المَطلَبُ الأوَّلُ: الكَفَّاراتُ عَنِ العِباداتِ جابرٌ وزاجِرٌ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الكَفَّاراتُ عَنِ العِباداتِ جابرٌ وزاجِرٌ"
[6515] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/424). ، وصيغةِ: "الكَفَّاراتُ زَواجِرُ كالتَّعازيرِ أو جَوابِرُ للخَلَلِ؟"
[6516] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/208). ، وصيغةِ: "الكَفَّارةُ زاجِرةٌ أو ماحيةٌ؟"
[6517] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (3/16). ، وصيغةِ: "الكَفَّاراتُ جَوابِرُ -على الصَّحيحِ- لما فاتَ مِن حَقِّ اللهِ تعالى"
[6518] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/314). ، وصيغةِ: "الكَفَّاراتُ زَواجِرُ بمَنزِلةِ الحُدودِ"
[6519] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/598)، ((منية الساجد)) لأنس اليتامى (ص: 364). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.المُرادُ بالجابرِ: ما يَجبُرُ مَصلَحةً فاتَت ويَستَدرِكُها، فهو داخِلٌ في جَلبِ المَصالِحِ. فالجَوابِرُ مَشروعةٌ لاستِدراكِ المَصالِحِ الفائِتةِ.
والمُرادُ بالزَّاجِرِ: ما يَمنَعُ مِن ارتِكابِ مَفسَدةٍ، إمَّا مُحَرَّمةٍ أو مُكروهةٍ، أو مُصَوَّرةٍ بصورةِ المُحَرَّمِ. فالزَّواجِرُ مِن قَبيلِ دَرءِ المَفاسِدِ، فيَكونُ الزَّاجِرُ أعَمَّ مِنَ الجابرِ؛ لأنَّ دَرءَ الفَسادِ أعَمُّ مِن جَلبِ المَصالِحِ.
فالجَوابِرُ لجَبرِ ما فاتَ مِن مَصالِحِ حُقوقِ اللهِ وحُقوقِ عِبادِه، ولا يُشتَرَطُ في ذلك أن يَكونَ مَن وجَبَ عليه الجَبرُ آثِمًا، فشُرِعَ الجَبرُ مَعَ الخَطَأِ والعَمدِ، والجَهلِ والعِلمِ، والذِّكرِ والنِّسيانِ، وعَلى المَجانينِ والصِّبيانِ. بخِلافِ الزَّواجِرِ؛ فإنَّ مُعظَمَها لا يَجِبُ إلَّا على عاصٍ؛ زَجرًا له عَنِ المَعصيةِ، وقد تَجِبُ الزَّواجِرُ؛ دَفعًا للمَفاسِدِ مِن غَيرِ إثمٍ ولا عُدوانٍ.
وقدِ اختَلَفَ الفُقَهاءُ في بَعضِ الكَفَّاراتِ: أهيَ مِنَ الجَوابِرِ أوِ الزَّواجِرِ؟
فقال كَثيرونَ: إنَّها جَوابِرُ لِما فاتَ مِن حَقِّ اللهِ تَعالى، بدَليلِ وُجوبِها على حافِرِ البِئرِ والنَّائِمِ ونَحوِهما، ولِأنَّها دائِرةٌ بَينَ العِبادةِ والعُقوبةِ، وجِهةُ العِبادةِ فيها أغلَبُ؛ لأنَّها تَفتَقِرُ إلى النِّيَّةِ كَسُجودِ السَّهوِ، فهيَ عِباداتٌ وقُرُباتٌ لا تَصِحُّ إلَّا بالنِّيَّاتِ، وليس التَّقَرُّبُ إلى اللهِ زاجِرًا، فلا تُشبِهُ الحُدودَ والتَّعزيراتِ التي هيَ زَواجِرُ مَحضةٌ، وليست بقُرُباتٍ؛ إذ لَيسَت فِعلًا للمَزجورِ، وإنَّما يَفعَلُها الأئِمَّةُ ونُوَّابُهم.
وقيلَ: هيَ زَواجِرُ عَنِ العِصيانِ؛ فإنَّها زَواجِرُ عَنِ الفِعلِ التي وُضِعَت بإزائِه، إمَّا زَجرًا لفاعِلِه أن يَقَعَ في مِثلِه، أو زَجرًا لغَيرِه أن يَفعَلَ مِثلَ فِعلِه
[6520] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/178)، ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/424)، ((الأشباه والنظائر)) لابن الملقن (2/314)، ((الذخيرة)) للقرافي (8/289)، ((ترتيب الفروق)) للبقوري (1/418)، ((الكفارات)) للشامي (ص: 19). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ:
قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ليَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المائدة: 95] .
وَجهُ الدَّلالةِ:تَدُلُّ الآيةُ على أنَّ كَفَّارةَ قَتلِ الصَّيدِ بالنِّسبةِ للمُحرِمِ عُقوبةٌ لمَنِ ارتَكَبَ موجِبَها، وزَجرٌ لمَن يَهمُّ بارتِكابِه في بَعضِ الأفعالِ
[6521] يُنظر: ((الفوائد الجسام)) للبلقيني (ص: 266)، ((الكفارات)) للشامي (ص: 22). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ:مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- كَفَّارةُ الحِنثِ في اليَمينِ جابرةٌ لما فاتَ مِنَ البِرِّ، وجابرةٌ لما حَصَلَ مِنِ انتِهاكِ الاسمِ المُعَظَّمِ بالمُخالَفةِ لما عَقدَ به يَمينَه. ولا يَلزَمُ مِن ذلك نَفيُ جَوازِ تَقديمِ الكَفَّارةِ على الحِنثِ إذا عَزَمَ عليه، وتَكونُ الكَفَّارةُ جابرةً لعَزمِه على الحِنثِ
[6522] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 269)، ((مجموع رسائل الحافظ العلائي)) (ص: 196)، ((العناية)) للبابرتي (5/86)، ((التنبيهـ)) لابن أبي العز (4/98). .
2- كَفَّارةُ الفِطرِ في رَمَضانَ عَمدًا عُقوبةٌ؛ لأنَّ جِهةَ العُقوبةِ فيها غالِبةٌ، فإنَّه ليس في الإفطارِ عَمدًا شُبهةُ الإباحةِ بوجهٍ ما
[6523] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/598)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (18/16). .
3- كَفَّارةُ الظِّهارِ زاجِرةٌ؛ لأنَّ الظِّهارَ مَعصيةٌ تُناسِبُ التَّغليظَ بخِلافِ كَفَّارةِ الحِنثِ في اليَمينِ
[6524] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 269)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (4/258). .
4- كَفَّارةُ القَتلِ الخَطَأِ، وكَفَّارةُ قَتلِ الصَّيدِ بالنِّسبةِ للمُحرِمِ، عُقوباتٌ لمَنِ ارتَكَبَ موجِبَها، وزَواجِرُ لمَن يَهمُّ بارتِكابِه في بَعضِ الأفعالِ
[6525] يُنظر: ((الكفارات)) للشامي (ص: 22). .