موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: الحُقوقُ لا تَقبَلُ النَّقلَ إلى الغَيرِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الحُقوقُ لا تَقبَلُ النَّقلَ إلى الغَيرِ" [3096] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/161). ، وصيغةِ: ‌"نَقلُ الحَقِّ إلى العَينِ لا يَجوزُ إلَّا بالتَّراضي، فنَقلُه إلى الذِّمَّةِ أولى أن لا يَجوزَ" [3097] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (5/446). ، وصيغةِ: "الحُقوقُ المُرَتَّبُ أهلُها شَرعًا أو شَرطًا إنَّما يُشتَرَطُ ‌انتِقالُها ‌إلى ‌الطَّبَقةِ الثَّانيةِ عِندَ عَدَمِ الأولى، أو عَدَمِ استِحقاقِها؛ لاستِحقاقِ الأولى أوَّلًا" [3098] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (31/188). ، وصيغةِ: "بَيعُ الحَقِّ لا يَجوزُ" [3099] يُنظر: ((عيون المسائل)) للسمرقندي (ص: 396)، ((المبسوط)) للسرخسي (22/127)، ((شرح أدب القاضي للخصاف)) للصدر الشهيد (2/181)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (8/195). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ نَقلَ حَقٍّ مُستَقِرٍّ مِن مَحَلٍّ إلى مَحَلٍّ، أو مِن ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ أُخرى، ليس له أصلٌ مِن غَيرِ حاجةٍ ولا ضَرورةٍ؛ فإنَّه لا يوجَدُ حَقٌّ مِن الحُقوقِ يَقبَلُ النَّقلَ مِن صاحِبِه إلى غَيرِه، فلَيسَ للزَّوجِ أن يَنقُلَ حَقَّ الاستِمتاعِ إلى غَيرِه، وليس لصاحِبِ الإرثِ أن يَنقُلَ حَقَّه إلى غَيرِه، وليس لصاحِبِ الشُّفعةِ أن يَنقُلَ حَقَّه إلى غَيرِه. وقد توجَدُ حُقوقٌ تَقبَلُ الإسقاطَ إلَّا أنَّها لا تَقبَلُ النَّقلَ [3100] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (6/171)، ((المنثور)) للزركشي (2/54). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ الحُقوقَ التي لا تَقبَلُ النَّقلَ إلى الغَيرِ تَكونُ مُختَصَّةً بأصحابِها؛ لأنَّ صاحِبَ الحَقِّ أولى به أبَدًا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ السُّنَّةُ والإجماعُ والقَواعِدُ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الولاءِ وعن هبَتِه )) [3101] أخرجه البخاري (2535) واللفظ له، ومسلم (1506). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّه لا يَصِحُّ بَيعُ الولاءِ ولا هبَتُه؛ حَيثُ إنَّ ذلك أمرٌ مَعنَويٌّ كالنَّسَبِ، فلا يَتَأتَّى انتِقالُه؛ كالأُبوَّةِ والأُخوَّةِ والجُدودةِ التي لا يَتَأتَّى انتِقالُها [3102] يُنظر: ((البدر التمام)) للمغربي (10/124)، ((سبل السلام)) للصنعاني (8/118). .
2- مِنَ الإجماعِ:
وقد نَقَلَه ابنُ بَطَّالٍ على صورةٍ مِن صورِ القاعِدةِ [3103] قال: (أجمع العُلَماءُ أنَّه لا ‌يجوزُ ‌تحويلُ ‌النَّسَبِ). ((شرح صحيح البخاري)) (7/51). .
3- مِنَ القواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- بَيعُ الدَّينِ مِن غَيرِ مَن عليه الدَّينُ، إن قُلنا: إنَّه مالٌ جازَ، وإن قُلنا: إنَّه حَقٌّ فلا يَجوزُ؛ لأنَّ الحُقوقَ لا تَقبَلُ النَّقلَ إلى الغَيرِ [3104] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/161). .
2- نَقلُ الحَقِّ في الشُّفعةِ [3105] هيَ: انتِزاعُ الإنسانِ حِصَّةَ شَريكِه مِن مُشتَريها بمِثلِ ثَمَنِها. يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/232). لا يَصِحُّ، ولَكِن يَسقُطُ حَقُّه بدَلالةِ الإعراضِ [3106] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (7/281). .
3- حَقُّ المُرتَهنِ مُتَعَلِّقٌ بذِمَّةِ الرَّاهنِ ورَقَبةِ الرَّهنِ، فلا يَملِكُ الرَّاهنُ أن يَنقُلَ حَقَّ المُرتَهنِ مِن ذِمَّتِه إلى ذِمَّةِ غَيرِه بالحَوالةِ إلَّا باختيارِ المُرتَهنِ، وكَذلك لا يَملِكُ أن يَنقُلَ حَقَّ المُرتَهنِ مِن رَقَبةِ الرَّهنِ إلى قيمَتِه إلَّا باختيارِ المُرتَهنِ [3107] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (6/55). .
4- البَيِّنةُ حُجَّةٌ للمُدَّعي، واليَمينُ حُجَّةٌ للمُدَّعى عليه، ولا يَجوزُ أن تُنقَلَ حُجَّةُ المُدَّعي، وهيَ البَيِّنةُ، إلى المُدَّعى عليه، وكَذلك لا يَجوزُ أن يُنقَلَ حَقُّ المُدَّعى عليه، وهو اليَمينُ، إلى المُدَّعي؛ لأنَّ البَيِّنةَ مَوضوعةٌ للإثباتِ، واليَمينُ مَوضوعةٌ للنَّفيِ، فلَمَّا لَم يَجُزْ أن يُعدَلَ بالبَيِّنةِ إلى النَّفيِ، لَم يَجُزْ أن يُعدَلَ باليَمينِ إلى الإثباتِ [3108] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (17/140). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِن القاعِدةِ: الحَوالةُ، أي نَقلُ الحَقِّ مِن ذِمَّةِ المُحيلِ إلى ذِمَّةِ المُحالِ عليه [3109] يُنظر: ((الهداية)) للكلوذاني (ص: 263). ويُنظر أيضًا: ((التهذيب)) للبغوي (4/161)، ((المقنع)) لابن قدامة (ص: 182). .

انظر أيضا: