موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: مَنِ استَحَقَّ شَيئًا لَم يُدفَعْ عنه إلَّا بإذنِه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "مَنِ استَحَقَّ شَيئًا لَم يُدفَعْ عنه إلَّا بإذنِه" [3081] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/76)، ((عمدة القاري)) للعيني (12/191)، ((فتح المنعم)) لموسى لاشين (8/213)، ((البحر المحيط الثجاج)) لمحمد علي الإتيوبي (34/191). ، وصيغةِ: "مَنِ ‌استَحَقَّ ‌شَيئًا مُتَخَيِّرٌ في إسقاطِ حَقِّه، ومَنِ استُحِقَّ عليه شَيءٌ فلا خيَرةَ له" [3082] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (8/157). ، وصيغةِ: "‌مَنِ ‌استَحَقَّ ‌مِلكًا في وقتٍ فهو ثابِتٌ له حَتَّى يَثبُتَ ما يوجِبُ زَوالَه" [3083] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/141). ، وصيغةِ: "كُلُّ ‌مَنِ ‌استَحَقَّ ‌شَيئًا فقدِ اختَصَّ به" [3084] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/247). ، وصيغةِ: "مَنِ ‌استَحَقَّ ‌شَيئًا فأُخِذَ مِنه بغَيرِ حَقٍّ فهو غَصبٌ" [3085] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/63)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (17/786)، ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (8/21). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ مَنِ استَحَقَّ شَيئًا فقد صارَ مِلكًا ثابِتًا له حَتَّى يَثبُتَ ما يوجِبُ زَوالَه، فهو مُتَخَيِّرٌ في إسقاطِ حَقِّه فيه، ولا يُدفَعُ عنه إلَّا بإذنِه، كَبيرًا كان أو صَغيرًا، إذا كان مِمَّن يَجوزُ إذنُه، ‌ومَنِ ‌استَحَقَّ ‌شَيئًا فأُخِذَ مِنه بغَيرِ حَقٍّ فهو غَصبٌ، والغَصبُ حَرامٌ [3086] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/141)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (8/157)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/76) و(11/63)، ((عمدة القاري)) للعيني (12/191). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ كُلَّ مَنِ استَحَقَّ شَيئًا لا يَجوزُ دَفعُه عنه إلَّا بإذنِه؛ لأنَّه صاحِبُ الحَقِّ، وكُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن سَهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِديِّ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((أُتيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقدَحٍ فشَرِبَ، وعن يَمينِه غُلامٌ هو أحدَثُ القَومِ، والأشياخُ عن يَسارِه، قال: يا غُلامُ، أتَأذَنُ لي أن أُعطيَ الأشياخَ؟ فقال: ما كُنتُ لأوثِرَ بنَصيبي مِنكَ أحَدًا يا رَسولَ اللهِ، فأعطاه إيَّاه )) [3087] أخرجه البخاري (2366) واللفظ له، ومسلم (2030). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الحَديثُ على أنَّ مَن وجَبَ له شَيءٌ مِن الأشياءِ فلا يُؤخَذُ مِنه حَقُّه إلَّا بإذنِه، صَغيرًا كان أو كَبيرًا، إذا كان مِمَّن يَجوزُ إذنُه، وكُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا [3088] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (13/290). .
- وعن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُقيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِن مَجلِسِه، ثُمَّ يَجلِسُ فيه )) [3089] أخرجه البخاري (6269) واللفظ له، ومسلم (2177). .
وعنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((أنَّه نَهى أن يُقامَ الرَّجُلُ مِن مَجلِسِه ويَجلِسَ فيه آخَرُ، ولَكِن تَفَسَّحوا وتَوسَّعوا )) [3090] أخرجه البخاري (6270) واللفظ له، ومسلم (2177). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحَديثُ صَريحُ الدَّلالةِ على النَّهيِ عن إقامةِ الرَّجُلِ مِن مَجلِسِه والقُعودِ فيه إلَّا بإذنِه، فمَن سَبَقَ إلى شَيءٍ استَحَقَّه، ومَن استَحَقَّ شَيئًا فأُخِذَ مِنه بغَيرِ حَقٍّ فهو غَصبٌ [3091] يُنظر: ((فتح الغفار)) للرباعي (4/2160)، ((تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (8/21). .
- وعن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَبيعَ بَعضُكُم على بَيعِ بَعضٍ، ولا يَخطُبَ الرَّجُلُ على خِطبةِ أخيه، حَتَّى يَترُكَ الخاطِبُ قَبلَه، أو يَأذَنَ له الخاطِبُ )) [3092] أخرجه البخاري (5142) واللفظ له، ومسلم (1412). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
دَلَّ الحَديثُ على أنَّه لا يَحِلُّ لمُسلِمٍ أن يَخطُبَ على خِطبةِ مُسلِمٍ إلَّا أن يَأذَنَ له الخاطِبُ الأوَّلُ في أن يَخطُبَها، أو إلَّا أن يَدفَعَ الخاطِبُ الأوَّلُ الخِطبةَ، فيَكونَ لغَيرِه أن يَخطُبَها حينَئِذٍ، أو إلَّا أن تَرُدَّه المَخطوبةُ فلِغَيرِه أن يَخطُبَها حينَئِذٍ. فمَحَلُّ التَّحريمِ إذا لَم يَأذَنِ الخاطِبُ لغَيرِه في الخِطبةِ، فإن أذِنَ ارتَفَعَ التَّحريمُ؛ لأنَّ المَنعَ كان لحَقِّه [3093] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (9/165)، ((البيان)) للعمراني (9/283)، ((طرح التثريب)) للعراقي (6/92). .
2- مِنَ القواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- مَن استَحَقَّ شَيئًا مِن الميراثِ مَلَكَه، وهو أحَقُّ به ما لَم يَعرِضْ ما يُسقِطُ حَقَّه؛ لأنَّ مَن استَحَقَّ مِلكًا في وقتٍ فهو ثابِتٌ له حَتَّى يَثبُتَ ما يوجِبُ زَوالَه [3094] يُنظر: ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (8/141). .
2- مَن استَحَقَّ شَيئًا مِن رَيعِ الوقفِ بشَرطِ الواقِفِ صارَ ذلك الشَّيءُ نَصيبَه، فلا يُدفَعُ عنه إلَّا بإذنِه [3095] يُنظر: ((العقود الدرية)) لابن عابدين (1/142). .

انظر أيضا: