موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الخامِسُ: صاحِبُ الحَقِّ إذا ظَفِرَ بجِنسِ حَقِّه كان له أن يَأخُذَه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "صاحِبُ الحَقِّ إذا ظَفِرَ بجِنسِ حَقِّه كان له أن يَأخُذَه" [3130] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/188)، ((الكافي)) للسغناقي (3/1122). ، وصيغةِ: "صاحِبُ الدَّينِ إذا ظَفِرَ بجِنسِ حَقِّه فاستَوفى كان استيفاؤُه صَحيحًا" [3131] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (5/12). ، وصيغةِ: "لصاحِبِ الدَّينِ إذا ظَفِرَ بجِنسِ حَقِّه أن يَأخُذَه مِن غَيرِ قَضاءٍ ولا إرضاءٍ" [3132] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/6). ، وصيغةِ: ‌"كُلُّ مَن كان له حَقٌّ على أحَدٍ مَنَعَه إيَّاه فلَه أخذُه منه" [3133] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/111). ، وصيغةِ: "مَن استَحَقَّ شَيئًا استَحَقَّ الوُصولَ إليه" [3134] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (19/192)، ((الغاية)) للعز بن عبد السلام (8/156)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/387). ، وصيغةِ: "مَن مَنَعَ الواجِبَ عليه، وكان سَبَبُ ثُبوتِه ظاهرًا فلِمُستَحِقِّه أن يَأخُذَ بيَدِه إذا قدَرَ عليه، وإن كان سَبَبُ الحَقِّ خَفيًّا لَم يَجُزْ له ذلك" [3135] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/379). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
إذا كان مَن عليه الحَقُّ مَليئًا وفيًّا، ولَم يَظهَرْ مِنه امتِناعٌ عن أداءِ ما عليه، فلَيسَ لصاحِبِ الحَقِّ أن يَأخُذَ مالَه، ولَو أخَذَه لَم يَملِكْه، ولا فرقَ بَينَ أن يَكونَ مِن جِنسِ حَقِّه، أو مِن غَيرِ جِنسِ حَقِّه. أمَّا إذا كان مَن عليه الحَقُّ مَليئًا مُماطِلًا فإنَّ لصاحِبِ الحَقِّ أن يَرفَعَ أمرَه إلى القاضي، فإذا لَم تَكُنْ له بَيِّنةٌ تُثبِتُ حَقَّه، ولَم يَتَمَكَّنْ مِن رَفعِ أمرِه إلى القاضي، وتَعَذَّرَ عليه الوُصولُ إلى حَقِّه، وظَفِرَ بجِنسِ حَقِّه مِن مالِ مَن عليه الحَقُّ، فلَه أن يَأخُذَه عِندَ تَحَقُّقِ العُذرِ، ولا يَكونُ غاصِبًا بَل يَكونُ مُستَوفيًا حَقَّه، وليس له أن يَأخُذَ أكثَرَ مِن حَقِّه، ولا يَملِكُ ما أخَذَه ما لَم يَأخُذْه على قَصدِ التَّمَلُّكِ [3136] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (10/281) و(19/190)، ((المبسوط)) للسرخسي (5/188)، ((الوسيط)) للغزالي (7/399)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (8/520)، ((الكافي)) للسغناقي (3/1122). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفَرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا)؛ لأنَّ مَن ظَفِرَ بجِنسِ حَقِّه فهو أولى به مِن غَيرِه؛ لأنَّ كُلَّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا.
ثالِثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ هندَ بنتَ عُتبةَ قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ شَحيحٌ وليس يُعطيني ما يَكفيني وولَدي إلَّا ما أخَذتُ مِنه وهو لا يَعلَمُ، فقال: ((خُذي ما يَكفيكِ وولَدَكِ بالمَعروفِ)) [3137] أخرجه البخاري (5364) واللفظ له، ومسلم (1714). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يُفيدُ الحَديثُ أنَّ الذي يَجحَدُ حَقًّا عليه لأحَدٍ، ويَمنَعُه مِنه، ثُمَّ يَظفَرُ المَجحودُ له بمالٍ للجاحِدِ، قد ائتَمَنَه عليه، أو نَحوُ ذلك، له أن يَأخُذَ حَقَّه منه [3138] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/111)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (12/533)، ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (19/190)، ((المبسوط)) للسرخسي (11/128)، ((الوسيط)) للغزالي (7/400). .
- وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضيَ اللهُ عنه، قال: أُصيبَ رَجُلٌ في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ثِمارٍ ابتاعَها، فكَثُرَ دَينُه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَصَدَّقوا عليه. فتَصَدَّقَ النَّاسُ عليه، فلَم يَبلُغْ ذلك وفاءَ دَينِه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لغُرَمائِه: ((خُذوا ما وجَدتُم، وليس لَكُم إلَّا ذلك )) [3139] أخرجه مسلم (1556). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُذوا ما وجَدتُم، وليس لَكُم إلَّا ذلك )) نَصٌّ مِنه لصاحِبِ الحَقِّ بأن يَأخُذَ حَقَّه مِمَّا وجَدَه مِن الذي عليه الحَقُّ [3140] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (6/492). .
2- مِنَ الإجماعِ:
ومِمَّن حَكاه الشَّافِعيُّ [3141] قال: (إنَّ سُنَّةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ إجماعَ أكثرِ من حَفِظتُ عنه من أهلِ العِلمِ قَبلَنا يدُلُّ على أنَّ ‌كُلَّ ‌من ‌كان ‌له ‌حقٌّ على أحدٍ منَعَه إياه، فله أخذُه منهـ). ((الأم)) (5/111). .
3- مِنَ القواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (كُلُّ ذي حَقٍّ أولى بحَقِّه أبَدًا).
رابعًا: أمثلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- المُمتَنِعُ عن أداءِ الزَّكاةِ إذا ظَفِرَ وليُّ الأمرِ بمالِه أخَذَ الزَّكاةَ منه [3142] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لأبي المعالي الجويني (3/145). .
2- إذا جَحَدَ المُستَودَعُ ما عِندَه مِن الوديعةِ، ثُمَّ أودَعَ مِن مالِه عِندَ المودِعِ مِثلَ ذلك: يُمكِنُه أخذُه في مُقابِلِ ما ذَهَبَ به مِن وديعَتِه؛ لأنَّ المالَ صارَ دَينًا له على المُستَودَعِ بجُحودِه. وصاحِبُ الحَقِّ مَتى ظَفِرَ بجِنسِ حَقِّه مِن مالِ المَديونِ يَكونُ له أن يَأخُذَه [3143] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (11/128). .
3- يَجوزُ للزَّوجةِ أن تَأخُذَ نَفَقَتَها ونَفَقةَ أولادِها مِن مالِ زَوجِها الشَّحيحِ إذا ظَفِرَت به؛ لأنَّ مَن ظَفِرَ بجِنسِ حَقِّه كان له أن يَأخُذَه [3144] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (12/533)، ((شرح أدب القاضي للخصاف)) للصدر الشهيد (ص: 550). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
قَيدٌ:
هذه القاعِدةُ تُعرَفُ بـ: مَسألةِ الظَّفَرِ. وهناكَ قَيدٌ تُقَيَّدُ به، وقد ورَدَ في صياغةِ ابنِ القَيِّمِ التي تَقدَّمَ ذِكرُها وهيَ قَولُه: (مَن مَنَعَ الواجِبَ عليه، وكان سَبَبُ ثُبوتِه ظاهرًا، فلِمُستَحِقِّه أن يَأخُذَ بيَدِه إذا قدَرَ عليه، وإن كان سَبَبُ الحَقِّ خَفيًّا لَم يَجُزْ له ذلك) [3145] ((إعلام الموقعين)) (5/379). .
وقد ذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ أقسامَ الحيَلِ، وذَكَرَ في القِسمِ الرَّابِعِ: أن يَقصِدَ بالحيلةِ أخذَ حَقٍّ، أو دَفعَ باطِلٍ، لَكِن يَكونُ الطَّريقُ إلى حُصولِ ذلك مُحَرَّمةً، مِثلُ أن يَكونَ له على رَجُلٍ حَقٌّ فيَجحَدُه، فيُقيمُ شاهدَينِ لا يَعرِفانِ غَريمَه ولَم يَرَياه، يَشهَدانِ له بما ادَّعاه، فهذا مُحَرَّمٌ أيضًا، وهو عِندَ اللهِ تَعالى عَظيمٌ) ثُمَّ قال: (فإن قيلَ: فما تَقولونَ في مَسألةِ الظَّفَرِ؟ هَل هيَ مِن هذا البابِ، أو مِن القِصاصِ المُباحِ؟
قيلَ: قد اختَلَفَ الفُقَهاءُ فيها على خَمسةِ أقوالٍ:
أحَدُها: أنَّها مِن هذا البابِ، وأنَّه ليس له أن يَخونَ مَن خانَه، ولا يَجحَدَ مَن جَحَدَه، ولا يَغصِبَ مَن غَصَبَه، وهذا ظاهرُ مَذهَبِ أحمَدَ ومالِكٍ.
والثَّاني: يَجوزُ له أن يَستَوفيَ قدرَ حَقِّه إذا ظَفِرَ بمالِه، سَواءٌ ظَفِرَ بجِنسِه أو غَيرِ جِنسِه، وفي غَيرِ الجِنسِ يَدفَعُه إلى الحاكِمِ يَبيعُه، ويَستَوفي ثَمَنَه مِنه، وهذا قَولُ أصحابِ الشَّافِعيِّ.
والثَّالِثُ: يَجوزُ له أن يَستَوفيَ قدرَ حَقِّه إذا ظَفِرَ بجِنسِ مالِه، وليس له أن يَأخُذَ مِن غَيرِ الجِنسِ، وهذا قَولُ أصحابِ أبي حَنيفةَ.
والرَّابِعُ: أنَّه إن كان عليه دَينٌ لغَيرِه لَم يَكُنْ له الأخذُ، وإن لَم يَكُنْ عليه دَينٌ فلَه الأخذُ، وهذا إحدى الرِّوايَتَينِ عن مالِكٍ.
والخامِسُ: أنَّه إن كان سَبَبُ الحَقِّ ظاهرًا كالنِّكاحِ، والقَرابةِ، وحَقِّ الضَّيفِ، جازَ للمُستَحِقِّ الأخذُ بقدرِ حَقِّه، كما أذِنَ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهندٍ أن تَأخُذَ مِن مالِ أبي سُفيانَ ما يَكفيها ويَكفي بَنيها [3146] لفظُه: عن عائشةَ أنَّ هِندَ بنتَ عُتبةَ قالت: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ أبَا سُفيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وليسَ يُعطيني ما يَكفيني ووَلَدي إلَّا ما أخَذتُ منه وهو لا يَعلَمُ، فقال: خُذي ما يَكفِيك ووَلَدَكِ بالمَعروفِ. أخرجه البخاري (5364) واللفظ له، ومسلم (1714). ، وكَما أذِنَ لمَن نَزَلَ بقَومٍ ولَم يُضيفوه أن يُعقِبَهم في مالِهم بمِثلِ قِراه، كما في الصَّحيحَينِ عن عُقبةَ بنِ عامِرٍ، قال: قُلتُ للنَّبيِّ: إنَّكَ تَبعَثُنا، فنَنزِلُ بقَومٍ لا يَقرونا، فما تَرى؟ فقال لَنا: ((إن نَزَلتُم بقَومٍ، فأمَروا لَكُم بما يَنبَغي للضَّيفِ فاقبَلوا، وإن لَم يَفعَلوا فخُذوا مِنهم حَقَّ الضَّيفِ الذي يَنبَغي لهم )) [3147] أخرجه البخاري (6137)، ومسلم (1727). ...وإن كان سَبَبُ الحَقِّ خَفيًّا بحَيثُ يُتَّهَمُ بالأخذِ، ويُنسَبُ إلى الخيانةِ ظاهرًا، لَم يَكُنْ له الأخذُ وتَعريضُ نَفسِه للتُّهمةِ والخيانةِ، وإن كان في الباطِنِ آخِذًا حَقَّه، كما أنَّه ليس له أن يَتَعَرَّضَ للتُّهمةِ التي تُسَلِّطُ النَّاسَ على عِرضِه، وإن ادَّعى أنَّه مُحِقٌّ غَيرُ مُتَّهَمٍ. وهذا القَولُ أصَحُّ الأقوالِ وأسَدُّها، وأوفَقُها لقَواعِدِ الشَّريعةِ وأُصولِها، وبِه تَجتَمِعُ الأحاديثُ) [3148] ((إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان)) (2/ 768 -772). .
فهذه المَسألةُ قد تَجاذَبَها أصلانِ كما تَقدَّمَ في كَلامِ ابنِ القَيِّمِ عنها، والنِّزاعُ فيها جاءَ بناءً على هَذَينِ الأصلَينِ، فتَوسَّعَ فيها قَومٌ حَتَّى أفرَطوا بدَعوى أنَّها مِن القِصاصِ المُباحِ، ومَنَعَها قَومٌ بالكُلِّيَّةِ بدَعوى أنَّها مِن الحيَلِ المُحَرَّمةِ، وتَوسَّطَ آخَرونَ فقالوا: إن كان سَبَبُ الحَقِّ ظاهرًا كالزَّوجيَّةِ والأُبوةِ والبُنوَّةِ، وحَقِّ الضَّيفِ، جازَ للمُستَحِقِّ الأخذُ بقدرِ حَقِّه. وإن كان سَبَبُ الحَقِّ خَفيًّا بحَيثُ يُتَّهَمُ بالخيانةِ لَو أخَذَ حَقَّه كالقَرضِ وثَمَنِ المَبيعِ، لَم يَكُنْ له الأخذُ [3149] يُنظر: ((منهج الإمام ابن القيم في القواعد الفقهية)) لأنور أبوزيد (ص: 414-415). .

انظر أيضا: