيئًا أو أتلَفَ شَيئًا وهو غَيرُ مُحارِبٍ ثُمَّ تابَ، فإنَّه يُلزَمُ به إلَّا أن يَعفوَ صاحِبُه
[6561] يُنظر: ((العدة)) لبهاء الدين المقدسي (ص: 611). ويُنظر أيضًا: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (13/333). .
3- مَن سَبَّ اللهَ ورَسولَه فقد حارَبَ اللهَ ورَسولَه وسَعى في الأرضِ فسادًا، فجَزاؤُه القَتلُ حَدًّا، والحُدودُ لا تَسقُطُ بالتَّوبةِ بَعدَ القُدرةِ اتِّفاقًا
[6562] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/628). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استثناءاتٌ:يُستَثنى مِن كَونِ الحُدودِ لا تَسقُطُ بالتَّوبةِ أربَعُ صورٍ
[6563] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/428). :
1- إذا زَنا الذِّمِّيُّ ثُمَّ أسلَمَ، فإنَّه يَسقُطُ عَنه الحَدُّ.
2- قاطِعُ الطَّريقِ إذا قَتَلَ وماتَ قَبلَ القُدرةِ عليه سَقَطَ عَنه الحَدُّ.
3- المُرتَدُّ يَسقُطُ حَدُّه بالتَّوبةِ وهيَ تَتَحَقَّقُ بعَودَتِه إلى الإسلامِ.
4- تارِكُ الصَّلاةِ يَسقُطُ حَدُّه بالتَّوبةِ، وذلك بالعَودةِ لفِعلِ الصَّلاةِ كالمُرتَدِّ، بَل هو أولى بذلك منه.