موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني: العُقوبةُ على قدرِ الجِنايةِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "العُقوبةُ على قدرِ الجِنايةِ" [6526] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/57)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (5/349)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (6/2380)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/612). ، وصيغةِ: "تَقديرُ العُقوباتِ بقدرِ الجِناياتِ" [6527] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/80)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/313)، ((معين الحكام)) للطرابلسي (ص: 199). ، وصيغةِ: "العُقوبةُ بقدرِ الذَّنبِ" [6528] يُنظر: ((التوضيح)) لخليل (31/279)، ((فتح الباري)) لابن حجر (12/179). ، وصيغةِ: "العُقوبةُ بحَسَبِ الجِنايةِ" [6529] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/135). ، وصيغةِ: "العُقوبةُ على قدرِ عِظَمِ الجَريمةِ" [6530] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (4/346)، ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (14/174). ، وصيغةِ: "العُقوبةُ على قدرِ الإجرامِ والمَعصيةِ" [6531] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (12/526). ، وصيغةِ: "تَقديرُ التَّعزيرِ بقدرِ الجِنايةِ والجاني والمَجنيِّ عليه" [6532] يُنظر: ((الإحكام)) للقرافي (ص: 145)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (1/131)، ((معين الحكام)) للطرابلسي (ص: 51). ، وصيغةِ: "الجَزاءُ إنَّما يَجِبُ بحَسَبِ الجِنايةِ" [6533] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/122). ، وصيغةِ: "تَفاوُتُ الجِنايةِ يوجِبُ تَفاوُتَ العُقوبةِ" [6534] يُنظر: ((طريقة الخلاف)) للأسمندي (ص: 199). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ العُقوبةَ تَكونُ على قدرِ الجِنايةِ عُرفًا وشَرعًا، وقَواعِدُ الشَّرعِ تَقتَضي تَقديرَ العُقوباتِ بقدرِ الجِناياتِ، فيَستَحيلُ أن يُقالَ عِندَ غِلَظِ الجِنايةِ يُعاقَبُ بأخَفِّ الأنواعِ، وعِندَ خِفَّتِها يُعاقَبُ بأغلَظِ الأنواعِ. والضَّابِطُ في ذلك أنَّ الشَّارِعَ يَنظُرُ إلى المُحَرَّمِ ومَفسَدَتِه، ثُمَّ يَنظُرُ إلى وازِعِه وداعيه، فإذا عَظُمَت مَفسَدَتُه رَتَّبَ عليه مِنَ العُقوبةِ بحَسَبِ تلك المَفسَدةِ؛ ولِذلك رَتَّبَ الشَّرعُ العُقوباتِ على الجَرائِمِ، وجَعَلَها بحِكمَتِه على حَسَبِ الدَّواعي إلى تلك الجَرائِمِ، وبِحَسَبِ الوازِعِ عَنها، فما كان الوازِعُ عَنه طَبيعيًّا وليس في الطِّباعِ داعٍ إلَيه اكتَفى فيه بالتَّحريمِ مَعَ التَّعزيرِ ولَم يُرَتِّبْ عليه حَدًّا كَأكلِ الرَّجيعِ، وشُربِ الدَّمِ، وأكلِ المَيتةِ. وما كان في الطِّباعِ داعٍ إلَيه رَتَّبَ عليه مِنَ العُقوبةِ بقدرِ مَفسَدَتِه وبِقدرِ داعي الطَّبعِ إلَيه. ولِهذا لَمَّا كان داعي الطِّباعِ إلى الزِّنا مِن أقوى الدَّواعي كانت عُقوبَتُه العُظمى أشنَعَ القِتلاتِ وأعظَمَها، وعُقوبَتُه السَّهلةُ أعلى أنواعِ الجَلدِ مَعَ زيادةِ التَّغريبِ. ولَمَّا كان اللِّواطُ فيه الأمرانِ كان حَدُّه القَتلَ بكُلِّ حالٍ. ولَمَّا كان داعي السَّرِقةِ قَويًّا، ومَفسَدَتُها كذلك، قَطَعَ فيها اليَدَ.
والحِكمةُ في ذلك أنَّه لَمَّا كان النَّاسُ لا يَرتَدِعونَ عَنِ ارتِكابِ المُحَرَّماتِ والمَنهيَّاتِ إلَّا بالحُدودِ والعُقوبةِ والزَّواجِرِ، شُرِعَ ذلك على طَبَقاتٍ مُختَلِفةٍ، فالعُقوبةُ تَكونُ على فِعلِ مُحَرَّمٍ، أو تَركِ واجِبٍ أو سُنَّةٍ، أو فِعلِ مَكروهٍ، ومِنها ما هو مُقدَّرٌ، ومِنها ما هو غَيرُ مُقدَّرٍ، وتَختَلِفُ مَقاديرُها وأجناسُها وصِفاتُها باختِلافِ الجَرائِمِ وكِبَرِها وصِغَرِها، وبِحَسَبِ حالِ المُجرِمِ في نَفسِه، وبِحَسَبِ حالِ القائِلِ والمَقولِ فيه والقَولِ [6535] يُنظر: ((شرح المختصر الكبير)) للأبهري (3/504)، ((المبسوط)) للسرخسي (9/135)، ((طريقة الخلاف)) للأسمندي (ص: 199)، ((الفروق)) للقرافي (4/80)، ((بدائع الفوائد)) (3/1071)، ((الداء والدواء)) (ص: 259) كلاهما لابن القيم، ((التوضيح)) لخليل (31/279)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/289). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكريمِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فعَاقِبُوا بمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بهِ [النحل: 126] .
- وقال اللهُ سُبحانَه: فمَنِ اعْتَدَى عليْكُمْ فاعْتَدُوا عليْهِ بمِثْلِ مَا اعْتَدَى عليْكُمْ [البقرة: 194] .
وَجهُ الدَّلالةِ من الآيتينِ:
تَدُلُّ الآيَتانِ على أنَّ الأصلَ في الشَّريعةِ أنَّ العُقوبةَ بقدرِ الجَريمةِ، فلا تَجوزُ فيها الزِّيادةُ والإسرافُ قَطعًا؛ لأنَّ الزِّيادةَ تُعتَبَرُ تَعَدِّيًا مَنهيًّا عنه [6536] يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (4/191). .
- وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ليُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَدُلُّ الآيةُ على أنَّ هذه العُقوبةَ بقدرِ العَمَلِ تَمامًا، وليس فيها ظُلمٌ [6537] يُنظر: ((تفسير العثيمين - سورة الروم)) (ص: 257). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عَن هانِئِ بنِ نيارٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُجلَدُ فوقَ عَشرِ جَلَداتٍ إلَّا في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ )) [6538] أخرجه البخاري (6848) واللفظ له، ومسلم (1708). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ العُقوبةَ على قدرِ الجِنايةِ، فمَن أتى فِعلًا أقَلَّ مِنَ الزِّنا لا يَحِلُّ أن يُجلَدَ حَدَّ الزِّنا [6539] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (6/2380)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/612). .
3- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن حَكاه: ابنُ القَيِّمِ [6540] قال ابنُ القَيِّمِ: (وقد ثَبَتَ التَّعزيرُ بالزِّيادةِ على العَشَرةِ جِنسًا وقدرًا في مَواضِعَ عَديدةٍ لَم يَثبُتْ نَسخُها، ولَم تُجمِعِ الأُمَّةُ على خِلافِها). ((زاد المعاد (5/66). وقال ابنُ فرحونَ: (قال ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ: اتَّفَقَ العُلَماءُ على أنَّ التَّعزيرَ مَشروعٌ في كُلِّ مَعصيةٍ ليس فيها حَدٌّ بحَسَبِ الجِنايةِ في العِظَمِ والصِّغَرِ، وبِحَسَبِ الجاني في الشَّرِّ وعَدَمِهـ). ((تبصرة الحكام)) (2/289). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- مَن زَنا بامرَأةٍ مِن ذَواتِ مَحارِمِه كَأُختِه لَم يُقتَلْ، وحَدُّه حَدُّ الزَّاني، وهو الجَلدُ إن لَم يُحصَنْ، والرَّجمُ إن كان مُحصَنًا، وإنِ اغتَصَبَها وكانت بكرًا جُلِدَ للزِّنا وعوقِبَ، لاستِكراهِه إيَّاها [6541] يُنظر: ((التبصرة)) للخمي (13/6287). .
2- إذا زَنا فعليه الحَدُّ كامِلًا، وأمَّا إذا كان دونَ الزِّنا كالمُفاخَذةِ والمُباشَرةِ، فعليه التَّعزيرُ عُقوبةً، ولَكِن لا يُحَدُّ؛ لأنَّ الجِنايةَ لَيسَت كامِلةً [6542] يُنظر: ((التحفة المكية)) للشاوي (ص: 251). .
3- المُحارِبونَ لَيسوا كُلُّهم سَواءً: مِنهم مَن يَجرَحُ بالسِّلاحِ، ومِنهم مَن لا يَجرَحُ إلَّا بحَديدةٍ. ومِنهم مَن يَطولُ زَمانُه، ومِنهم حَديثُ العَهدِ لَم يَفعَلْ ذلك إلَّا مَرَّةً أو نَحوَ ذلك. ومِنهم مَن قَتَلَ وسَلَبَ، ومِنهم مَن سَلَبَ ولَم يَقتُلْ. فإذا اختَلَفَت أحكامُهم بأن يَقتُلَ بَعضُهم ولَم يَأخُذِ المالَ، وقَتَلَ بَعضُهم وأخَذَ المالَ، وأخَذَ بَعضُهم المالَ ولَم يَقتُلْ: يَلزَمُ كُلَّ واحِدٍ مِنَ العُقوبةِ بقدرِ ما فعَلَه مِنَ الجُرمِ، ويُعتَبَرُ كُلُّ واحِدٍ بحالِ نَفسِه دونَ غَيرِه، فيَنبَغي أن يَجتَهدَ الإمامُ في مِثلِ هذا ولا يَجعَلَهم سَواءً، بَل لكُلٍّ مِنهم مِنَ العُقوبةِ بقدرِ ما جَنى [6543] يُنظر: ((شرح المختصر الكبير)) للأبهري (3/504)، ((بحر المذهب)) للروياني (13/111). .

انظر أيضا: