موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ السَّادِسُ: المَرأةُ في مالِها كالرَّجُلِ في مالِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "المَرأةُ في مالِها كالرَّجُلِ في مالِه" [3150] يُنظر: ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (9/338)، ((نخب الأفكار)) للعيني (16/464). ، وصيغةِ: "سُلطانُ المَرأةِ على مالِها كَسُلطانِ الرَّجُلِ على مالِه إذا بَلَغَت المَحيضَ وجَمَعَت الرُّشدَ" [3151] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (2/268). ، وصيغةِ: "تَصَرُّفُ المَرأةِ في مالِها جائِزٌ" [3152] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (8/3)، ((الكوكب الوهاج)) لمحمد أمين الهرري (13/40). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُعَبِّرُ هذه القاعِدةُ عن مَذهَبِ الجُمهورِ في جَوازِ تَصَرُّفِ المَرأةِ في مالِها بغَيرِ اشتِراطِ إذنِ زَوجِها، سَواءٌ تَصَرَّفَت في الثُّلُثِ أو أكثَرَ، فتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المَرأةَ العاقِلةَ الرَّشيدةَ -غَيرَ السَّفيهةِ- إذا كان لَها مالٌ خاصٌّ بها جازَ تَصَرُّفُها في مالِها بكرًا كانت أو ثَيِّبًا، كما يَتَصَرَّفُ العُقَلاءُ مِن الرِّجالِ في أموالِهم، ولا تَحتاجُ إلى إذنِ زَوجِها في ذلك التَّصَرُّفِ؛ حَيثُ إنَّ لَها ذِمَّةً ماليَّةً مُستَقِلَّةً عن ذِمَّةِ الرَّجُلِ، فإن تَصَرَّفَت المَرأةُ في مالِها بغَيرِ إذنِ الزَّوجِ نَفَذَ تَصَرُّفُها.
أمَّا إذا كانت المَرأةُ سَفيهةً أو مُضارَّةً فلا يَجوزُ لَها أن تُعطيَ مِن مالِها بغَيرِ إذنِ زَوجِها [3153] يُنظر: ((مختصر اختلاف العلماء للطحاوي)) للجصاص (2/341)، ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (9/338)، ((المحلى)) لابن حزم (7/184)، ((حلية العلماء)) للشاشي (4/537)، ((شرح النووي على مسلم)) (8/3)، ((الإعلام)) لابن الملقن (7/257)، ((نخب الأفكار)) للعيني (16/473). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ المَرأةَ صاحِبةَ المالِ أحَقُّ بمالِها مِن غَيرِها، فكان لَها حَقُّ التَّصَرُّفِ فيه؛ إذ إنَّ كُلَّ ذي حَقٍّ هو أولى بحَقِّه أبَدًا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- من القُرآنِ:
- قال اللهُ تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ [البقرة: 237] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أجازَ عَفوها عن مالِها بَعدَ طَلاقِ زَوجِها إيَّاها بغَيرِ استِئذانٍ مِن أحَدٍ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ أمرَ المَرأةِ في مالِها كالرَّجُلِ في مالِه [3154] يُنظر: ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (9/338)، ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/108)، ((نخب الأفكار)) للعيني (16/464). .
- وقال اللهُ تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء: 4] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
تَدُلُّ الآيةُ على أنَّه يَجوزُ للزَّوجةِ هبةُ المَهرِ لزَوجِها، أيَّ جِنسٍ كان؛ عَينًا أو دَينًا، قَبَضَته أو لَم تَقبِضْه [3155] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/74). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن زَينَبَ امرَأةِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قالت: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تَصَدَّقنَ يا مَعشَرَ النِّساءِ ولَو مِن حُليِّكُنَّ. فرَجَعتُ إلى عَبدِ اللهِ فقُلتُ: إنَّكَ رَجُلٌ خَفيفُ ذاتِ اليَدِ، وإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أمَرَنا بالصَّدَقةِ، فأْتِه فاسأَلْه، فإن كان ذلك يَجزي عنِّي، وإلَّا صَرَفتُها إلى غَيرِكُم، قالت: فقال لي عَبدُ اللهِ: بَل ائتيه أنتِ، قالت: فانطَلَقتُ فإذا امرَأةٌ مِن الأنصارِ ببابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حاجَتي حاجَتُها، قالت: وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُلقيَت عليه المَهابةُ، قالت: فخَرَجَ علينا بلالٌ فقُلنا له: ائتِ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبِره أنَّ امرَأتَينِ بالبابِ تَسألانِكَ: أتَجزِي الصَّدَقةُ عنهما على أزواجِهما وعَلى أيتامٍ في حُجورِهما؟ ولا تُخبِرْه مَن نَحنُ. قالت: فدَخَلَ بلالٌ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَألَه، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن هما؟ قال: امرَأةٌ مِن الأنصارِ وزَينَبُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ‌أيُّ ‌الزَّيانبِ؟ قال: امرأةُ عبدِ اللهِ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَهما أجرانِ؛ أجرُ القَرابةِ، وأجرُ الصَّدَقةِ)) [3156] أخرجه مسلم (100). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أباحَ لتلك المَرأةِ الصَّدَقةَ بحُليِّها على زَوجِها وعَلى أيتامِه، ولَم يَأمُرْها باستِئذانِه فيما تَتَصَدَّقُ به على أيتامِه.
وفي هذا الحَديثِ أيضًا أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعَظَ النِّساءَ، فقال: ((تَصَدَّقنَ)) ولَم يَذكُرْ في ذلك استِئذانَ أزواجِهنَّ، فدَلَّ ذلك أنَّ لَهنَّ الصَّدَقةَ بما أرَدنَ مِن أموالِهنَّ دونَ الحاجةِ إلى الأخذِ مِن أزواجِهنَّ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَثَّ النِّساءَ عليها، وفَعَلنَها مِن غَيرِ تَقييدٍ بإذنِ الزَّوجِ [3157] يُنظر: ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (9/338)، ((العدة)) لابن العطار (2/712)، ((الإعلام)) لابن الملقن (4/244). .
3- مِنَ الإجماعِ:
فقد نَفى ابنُ بَطَّالٍ والعَينيُّ الخِلافَ في صورةٍ مِن صورِ القاعِدةِ، وهيَ جَوازُ وصيَّةِ المَرأةِ ونَفاذُها كَوصيَّةِ الرَّجُلِ [3158] قال ابنُ بطَّالٍ: (ولا يختَلِفون في أنَّ وصاياها من ثلُثِ مالِها جائزةٌ كوصايا الرَّجُلِ). ((شرح صحيح البخاري)) (7/108). وقال العَينيُّ: (رأيناهم لا يختَلِفون في وصاياها من ثُلُثِ مالِها أنَّها جائزةٌ من ثُلُثِها ‌كوصايا ‌الرَّجُلِ). ((نخب الأفكار)) (16/473). .
4- مِنَ القواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- يَصِحُّ تَصَرُّفُ المَرأةِ بالصَّدَقةِ والهبةِ بما تُريدُ مِن مالِها الخاصِّ مِن غَيرِ إذنِ زَوجِها [3159] يُنظر: ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (9/338)، ((نخب الأفكار)) للعيني (16/473). .
2- يَجوزُ قَبولُ هَديَّةِ المَرأةِ المُتَزَوِّجةِ المَوثوقِ بدينِها، ولا يُشتَرَطُ أن يُسألَ: هَل هو مِن مالِها أم مِن مالِ زَوجِها؟ أو أنَّه أذِنَ فيه أم لا؟ لأنَّ تَصَرُّفَ المَرأةِ في مالِها جائِزٌ بدونِ اشتِراطِ إذنِ الزَّوجِ [3160] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (8/3)، ((الكواكب الدراري)) للكرماني (9/145). .
3- إذا أوصَت المَرأةُ بثُلُثِ مالِها فإنَّ الوصيَّةَ جائِزةٌ كَوصيَّةِ الرَّجُلِ [3161] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/108)، ((نخب الأفكار)) للعيني (16/473). .

انظر أيضا: