الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ العاشِرُ: هل يَسقُطُ حَدُّ الزِّنا بالتَّوبةِ قَبلَ أن يُرفَعَ إلى الإمامِ؟


اختَلَف العُلَماءُ في سُقوطِ حَدِّ الزِّنا بالتَّوبةِ قَبلَ أن يُرفَعَ إلى الإمامِ، على قَولَينِ [235] المقصودُ بذلك الحدودُ التي هي حقُّ اللهِ، أمَّا الحدودُ المختَصَّةُ بالعبادِ فلا تسقُطُ بالتَّوبةِ ِلا قَبلَ الرَّفعِ للحاكمِ ولا بَعدَه. يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/ 8)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/153).        :
القَولُ الأوَّلُ: يَسقُطُ حَدُّ الزِّنا بالتَّوبةِ قَبلَ أن يُرفَعَ إلى الإمامِ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [236] ((المبسوط)) للسرخسي (9/150)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/4). ، والحنابِلةِ [237] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/135)، ((الإنصاف)) للمرداوي (10/226)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/154). ، وقَولُ بعضِ المالِكيَّةِ [238] ((منح الجليل)) لعليش (9/333). ، ومُقابِلُ الأظهَرِ عِندَ الشَّافعيَّةِ [239] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 302)، ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (5/103)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/8). ، واختاره ابنُ تَيميَّةَ [240] قال ابنُ تيميَّةَ: (إن تاب من الزِّنا والسَّرِقةِ أو شُربِ الخَمرِ قَبلَ أن يُرفَعَ إلى الإمامِ فالصَّحيحُ أنَّ الحَدَّ يَسقُطُ عنه، كما يسقُطُ عن المحارِبينَ بالإجماعِ إذا تابوا قَبلَ القُدرةِ). ((الفتاوى الكبرى)) (3/411). ، وابنُ القَيِّمِ [241] قال ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا اعتبارُ تَوبةِ المحارِبِ قَبلَ القُدرةِ عليه دونَ غَيرِه، فيقالُ: أين في نصوصِ الشَّارعِ هذا التَّفريقُ؟ بل نصُّه على اعتبارِ توبةِ المحارِبِ قَبلَ القدرةِ عليه إمَّا من بابِ التَّنبيهِ على اعتبارِ تَوبةِ غَيرِه بطريقِ الأَولى؛ فإنَّه إذا دَفَعَت توبتُه عنه حَدَّ حرابِه مع شِدَّةِ ضَرَرِها وتَعَدِّيه فلأن تَدفَعَ التَّوبةُ ما دونَ حَدِّ الحِرابِ بطَريقِ الأَولى والأَحرى، ... وفي الصَّحيحَينِ من حديثِ أنسٍ، قال: «كنتُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجاء رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أصَبتُ حَدًّا فأقِمْه عَلَيَّ، قال: ولم يَسأَلْه عنه، قال: فحَضَرَت الصَّلاةُ، فصلَّى مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا قضى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّلاةَ قام إليه الرَّجُلُ، فأعاد قَولَه، قال: أليس قد صَلَّيتَ مَعَنا؟ قال: نعَمَ، قال: فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد غفَرَ لك ذَنبَك» فهذا لمَّا جاء تائبًا بنفسِه من غيرِ أن يُطلَبَ غَفَر اللهُ له، ولم يُقِمْ عليه الحَدَّ الذي اعتَرَف به، وهو أحَدُ القولينِ في المسألةِ، وهو إحدى الرِّوايتينِ عن أحمدَ، وهو الصَّوابُ). ((إعلام الموقعين)) (2/60). وقال: (مَن تأمَّل المطابَقةَ بَينَ الأمرِ والنَّهيِ والعقابِ وارتباطَ أحدِهما بالآخَرِ، عَلِمَ فِقهَ هذا البابِ، وإذا كان اللهُ لا يُعَذِّبُ تائبًا فهكذا الحدودُ لا تقامُ على تائبٍ، وقد نَصَّ اللهُ على سُقوطِ الحَدِّ عن المحاربينَ بالتَّوبةِ التي وقَعَت قَبلَ القدرةِ عليهم مع عظيمِ جُرمِهم، وذلك تنبيهٌ على سُقوطِ ما دونَ الحِرابِ بالتَّوبةِ الصَّحيحةِ بطَريقِ الأَولى). ((إعلام الموقعين)) (3/15). ، وابنُ عُثَيمين ([242]( قال ابنُ عُثَيمين: (وهل يُلحَقُ بذلك سائِرُ الحدودِ، كحَدِّ الزِّنا والسَّرِقةِ وما أشبَهَ ذلك؟ الجوابُ: نَعَم، يُلحَقُ به؛ لأنَّ التَّوبةَ إذا أسقَطَت هذا الحَدَّ العظيمَ في الجُرمِ العظيمِ فما دونَه مِن بابِ أَولى، فالسَّارِقُ مَثَلًا إذا تاب إلى اللهِ، وأتى بالمالِ المسروقِ ورَدَّه إلى صاحِبِه، فإنَّنا لا نَقطَعُ يَدَه؛ لأنَّه تاب إلى اللهِ قَبلَ أن نَقدِرَ عليهـ). ((تفسير سورة المائدة)) (1/ 328). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1- قَولُه تعالى: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء: 16] .
2- قَولُه تعالى: فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ [المائدة: 39] .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنتُ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجاءه رجلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أصَبتُ حَدًّا فأقِمْه عَلَيَّ، قال: ولم يَسأَلْه عنه، قال: وحَضَرَت الصَّلاةُ، فصلَّى مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا قضى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّلاةَ قام إليه الرَّجُلُ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أصبتُ حَدًّا فأقِمْ فيَّ كِتابَ اللهِ، قال: أليس قد صَلَّيتَ مَعَنا؟ قال: نعَمَ، قال: فإنَّ اللهَ قد غفَرَ لك ذَنبَك. أو قال: حَدَّك )) [243] أخرجه البخاري (٦٨٢٣) واللفظ له، ومسلم (٢٧٦٤) مختصرًا. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الرَّجُلَ حينما جاء تائبًا بنفسِه من غيرِ أن يُطلَبَ، غَفَر اللهُ له، ولم يُقِمْ عليه الحَدَّ الذي اعتَرَف به [244] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/60). .
ثالثًا: لأنَّه خالِصُ حَقِّ اللهِ تعالى، فيَسقُطُ بالتَّوبةِ، كحَدِّ المحارِبِ [245] ((كشاف القناع)) للبهوتي (6/154). .
رابعًا: لأنَّ اللهَ تعالى جَعَل الحُدودَ عقوبةً لأربابِ الجرائمِ، ورَفَع العُقوبةَ عن التَّائبِ شَرعًا وقَدَرًا؛ فليس في شرعِ اللهِ ولا قَدَرِه عقوبةُ تائبٍ البتَّةَ [246] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/60). .
خامسًا: لأنَّه إذا دَفَعَت توبتُه عنه حَدَّ حِرابِه مع شِدَّةِ ضَرَرِها وتعَدِّيه، فلَأَن تدفَعَ التَّوبةُ ما دونَ حَدِّ الحِرابِ بطريقِ الأَولى والأَحرى [247] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/60). .
القَولُ الثَّاني: لا يَسقُطُ الحَدُّ عن الزَّاني بالتَّوبةِ قَبلَ رَفعِه إلى الإمامِ أو بَعدَه، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [248] ((التاج والإكليل)) للمواق (6/313)، ((منح الجليل)) لعليش (9/333). ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (8/103). ، والشَّافِعيَّةِ -في الأظهَرِ- [249] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص 302)، ((الغرر البهية)) للأنصاري (5/103)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (8/8). ، وروايةٌ عندَ الحنابِلةِ [250] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/135). ، واختاره ابنُ حَزمٍ [251] قال ابنُ حَزمٍ: (إنَّ النَّصَّ قد ورَدَ جُملةً بإقامةِ الحدودِ في السَّرِقةِ والخَمرِ والزِّنا والقَذفِ، ولم يَستثنِ اللهُ تعالى تائبًا من غيرِ تائبٍ، ولم يَصِحَّ نَصٌّ أصلًا بإسقاطِ الحَدِّ عن التَّائِبِ، فإذا الأمرُ كذلك فلا يحِلُّ أن يُخَصَّ التَّائِبُ من عمومِ أمرِ اللهِ تعالى بإقامةِ الحدودِ بالرَّأيِ والقياسِ دونَ نَصٍّ ولا إجماعٍ، فهذه عُمدَتُنا في إقامةِ الحدودِ على التَّائبِ وغيرِ التَّائِبِ). ((المحلى)) (12/19). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: من الكِتابِ
عُمومُ قَولِه تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] .
ثانيًا: لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجَمَ ماعِزًا والغامِديَّةَ، وقد جاءا تائِبَينِ [252] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/135). .
ثالثًا: قياسًا على الكَفَّارةِ؛ فإنَّها لا تَسقُطُ بالتَّوبةِ [253] ((الغرر البهية)) للأنصاري (5/103)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (9/135). .

انظر أيضا: