الفَرعُ الرَّابِعُ: تَعَلُّقُ حَقِّ المُعَيَّنِ بالمالِ يَمنَعُ التَّصَرُّفَ فيه
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "تَعَلُّقُ حَقِّ المُعَيَّنِ بالمالِ يَمنَعُ التَّصَرُّفَ فيه"
[3117] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (8/4053). ، وصيغةِ: "يُمنَعُ الإنسانُ مِن التَّصَرُّفِ في مِلكِه؛ لتَعَلُّقِ حَقِّ الغَيرِ"
[3118] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (6/191). ، وصيغةِ: "تَعَلُّقُ حَقِّ الغَيرِ بمِلكِه يمَنعُ المالِكَ مِن التَّصَرُّفِ"
[3119] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (7/322)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (7/322). ، وصيغةِ: "تَعَلُّقُ حَقِّ الغَيرِ يَمنَعُ صِحَّةَ الإقرارِ"
[3120] يُنظر: ((شرح الزيادات)) لقاضي خان (4/1335). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.تُفيدُ القاعِدةُ أنَّه إذا تَعَلَّقَ حَقُّ الغَيرِ في مِلكِ إنسانٍ فإنَّ ذلك يَمنَعُ المالِكَ مِن تَصَرُّفِه على وَجهِ الاستِقلالِ، فلَيسَ للمالِكِ أن يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا مُضِرًّا بغَيرِه ما لَم يَرضَ الآخَرُ بذلك، فإذا تَعَلَّقَ حَقٌّ لمُعَيَّنٍ بالمالِ فإنَّه يُمنَعُ التَّصَرُّفُ فيه؛ لأنَّ حَقَّ الغَيرِ مَعصومٌ مُحتَرَمٌ، فلا يَجوزُ إبطالُه مِن غَيرِ رِضاه، فإذا أذِنَ له ذلك الغَيرُ في التَّصَرُّفِ بمالِه صَحَّ تَصَرُّفُه فيه. وليس مَعنى هذا المَنعِ أنَّ صاحِبَ المالِ مَحجورٌ عليه، فمَن مُنِعَ مِن التَّصَرُّفِ في مالٍ لتَعَلُّقِ حَقِّ الغَيرِ به لَم يَكُنْ مَحجورًا عليه كالرَّهنِ، ولَو كان المَنعُ لهذه العِلَّةِ حَجرًا لَكان جَميعُ النَّاسِ مَحجورًا عليهم
[3121] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (7/3203) و(8/4053)، ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى (3/63)، ((البيان)) للعمراني (6/196)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/224)، ((المغني)) لابن قدامة (6/616)، ((كفاية النبيهـ)) لابن الرفعة (5/224)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (3/205). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا)؛ إذ مَن تَعَلَّقَ حَقُّه بالمالِ فهو أولى بحَقِّه؛ إذ إنَّ كُلَّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ والقَواعِدِ.
1- مِنَ السُّنَّةِ:عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ الجِنَّ سَألوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الزَّادِ، فقال لَهم:
((لَكُم كُلُّ عَظمٍ ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليه يَقَعُ في أيديكُم أوفَرَ ما يَكونُ لَحمًا، وكُلُّ بَعرةٍ عَلَفٌ لدَوابِّكُم، فلا تَستَنجوا بهما؛ فإنَّهما طَعامُ إخوانِكُم )) [3122] أخرجه مسلم (450). .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الحَديثِ دَلالةٌ على تَركِ الاستِنجاءِ بالعَظمِ والبَعرِ؛ وذلك لتَعَلُّقِ حَقِّ الجِنِّ بهما؛ فدَلَّ على أنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الغَيرِ بالشَّيءِ يَمنَعُ مِن التَّصَرُّفِ فيه
[3123] يُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (1/252). .
2- مِنَ القواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.مِنَ الأمثلةِ على هذه القاعِدةِ:
1- إذا تَعَلَّقَ حَقُّ الغُرَماءِ بالمالِ مُنِعَ المَريضُ مِن التَّبَرُّعِ أو التَّصَرُّفِ في الثُّلُثِ، والمَرَضُ ليس بمانِعٍ لعَينِه بَل لتَعَلُّقِ حَقِّ الغَيرِ
[3124] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (8/405 3)، ((طريقة الخلاف)) للأسمندي (ص: 409)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/228)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/310). .
2- يَمنَعُ المُستَأجِرُ المالِكَ عن التَّصَرُّفِ في المُستَأجَرِ؛ فتَعَلُّقُ حَقِّ الغَيرِ بمِلكِه يَمنَعُ المالِكَ مِن التَّصَرُّفِ
[3125] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (7/322). .
3- الرَّهنُ يَمنَعُ الرَّاهنَ مِن التَّصَرُّفِ فيه مَعَ تَمامِ مِلكِه عليه؛ لتَعَلُّقِ حَقِّ المُرتَهنِ به؛ لأنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الغَيرِ يَمنَعُ التَّصَرُّفَ فيه
[3126] يُنظر: ((التعليقة الكبيرة)) لأبي يعلى (3/63)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (10/8). .
4- الأبنيةُ والعِماراتُ التي تَحتَوي على طَوابِقَ بها شُقَقٌ سَكَنيَّةٌ، فكُلُّ شقَّةٍ فوقَها أو تَحتَها مِلكٌ لأحَدٍ، فبِما أنَّ لصاحِبِ الفَوقانيِّ حَقَّ القَرارِ في التَّحتانيِّ، ولِصاحِبِ التَّحتانيِّ حَقَّ السَّقفِ في الفَوقانيِّ، أي حَقَّ التَّسَتُّرِ والتَّحَفُّظِ مِن الشَّمسِ والمَطَرِ، فلَيسَ لأحَدِهما أن يَعمَلَ عَمَلًا مُضِرًّا بالآخَرِ بدونِ إذنِه، ولا أن يَهدِمَ بناءَ نَفسِه؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ له أن يَتَصَرَّفَ في مِلكِه كَيفَما شاءَ، لَكِن إذا تَعَلَّقَ حَقُّ الغَيرِ به فيُمنَعُ المالِكُ مِن تَصَرُّفِه على وَجهِ الاستِقلالِ
[3127] يُنظر: ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 230)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (3/201). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.استِثناءاتٌ:يُستَثنى مِن القاعِدةِ: ما إذا تَعَلَّقَ حَقٌّ لمُعَيَّنٍ بالمالِ فأسقَطَ صاحِبُ الحَقِّ حَقَّه، فلا يُمنَعُ صاحِبُ المالِ مِن التَّصَرُّفِ فيه، ومِن ذلك:
1- إذا أوصى بجَميعِ مالِه فأجازَتِ الورَثةُ، كان تَمليكًا مِن المَيِّتِ، وكَذلك الوصيَّةُ للوارِثِ، فإذا أجازوها تَكونُ وصيَّةً؛ لأنَّه عَقدَ على مِلكِ نَفسِه مَعَ تَعَلُّقِ حَقِّ الغَيرِ به، فإذا أسقَطَ الغَيرُ حَقَّه نَفَذَ العَقدُ مِن جِهَتِه، كما لَو أوصى وعليه دَينٌ فأبرَأه الغُرَماءُ مِن دَينِه، ولِأنَّ المَنعَ مِن التَّصَرُّفِ في الثُّلُثَينِ لحَقِّ الورَثةِ كَحالِ المَنعِ مِن التَّصَرُّفِ في الثُّلُثِ لحَقِّ الغُرَماءِ فجَرى أحَدُهما مَجرى الآخَرِ
[3128] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (8/4000). .
2- إذا باعَ الرَّاهنُ الرَّهنَ بإذنِ المُرتَهنِ نَفَذَ العَقدُ مِن جِهةِ الرَّاهنِ؛ لأنَّه عَقدَ على مِلكِ غَيرِه ولِلغَيرِ فيه حَقٌّ، فإذا نَفَذَ العَقدُ بسُقوطِ حَقِّ الغَيرِ نَفَذَ مِن العاقِدِ إذا باعَ الرَّهنَ بإذنِ المُرتَهنِ
[3129] يُنظر: ((التجريد)) للقدوري (8/4000). .