الموسوعة الفقهية

المطلب التاسع: هل يمنع إقامة الحد على المَرأةِ إذا حَمَلت وليسَ لها زَوجٌ ولا سَيِّدٌ؟


اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ إقامةِ الحَدِّ على المَرأةِ إذا حَمَلت وليسَ لها زَوجٌ ولا سَيِّدٌ [216] معَ عَدَمِ وُجودِ البيِّنَةِ. ، على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَثبُتُ الحَدُّ على المَرأةِ إذا حَمَلت وليسَ لها زَوجٌ ولا سَيِّدٌ، إذا ادَّعَتِ الشُّبهةَ، أو ادعت الإكراه، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ [217] عِندَ الحَنَفيَّةِ: الزِّنا لا يَثبُتُ إلَّا ببَيِّنةٍ أو إقرارٍ. ((مختصر القدوري)) (ص: 195)، ((الهداية)) للمرغيناني (2/94)، ((الدر المختار للحصفكي وحاشية ابن عابدين)) (4/ 7 - 9). ، والشَّافِعيَّةِ [218] ((روضة الطالبين)) للنووي (10/ 91)، ((حاشية البجيرمي على شرح الخطيب)) (4/ 175). ، والحَنابِلةِ [219] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 199)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (6/ 193). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عنِ النَّزَّالِ بنِ سَبُرةَ، قال: (إنَّا لبمَكَّةَ إذ نَحنُ بامرَأةٍ اجتَمَعَ عليها النَّاسُ حتَّى كادَ أن يَقتُلوها وهم يَقولونَ: زَنَت زَنَت! فأُتيَ بها عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه وهى حُبلى، وجاءَ مَعَها قَومُها فأثنَوا عليها خَيرًا، فقال عُمَرُ: أخبريني عن أمرِك. قالت: يا أميرَ المُؤمِنينَ، كُنتُ امرَأةً أُصيبُ مِن هذا اللَّيلِ، فصَلَّيتُ ذاتَ ليلةٍ ثُمَّ نِمتُ فقُمتُ ورَجُلٌ بَينَ رِجلَيَّ، فقَذَف فيَّ مِثلَ الشِّهابِ، ثُمَّ ذَهَبَ. فقال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: لو قَتَل هذه مَن بَينَ الجَبَلينِ -أو قال: الأخشَبَينِ. شَكَّ أبو خالِدٍ- لعَذَّبَهمُ اللَّهُ، فخَلَّى سَبيلَها، وكَتَب إلى الآفاقِ: أن لا تَقتُلوا أحَدًا إلَّا بإذني) [220] أخرجه سعيد بن منصور كما في ((المغني)) لابن قدامة (9/79). صحَّحه الألباني في ((إرواء الغليل)) (2362). وأخرجه البيهقي (17504). صحَّح إسنادَه على شرط البخاري: الألباني في ((إرواء الغليل)) (8/30). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
فيه دَليلٌ لعَدَمِ إقامةِ الحَدِّ لوُجودِ الشُّبهةِ [221] يُنظر: ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (6/ 193). .
ثانيًا: لأنَّ الحَدَّ يُدرَأُ بالشُّبهةِ [222] يُنظر: ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (6/ 193). .
ثالثًا: لأنَّها قد تَكونُ مُستَكرَهةً على الوَطءِ، أو مَوطوءةً بشُبهةٍ، أو حَمَلت بغَيرِ وَطءٍ [223] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/ 94).  .
القَولُ الثَّاني: يَثبُتُ الحَدُّ على المَرأةِ إذا حَمَلت وليسَ لها زَوجٌ ولا سَيِّدٌ وإن ادَّعت شبهة أو إكراه، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ [224] يَرى المالِكيَّةُ أنَّه لا يُقبَلُ قَولها إذا قالت: إنِّي غُصِبتُ أو وُطِئتُ بشُبهةٍ، إلَّا أن يَظهَرَ أثَرُ ذلك بمَجيئِها مُستَغيثةً أو شِبهَ ذلك مِمَّا يَظهَرُ مَعَه صِدقُها. ((التاج والإكليل)) للمواق (8/ 394)، ((الشرح الكبير)) للدردير (4/ 319). ، ورِوايةٌ للحَنابِلةِ [225] ((الإنصاف)) للمرداوي (10/ 199). ، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّةَ [226] قال ابنُ تيميَّةَ: (... القَولُ الأوَّلُ هو الثَّابتُ عنِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ، وقد ثَبَتَ في الصَّحيحَينِ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ خَطَبَ النَّاسَ في آخِرِ عُمُرِه، وقال: الرَّجمُ في كِتابِ اللهِ حَقٌّ على مَن زَنى مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ إذا قامَتِ البَيِّنةُ، أو كان الحَبَلُ أوِ الاعتِرافُ، فجَعَل الحَبلَ دَليلًا على ثُبوتِ الزِّنا، كالشُّهودِ). ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 94) ، وابنِ عُثَيمين [227] قال ابنُ عُثَيمين: (القَولُ الثَّاني: أنَّه يَجِبُ عليها الحَدُّ ما لم تَدَّعِ شُبهةً، مِثلُ أن تَدَّعيَ أنَّها اغتُصِبَت، أو تَدَّعيَ أنَّها وجَدَت شَيئًا فأدخَلَته في فرجِها، فكان مَنيَّ رَجُلٍ فحَمَلَت به، أو ما أشبَهَ ذلك مِنَ الأُمورِ التي تُعذَرُ فيها، فإذا ادَّعَت شُبهةً مُمكِنةً فلا تُحَدُّ. القَولُ الثَّالثُ: يَجِبُ عليها الحَدُّ وإنِ ادَّعَت شُبهةً. وحُجَّةُ القَولِ الثَّاني، يَقولونَ: إنَّ أميرَ المُؤمِنينَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه خَطَبَ النَّاسَ على مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال فيما قال: «إنَّ الرَّجمَ حَقٌّ ثابتٌ على مَن زَنى إذا أحصَنَ، إذا قامَتِ البَيِّنةُ، أو كان الحَبَلُ أوِ الاعتِرافُ»، فذَكَر لثُبوتِه ثَلاثةَ أشياءَ: الأوَّلُ: أن تَقومَ البَيِّنةُ؛ أربَعةُ رِجالٍ بالشُّروطِ المَعروفةِ. الثَّاني: الحَبَلُ. الثَّالثُ: الاعتِرافُ. وهذا قاله أميرُ المُؤمِنينَ عُمَرُ على مِنبَرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبمَحضَرٍ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ولم يُذكَرْ أنَّ أحَدًا نازَعَه في ذلك أو خالفَه، ومِثلُ هذا يَكونُ مِن أقوى الأدِلَّةِ؛ إن لم يُدَّعَ فيه الإجماعُ فهو كالإجماعِ، وهذا اختيارُ شَيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ رَحِمَه اللهُ، وهو الحَقُّ بلا رَيبٍ). ((الشرح الممتع)) (14/ 275). وقال: (اختَلف العُلماءُ -رَحِمَهمُ اللهُ- في الحَملِ: هَل هو طَريقٌ لثُبوتِ الزِّنا أو لا؟ والصَّحيحُ أنَّه طَريقٌ لذلك؛ لأنَّ عُمرَ خَطَب به على المِنبَرِ، ولم يُذكَرْ أنَّ أحدًا نازَعَه في ذلك أو عارَضَهـ). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (5/ 348). .
الأدِلَّة:ِ
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وهو جالسٌ على مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّ اللَّهَ قد بَعَثَ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحَقِّ، وأنزَل عليه الكِتابَ، فكان مِمَّا أنزَل عليه آيةُ الرَّجمِ، قَرَأناها ووعَيناها وعَقَلناها. فرَجَمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَجَمنا بَعدَه، فأخشى إن طال بالنَّاسِ زَمانٌ أن يَقولَ قائِلٌ: ما نَجِدُ الرَّجمَ في كِتابِ اللهِ، فيَضِلُّوا بتَركِ فريضةٍ أنزَلها اللهُ، وإنَّ الرَّجمَ في كِتابِ اللهِ حَقٌّ على مَن زَنى إذا أحصَنَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، إذا قامَتِ البَيِّنةُ، أو كان الحَبَلُ أوِ الاعتِرافُ) [228] أخرجه البخاري (6830)، ومسلم (1691) واللفظ له. .  
وَجهُ الدَّلالةِ:
في قَولِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه: (إذ كان حَملٌ) دَليلٌ على وُجوبِ الحَدِّ بالحَملِ إذا لم يَكُنْ لها زَوجٌ أو سَيِّدٌ [229] يُنظر: ((حاشية السندي على سنن ابن ماجهـ)) (2/ 115).  .
2- عن بَعْجةَ بنِ عَبدِ اللَّهِ الجُهَنيِّ، قال: (تزَوَّج رَجُلٌ مِنَّا امرَأةً مِن جُهَينةَ، فوَلَدَت له لتَمامِ سِتَّةِ أشهُرٍ، فانطَلقَ زَوجُها إلى عُثمانَ، فذَكَر ذلك له، فبَعَثَ إليها، فلمَّا قامَت لتَلبَسَ ثيابَها بَكَت أُختُها، فقالت: ما يُبكيكِ؟ فواللهِ ما التَبَسَ بي أحَدٌ مِن خَلقِ اللهِ غَيرُه قَطُّ، فيَقضي اللهُ فيَّ ما يَشاءُ! فلمَّا أُتِيَ بها عُثمانُ أمَرَ برَجمِها، فبَلغَ ذلك عَليًّا، فأتاه، فقال له: ما تَصنَعُ؟ قال: وَلَدَت تَمامًا لسِتَّةِ أشهُرٍ، وهَل يَكونُ ذلك؟! فقال له: أما تَقرَأُ القُرآنَ؟ قال: بَلى، قال: أما سَمِعتَ اللَّهَ يَقولُ: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وقال: حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، فلم تَجِدْه بَقيَ إلَّا سِتَّةُ أشهُرٍ! قال: فقال عُثمانُ: واللهِ ما فَطِنتُ لهذا، عليَّ بالمَرأةِ، فوجَدوها قد فُرِغَ مِنها! قال: فقال بَعْجةُ: فواللهِ ما الغُرابُ بالغُرابِ، ولا البَيضةُ بالبَيضةِ بأشبَهَ مِنه بأبيه! فلمَّا رَآه أبوه قال: ابني واللَّهِ، لا أشُكُّ فيه! قال: وأبلاه اللَّهُ بهذه القُرحةِ الأَكِلةِ، فما زالت تَأكُلُه حتَّى ماتَ) [230] أخرجه عبد الرزاق (13446)، وابن شبة في ((تاريخ المدينة)) (3/977) واللفظ له. صحَّح إسنادَه ابنُ كثير في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/214)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/132)، وابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (4/1263). .
3- عن عَليٍّ رضي الله عنه قال: (إذا بَلغَ في الحُدودِ لعَلَّ وعَسى، فالحَدُّ مُعَطَّلٌ) [231] أخرجه عبد الرزاق (13727). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ عُثمانَ جَعَل الحَبَلَ دَليلًا على ثُبوتِ الزِّنا، كالشُّهودِ [232] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/ 94).  .
ثانيًا: لأنَّ وُجودَ الحَملِ أمارةٌ ظاهِرةٌ على الزِّنا أظهَرُ مِن دَلالةِ البَيِّنةِ، وما يَتَطَرَّقُ إلى دَلالةِ الحَملِ يَتَطَرَّقُ مِثلُه إلى دَلالةِ البَيِّنةِ وأكثَرُ [233] يُنظر: ((عون المعبود وحاشية ابن القيم)) (6/ 120).  .
ثالثًا: إعلانُ عُمَرَ دَليلٌ، ويَكونُ إجماعًا سكوتيًّا؛ فإنَّ عُمَرَ أعلَم بوُجوبِ الحَدِّ بالحَملِ  [234] يُنظر: ((حاشية السندي على سنن ابن ماجهـ)) (2/ 115).  .

انظر أيضا: