تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
اختَلف الفُقَهاءُ في الرُّجوعِ عنِ الإقرارِ بالزِّنا هَل يَمنَعُ إقامةَ الحَدِّ، على قَولينِ: القَولُ الأوَّلُ: من أقر على نفسه بالزنا ثم رجع عن إقراره قبل إقامة الحد فإنه لا يقام عليه الحد فإن رجع عن إقراره أثناء إقامة الحد يخلى سبيله ويترك، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ [146] ((المبسوط)) للسرخسي (9/94)، ((الدر المختار)) للحصكفي (4/ 10). ، والمالِكيَّةِ [147] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/319)، ((منح الجليل)) لعليش (9/256). ، والشَّافِعيَّةِ [148] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 97، 98)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (7/430). والحَنابِلةِ [149] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/163)، ((دقائق أولي النهى)) للبهوتي (3/340). ، وقال به بَعضُ السَّلَفِ [150] قال ابنُ قُدامةَ: (فإن رَجَعَ عن إقرارِه أو هَرَبَ، كُفَّ عنه. وبهذا قال عَطاءٌ، ويَحيى بنُ يَعمرَ، والزُّهريُّ، وحَمَّادٌ، ومالِكٌ، والثَّوريُّ، والشَّافِعيُّ، وإسحاقُ، وأبو حَنيفةَ، وأبو يوسُفَ). ((المغني)) (9/ 68). . الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((لمَّا أتى ماعِزُ بنُ مالِكٍ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: لعَلَّك قَبَّلتَ أو غَمَزتَ أو نَظَرتَ! قال: لا يا رَسولَ اللهِ. قال: أنِكْتَها؟ لا يَكنِي. قال: فعِندَ ذلك أمَرَ برَجمِهـ)) [151] أخرجه البخاري (6824). . وَجهُ الدَّلالةِ: تَعريضُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لماعِزٍ بالرُّجوعِ بقَولِه: ((لعَلَّك قَبَّلتَ أو غَمَزتَ أو نَظَرتَ)) ولولا أنَّه يُفيدُ الرُّجوعَ لما عَرَّضَ له [152] يُنظر: ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (9/113)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (5/452). . ثانيًا: لأنَّ الرُّجوعَ بَعدَ الإقرارِ إنَّما لا يَصِحُّ في حُقوقِ العِبادِ؛ لوُجودِ خَصمٍ يُصَدِّقُه في الإقرارِ، ويُكَذِّبُه في الرُّجوعِ، وذلك غَيرُ مَوجودٍ فيما هو خالصُ حَقِّ اللهِ تعالى، فيَتَعارَضُ كَلاماه: الإقرارُ والرُّجوعُ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهما مُتَمَثِّلٌ بَينَ الصِّدقِ والكَذِبِ، والشُّبهةُ تَثبُتُ بالمُعارَضةِ [153] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (9/79)، ((المغني)) لابن قدامة (9/ 68). . ثالثًا: لأنَّ رُجوعَه شُبهةٌ، والحُدودُ تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ [154] يُنظر: ((دقائق أولي النهى)) للبهوتي (3/340). . رابعًا: لأنَّ الإقرارَ إحدى بَيِّنَتي الحَدِّ، فيَسقُطُ بالرُّجوعِ عنه، كالبَيِّنةِ إذا رَجَعَت قَبلَ إقامةِ الحَدِّ [155] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 68). . القَولُ الثَّاني: لا يُقبَلُ رُجوعُ المُقِرِّ عن إقرارِه بالزِّنا، ولا يَمنَعُ إقامةَ الحَدِّ، وهو قَولٌ للمالِكيَّةِ [156] يَرى أصحابُ هذا القَولِ مِنَ المالِكيَّةِ: أنَّه إن رَجَعَ إلى ما يُعذَرُ به قُبِل، وفي إكذابِ نَفسِه قَولانِ، واتَّفَقوا أنَّه إن هَرَبَ سَقَطَ الحَدُّ. ((منح الجليل)) لعليش (9/256). ، واختيارُ ابنِ حَزمٍ [157] قال ابنُ حَزمٍ: (مَن أقَرَّ لآخَرَ، أو للهِ تعالى بحَقٍّ في مالٍ، أو دَمٍ، أو بَشَرةٍ، وكان المُقِرُّ عاقِلًا بالغًا غَيرَ مُكرَهٍ، وأقَرَّ إقرارًا تامًّا، ولم يَصِلْه بما يُفسِدُه؛ فقد لزِمَه، ولا رُجوعَ له بَعدَ ذلك، فإن رَجَعَ لم يَنتَفِعْ برُجوعِه، وقد لزِمَه ما أقَرَّ به على نَفسِه مِن دَمٍ أو حَدٍّ أو مالٍ. فإن وَصَل الإقرارَ بما يُفسِدُه بَطَل كُلُّه، ولم يَلزَمْه شَيءٌ، لا مِن مالٍ، ولا قَوَدٍ، ولا حَدٍّ، مِثلُ أن يَقولَ: لفُلانٍ عليَّ مِائةُ دينارٍ، أو يَقولَ: قَذَفتُ فُلانًا بالزِّنا، أو يَقولَ: زَنَيتُ، أو يَقولَ: قَتَلتُ فُلانًا، أو نَحوَ ذلك؛ فقد لزِمَه، فإن رَجَعَ عن ذلك لم يُلتَفَتْ... وإنَّما هذا كُلُّه إذا لم تَكُنْ بَيِّنةٌ، فإذا كانتِ البَيِّنةُ فلا مَعنى للإنكارِ ولا للإقرارِ). ((المحلى بالآثار)) (7/ 100). ، وقال به بَعضُ السَّلفِ [158] قال ابنُ قُدامةَ: (قال الحَسَنُ، وسَعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وابنُ أبي ليلى: يُقامُ عليه الحَدُّ، ولا يُترَكُ؛ لأنَّ ماعِزًا هَرَبَ فقَتَلوه، ولم يَترُكوه... ولو قُبِلَ رُجوعُه للَزِمَتهم ديَتُهـ). ((المغني)) (9/ 68). ، واختارَه ابنُ المُنذِرِ [159] قال ابنُ المُنذِرِ: (لا يُقبَلُ رُجوعُه، ولا نَعلمُ في شَيءٍ مِنَ الأخبارِ أنَّ ماعزًا رَجَعَ، وإذا وجَبَ الحَدُّ بالاعتِرافِ، ثُمَّ رَجَعَ، واختَلفوا في سُقوطِه عنه، لم يَجُزْ أن يَسقُطَ ما قد وجَبَ بغَيرِ حُجَّةٍ). ((الإشراف على مذاهب العلماء)) (7/ 265). ، وابنُ تيميَّةَ [160] قال ابنُ تيميَّةَ: (وقد قيل في ماعِزٍ: إنَّه رَجَعَ عنِ الإقرارِ، وهذا هو أحَدُ القَولينِ فيه في مَذهَبِ أحمَدَ وغَيرِه، وهو ضَعيفٌ، والأوَّلُ أجوَدُ. وهؤلاء يَقولونَ: سَقَطَ الحَدُّ لكَونِه رَجع عنِ الإقرارِ، ويَقولونَ: رُجوعُه عنِ الإقرارِ مَقبولٌ. وهو ضَعيفٌ، بَل فَرقٌ بَينَ مَن أقَرَّ تائِبًا، ومَن أقَرَّ غَيرَ تائِبٍ؛ فإسقاطُ العُقوبةِ بالتَّوبةِ -كما دَلَّت عليه النُّصوصُ- أَولى مِن إسقاطِها بالرُّجوعِ عنِ الإقرارِ، والإقرارُ شَهادةٌ مِنه على نَفسِه، ولو قُبِل الرُّجوعُ لما قامَ حَدٌّ بإقرارٍ، فإذا لم تُقبَلِ التَّوبةُ بَعدَ الإقرارِ مَعَ أنَّه قد يَكونُ صادِقًا، فالرُّجوعُ -الذي هو فيه كاذِبٌ- أَولى. اهـ). ((مجموع الفتاوى)) (16/ 31). ، وابنُ عُثَيمين [161] قال ابنُ عُثَيمين: (... فقالوا: إنَّ هذا يُقاسُ عليه، أي: أنَّ رُجوعَ المُقِرِّ عن إقرارِه يَرفعُ عنه الحَدَّ، كَرُجوعِ الشُّهودِ عن شَهادَتِهم. وهذا هو مَذهَبُ الإمامِ أحمَدَ، وأبي حَنيفةَ، والشَّافِعيّ، ومالِكٍ في بَعضِ الأحوالِ. وقالتِ الظَّاهريَّةُ: لا يُقبَلُ رُجوعُه عنِ الإقرارِ، ويَجِبُ إقامةُ الحَدِّ عليه... ولهذا لو جاءَنا رَجُلٌ يُقِرُّ بأنَّه زنى ويَطلُبُ إقامةَ الحَدِّ، ولمَّا هَيَّأنا الآلةَ لنُقيمَ عليه الحَدَّ، وأتَينا بالحَصى لأجلِ أن نَرجُمَه، ونَظَرَ إلى الحَصى، فقال: دَعوني أتوبُ إلى اللهِ، ماذا نَقولُ له؟ يَجِبُ أن نَدَعَه يَتوبُ إلى اللهِ؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «هَلَّا تَرَكتُموه يَتوبُ، فيَتوبَ اللَّهُ عليه»، وحينَئِذٍ نَدَعُه يَتوبُ، فيَتوبُ اللَّهُ عليه. أمَّا لو قال: ما زَنَيتُ، فلا يُقبَلُ؛ لأنَّ هذا الرَّجُلَ يُريدُ أن يَدفَعَ عن نَفسِه وصفًا ثَبَتَ عليه بإقرارِه، ولو أنَّنا قُلنا بقَبولِ رُجوعِ الجاني عن إقرارِه لما أُقيمَ حَدٌّ في الدُّنيا؛ لأنَّ كُلَّ مَن يَعرِفُ أنَّه سيُحَدُّ رُبَّما يَرجِعُ، إلَّا أن يَشاءَ اللهُ، كَما أشارَ إلى ذلك شَيخُ الإسلامِ رَحِمَه اللهُ في الفتاوى، فكُلُّ إنسانٍ يَخشى مِنَ العُقوبةِ، وكان في الأوَّلِ عِندَه عَزمٌ أن يُطَهِّرَ نَفسَه بالعُقوبةِ، ولكِن تَأخَّر، فسيَقولُ: ما حَصَل مِنه هذا الشَّيءُ، فهناكَ فرقٌ بَينَ الرُّجوعِ عنِ الإقرارِ، والرُّجوعِ عن طَلَبِ إقامةِ الحَدِّ، وهو ظاهِرٌ جِدًّا... ونَحنُ نَتَّهمُ رَأيَنا في مُقابِلِ قَولِهم، يَعني أصحابَ القَولِ الأوَّلِ، أمَّا مِن حَيثُ النَّظَرُ بالأدِلَّةِ فلا شَكَّ أنَّ الرَّاجِحَ هو قَولُ الظَّاهريَّةِ). ((الشرح الممتع)) (14/ 267). . الأدِلَّة:ِ أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَجُلًا مِن أسلَمَ يُقالُ له: ماعِزُ بنُ مالِكٍ، أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي أصَبتُ فاحِشةً، فأقِمْه عليَّ، فرَدَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِرارًا، قال: ثُمَّ سَألَ قَومَه، فقالوا: ما نَعلَمُ به بَأسًا، إلَّا أنَّه أصابَ شَيئًا يَرى أنَّه لا يُخرِجُه منه إلَّا أن يُقامَ فيه الحَدُّ، قال: فرَجَعَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَرَنا أن نَرجُمَه، قال: فانطَلَقنا به إلى بَقيعِ الغَرقَدِ، قال: فما أوثَقناه ولا حَفَرنا له، قال: فرَمَيناه بالعَظمِ والمَدَرِ والخَزَفِ، قال: فاشتَدَّ واشتَدَدنا خَلفَه حتَّى أتى عُرضَ الحَرَّةِ، فانتَصَبَ لنا فرَمَيناه بجَلاميدِ الحَرَّةِ -يَعني الحِجارةَ- حتَّى سَكَتَ)) [162] أخرجه مسلم (1694). . وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ ماعِزًا هَرَبَ فقَتَلوه، ولم يَترُكوه، ولو قُبِل رُجوعُه للزِمَتهم ديَتُه [163] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 68). . ثانيًا: لأنَّه حَقٌّ وَجَب بإقرارِه، فلم يُقبَلْ رُجوعُه، كَسائِرِ الحُقوقِ [164] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (9/ 68). . ثالثًا: لأنَّه لم يَثبُتْ في شَيءٍ مِنَ الأخبارِ أنَّ ماعِزًا رَجَعَ [165] يُنظر: ((الإشراف على مذاهب العلماء)) لابن المنذر (7/ 265). . رابعًا: لأنَّه إذا وجَبَ الحَدُّ بالاعتِرافِ لم يَجُزْ أن يَسقُطَ ما قد وجَبَ بغَيرِ حُجَّةٍ [166] يُنظر: ((الإشراف على مذاهب العلماء)) لابن المنذر (7/ 265). .