موسوعة القواعد الفقهية

المَطلَبُ الخامِسُ: المُعتَبَرُ في الكَفَّاراتِ حالُ الأداءِ لا حالةُ الوُجوبِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المُعتَبَرُ في الكَفَّاراتِ حالُ الأداءِ لا حالةُ الوُجوبِ" [6578] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/234). ، وصيغةِ: "المُعتَبَرُ بالكَفَّارةِ حالُ الأداءِ دونَ الوُجوبِ" [6579] ينظر ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/315)، ((بحر المذهب)) للروياني (10/417). ، وصيغة: "المُعتَبَرُ في الكَفَّاراتِ حالُ الأداءِ" [6580] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (1/134). ، وصيغةِ: "المُعتَبَرُ في التَّكفيرِ حالُ الأداءِ لا غَيرُ" [6581] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (4/315)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (4/18). ، وصيغةِ: "الاعتِبارُ في الكَفَّارةِ وقتُ الأداءِ" [6582] يُنظر: ((عيون المسائل)) للقاضي عبد الوهاب (ص: 364). ، وصيغةِ: "هَلِ المُعتَبَرُ في الكَفَّارةِ حالُ الوُجوبِ أو حالُ الأداءِ؟" [6583] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/194). ، وصيغةِ: "هَل يُعتَبَرُ بالكَفَّارةِ حالُ الوُجوبِ أو يُعتَبَرُ بها حالُ الأداءِ؟" [6584] يُنظر ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/315). ، وصيغةِ: "هَلِ المُعتَبَرُ في الكَفَّارةِ يَومُ الوُجوبِ أوِ الأداءِ؟" [6585] يُنظر ((التوضيح)) لابن الحاجب (4/541)، ((الإنصاف)) للمرداوي (8/403). ، وصيغةِ: "الاعتِبارُ في الكَفَّاراتِ بحالِ الوُجوبِ أو بحالِ الفِعلِ؟" [6586] يُنظر ((القواعد)) لابن رجب (1/127). ، وصيغةِ: "المُعتَبَرُ في الكَفَّارةِ حالُ الوُجوبِ أمِ الأداءِ، أم أغلَظُهما؟" [6587] يُنظر ((روضة الطالبين)) للنووي (3/56). .
ثانيًا: المعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الاعتِبارَ في الكَفَّاراتِ بحالِ الفِعلِ والأداءِ، لا بحالةِ الوُجوبِ، أي بوقتِ الأداءِ لا وقتِ الحَلِفِ ولا وقتِ الحِنثِ؛ فإنَّها مواساةٌ فاعتُبِرَت بأقرَبِ الأحوالِ مِن مواساتِه. وذلك أنَّ الكَفَّارةَ تَختَلِفُ باليَسارِ والإعسارِ، ففَرضُ الموسِرِ أن يُكَفِّرَ بالمالِ، وفَرضُ المُعسِرِ أن يُكَفِّرَ بالصِّيامِ، وقد يَختَلِفُ اليَسارُ والإعسارُ، فيَكونُ عِندَ الوُجوبِ موسِرًا، وعِندَ التَّكفيرِ مُعسِرًا، وقد يَكونُ عِندَ الوُجوبِ مُعسِرًا، وعِندَ التَّكفيرِ موسِرًا. والقَولُ بأنَّ الاعتِبارَ بحالِ الوُجوبِ يُؤَدِّي إلى سُقوطِ الكَفَّارةِ؛ لأنَّ الإعسارَ قد يَمتَدُّ إلى آخِرِ عُمُرِه، فيَموتُ والفَرضُ باقٍ عليه، وكَذلك فيمَن كان فرضُه الصَّومَ فلَم يَصُمْ حَتَّى هَرِمَ، فعُلِمَ إذَن أنَّ الاعتِبارَ بوقتِ الأداءِ، ولِأنَّه مَعنًى له بَدَلٌ مِن غَيرِ جِنسِه، فوجَبَ أن يَكونَ الاعتِبارُ بحالِ فِعلِه وأدائِه [6588] قال البَغَويُّ: (الاعتِبارُ في الكَفَّاراتِ بحالةِ الأداءِ، وهو الأصَحُّ). ((التهذيب)) (8/114)، وقال السُّيوطيُّ: (هَلِ العِبرةُ في الكَفَّارةِ المُرَتَّبةِ بحالِ الوُجوبِ أو الأداءِ؟ قَولانِ، أصَحُّهما الثَّاني). ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 179). وفي القاعِدةِ قَولانِ آخَرانِ: الأوَّلُ: أنَّ الاعتِبارَ بحالِ الوُجوبِ والحِنثِ، والثَّاني بأغلَظِ الأحوالِ. يُنظر: ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/777)، ((التجريد)) للقدوري (10/5117)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/315)، ((المبسوط)) للسرخسي (6/234)، ((روضة القضاة)) لابن السمناني (3/1025)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (7/107)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (4/18). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ الكريمِ، والسُّنَّةِ، والقياسِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لمَا قَالُوا فتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بهِ وَاللَّهُ بمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فمَنْ لَمْ يَجِدْ فصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة: 3-4] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَدُلُّ الآيةُ على أنَّ المُعتَبَرَ في الكَفَّارةِ بحالةِ الأداءِ لا حالةِ الحَلِفِ ولا حالةِ الحِنثِ؛ فإنَّ اللهَ تَعالى أوجَبَ الصَّومَ لمَن لا يَجِدُ الرَّقَبةَ، ولَم يَأمُرْه بالانتِظارِ حَتَّى يَجِدَ، والواجِدُ للرَّقَبةِ لا يَجوزُ له الصَّومُ [6589] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (10/5118)، ((روضة القضاة)) لابن السمناني (3/1025). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عَن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتى رَجُلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: هَلَكتُ، وقَعتُ على أهلي في رَمَضانَ، قال: أعتِق رَقَبةً، قال: ليس لي، قال: فصُمْ شَهرَينِ مُتَتابِعَينِ، قال: لا أستَطيعُ، قال: فأطعِمْ سِتِّينَ مِسكينًا، قال: لا أجِدُ، فأُتيَ بعَرَقٍ فيه تَمرٌ -قال إبراهيمُ: العَرقُ المِكتَلُ- فقال: أينَ السَّائِلُ؟ تَصَدَّقْ بها، قال: على أفقَرَ مِنِّي؟ واللهِ ما بَينَ لابَتَيها أهلُ بَيتٍ أفقَرُ مِنَّا، فضَحِكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى بَدَت نَواجِذُه، قال: فأنتُم إذًا )) [6590] أخرجه البخاري (6087) واللفظ له، ومسلم (1111). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أعتِقْ رَقَبةً)) يَدُلُّ على أنَّ الاعتِبارَ في الكَفَّارةِ بوقتِ الأداءِ؛ حَيثُ إنَّه لَم يَستَفصِلْ، فدَلَّ على أنَّ الاعتِبارَ فيما يُجزِئُ إخراجُه في كَفَّارةِ الجِماعِ في نَهارِ رَمَضانَ بحالِ الأداءِ دونَ الوُجوبِ، فوجَبَ أن يَكونَ الاعتِبارُ بحالِ فِعلِه وأدائِه [6591] يُنظر: ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/777). .
3- مِنَ القياسِ:
فالكَفَّارةُ عِبادةٌ لَها بَدَلٌ، فاعتُبِرَ في جَوازِ الانتِقالِ فيها بصِفةِ المُكَلَّفِ حالَ الأداءِ؛ قياسًا على الوُضوءِ، فالوُضوءُ له بَدَلٌ، وهو التَّيَمُّمُ، والمُعتَبَرُ فيه حالُ الأداءِ لا حالُ الوُجوبِ، فكَذلك الكَفَّارةُ على خِصالٍ، فالمُعتَبَرُ فيها حالُ الأداءِ والفِعلِ لا حالُ الوُجوبِ [6592] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (10/5118)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/315). .
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تحتَ هذه القاعِدةِ بعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- كَفَّارةُ اليَمينِ تَحريرُ رَقَبةٍ، أو إطعامُ عَشَرةِ مَساكينَ، أو كِسوتُهم بما يَستُرُ عامَّةَ البَدَنِ، فإن عَجَزَ عَن أحَدِها صامَ ثَلاثةَ أيَّامٍ، والاعتِبارُ في العَجزِ وعَدَمِه وقتُ الأداءِ لا وقتُ الحِنثِ، فلَو حَنِثَ وهو مُعسِرٌ ثُمَّ أيسَرَ لا يَجوزُ له الصَّومُ. ومَن وجَبَت عليه الكَفَّارةُ فوهَبَ مالَه وسَلَّمَه، ثُمَّ صامَ، ثُمَّ رَجَعَ بالهبةِ، أجزَأه الصَّومُ، والمُعتَبَرُ في التَّكفيرِ حالُ الأداءِ لا غَيرُ [6593] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (4/315)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (4/18). .
2- الاعتِبارُ فيما يُجزِئُ إخراجُه في كَفَّارةِ الظِّهارِ بحالِ الأداءِ دونَ الوُجوبِ، مِثلُ أن يُظاهرَ ويَعودَ وهو موسِرٌ فلا يُعتِقُ حَتَّى يُعسِرَ، فيُجزِئُ عَنه الصَّومُ. فإذا حَنِثَ وهو موسِرٌ فلَم يُكَفِّرْ حَتَّى أعسَرَ كان فرضُه التَّكفيرَ بالصِّيامِ، ولَو حَنِثَ وهو مُعسِرٌ فلَم يُكَفِّرْ حَتَّى أيسَرَ كان فرضُه التَّكفيرَ بالمالِ، فوجَبَ أن يَكونَ الاعتِبارُ بحالِ فِعلِه وأدائِه [6594] يُنظر: ((الإشراف)) للقاضي عبد الوهاب (2/777)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (15/315). .
3- إذا وجَدَ المُتَمَتِّعُ العادِمُ للهَديِ الهَديَ بَينَ الإحرامِ بالحَجِّ والصَّومِ، لَزِمَه الهَديُ؛ بناءً على أنَّ المُعتَبَرَ في الكَفَّارةِ حالةُ الأداءِ، بخِلافِ ما إن وجَدَه بَعدَ الشُّروعِ في الصَّومِ، فلا يَلزَمُه كما في الكَفَّارةِ [6595] يُنظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/466). .

انظر أيضا: