موسوعة اللغة العربية

المَطْلَبُ السَّادِسُ: تخفيفُ النُّون في (إنَّ، أنَّ، كأنَّ، لكِنَّ)


قد تُخفَّف النُّونُ المشدَّدةُ في (إنَّ) وأخواتها، ويترتَّبُ على ذلك بعضُ الأحكامِ، ويُشترَطُ للتخفيفِ عِدَّةُ شُروطٍ، وبيانُ ذلك على النَّحوِ الآتي:
أولًا: (إنَّ) بكَسرِ الهمزةِ:
قد تُخفَّفُ نونُ (إنَّ)، وحينئذٍ يجوزُ إهمالها وإعمالها، تَقولُ: إنْ جريرًا لشاعرٌ أُمَوِيٌّ؛ إنْ: حرفٌ ناسخٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ، جريرًا: اسمُ (إنْ) منصوبٌ، وعَلامةُ نَصبِه الفتحةُ، لشاعِرٌ: اللَّامُ المزحلَقةُ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، شاعِرٌ: خَبَرُ (إنْ)، مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الضَّمَّةُ الظَّاهِرةُ، أُمَويٌّ: نعتٌ مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الضَّمَّةُ الظَّاهِرةُ.
وفي الإهمالِ تَقولُ: إنْ جريرٌ لشاعرٌ أُمَويٌّ؛ إنْ: حرفُ توكيدٍ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ، جريرٌ: مُبتَدَأٌ مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الضَّمَّةُ الظَّاهِرةُ، لشاعِرٌ: اللامُ المُزحَلقةُ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، شاعِرٌ: خَبَرٌ مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الضَّمَّةُ الظَّاهِرةُ.
ومن الإعمالِ قَولُه تعالى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ [هود: 111] ؛ حيث قرأها نافِعٌ وابنُ كثيرٍ وشُعبةُ بتَخفيفِ النُّون (إنْ) ونَصْبِ (كُلًّا) يُنظَر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 350)، ((القراءات وأثرها في علوم العربية)) لمحمد سالم محيسن (2/ 155). .
لكنَّ إهمالَها أكثَرُ، ومنه قَولُه تعالى: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 32] ، وقَولُه تعالى: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 35] ، وقَولُه تعالى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [الطارق: 4] .
ويُشْترَطُ في تخفيفِ نُونِ (إنَّ) شُروطٌ:
1- أن يكونَ اسمُها اسمًا ظاهرًا، ولا يجوزُ أن يكونَ ضَميرًا؛ تَقولُ: إنْ بَغْداد لَمدينةٌ عِراقيَّةٌ، برَفعِ ونَصبِ (بَغْداد).
2- أن يكونَ الخَبَرُ مقتَرِنًا بلامِ الابتداءِ وسمَّاها بعضُهم اللَّامَ الفارِقةَ؛ لأنَّها فرَّقَت بَينَ (إنْ) المُخفَّفةِ، و(إنْ) النَّافيةِ؛ فلا تجيءُ إلَّا معَ (إنْ) المُخفَّفةِ. ، للتأكيدِ على أنَّ (إنْ) هنا هي النَّاسِخةُ المُخَفَّفةُ لا النَّافيةُ، إلَّا أن تأتي قرينةٌ تؤكِّدُ أنها النَّاسِخةُ، فيجوزُ تجَرُّدُ الخَبَرِ من القرينةِ، كأن يأتيَ الخَبَر منفيًّا مثلًا؛ تَقولُ: إنِ المجامَلةُ لن تضُرَّ صاحِبَها؛ فلو كانت (إنْ) نافيةً والخَبَرُ منفيًّا لكان نفيًا للنَّفيِ، ونَفيُ النَّفيِ إثباتٌ، فكان إثباتُ الجُملةِ بدونهما أَولى وأليقُ.
ومنه قَولُ الشَّاعِرِ:
أنا ابنُ أُباةِ الضَّيمِ من آلِ مالِكٍ
وإنْ مالِكٌ كانت كِرامَ المعادِنِ
فلو كانت (إنْ) هنا نافيةً، لكان صَدرُ البَيتِ في مَدحِ آلِ مالِكٍ والفَخرِ بالانتسابِ إليهم، وعَجُزُ البيتِ في ذمِّهم؛ فاستُغنيَ بذلك عن اللَّامِ.
3- أن يكونَ الخَبَرُ صالحًا لدُخولِ لامِ الابتداءِ عليه، وقد سبق بيانُ ذلك.
وإذا دخلت (إنْ) المخفَّفةُ على الجُملةِ الفِعْليَّةِ وجب إهمالُها، ولا يكونُ الفِعْلُ بَعْدَها إلَّا ناسِخًا (كان وأخواتُها، ظَنَّ وأخواتُها) هذا هو الغالِبُ، وقلَّ مجيءُ فِعلٍ غَيرِ ناسِخٍ بَعدَها. يُنظَرُ: ((شرح ابن عقيل)) (1/ 382). ؛ ومنه قَولُه تعالى: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [البقرة: 143] ، وقَولُه تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص: 10] ، قال أعرابيٌّ: رَحِمَ اللهُ أباك وإنْ كان ليَملَأُ العَينَ جَمالًا، وتَقولُ: إنْ وجَدْنا المنافِقَ لَأَبعدَ من إكبارِ النَّاسِ وتقديرِهم يُنظَر: ((شرح ألفية ابن مالك)) لابن الناظم (ص: 128)، ((توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك)) للمرادي (1/ 536). .
ثانيًا: تخفيفُ نونِ (أنَّ) بفَتحِ الهَمزةِ:
إذا خُفِّفت نونُ (أنَّ) تبقى على إعمالِها ولا تُلغى، ويُشترَطُ في ذلك شروطٌ ثلاثةٌ:
1- أن يُنوى اسمُها ولا يُذكَرُ، ويكونُ ضميرًا محذوفًا، ويَغلِبُ أن يكونَ ضَميرَ الشَّأنِ، كقَولِك: أيقنتُ أنْ عليٌّ شُجاعٌ.
أيقنتُ: أيقن: فِعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِه بتاءِ الفاعِلِ، والتاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ مَبْنيٌّ على الضَّمِّ في مَحَلِّ رَفعٍ فاعِلٌ، أنْ: حرفٌ ناسخٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ، واسمُها ضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ، عليٌّ: مُبتَدَأٌ مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الضَّمَّةُ، شُجاعٌ: خَبَرٌ مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الضَّمَّةُ، والجملةُ الاسميَّةِ (عليٌّ شُجاعٌ) في مَحَلِّ رَفعٍ خَبَر (أنْ) المخَفَّفة.
2- أن يكونَ خَبَرُها جُملةً، سواءٌ كانت اسميَّةً أو فِعليَّةً؛ تَقولُ: علِمْتُ أنْ حاتمٌ أكرَمُ العَرَبِ، وأيقَنْتُ أنْ قدْ تشبَّه به كثيرونَ.
3- إذا كان الخَبَرُ جُملةً فِعليَّة، وفِعلُها متصَرِّفٌ، ولا يُقصَدُ به الدُّعاءُ، فيُفصَلُ بينها وبين الفِعْل بفاصِلٍ، مِثلُ (قدْ)، أو السِّين، أو (لو)، أو أدواتِ النَّفيِ. مثالُ الفَصلِ بـ(قدْ) قَولُ الشَّاعِرِ:
شَهِدْتُ بأنْ قدْ خُطَّ ما هو كائِنٌ
وأنَّكَ تَمْحُو ما تَشَاءُ وتُثْبِتُ
وتَقولُ: ثَبَت أنْ قدِ ازدهَرَت الصِّناعةُ في بلادِنا.
ومن الفَصلِ بالسِّينِ قَولُه تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى [المزمل: 20] . وتَقولُ: تَعلُم أنْ سيكونُ النَّصرُ للحَقِّ.
ومن الفَصلِ بـ(لو) قَولُه تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [الجن: 16] ، هكذا كُتِبَت في القُرآنِ بالإدغامِ، وفي غيرِ القُرآنِ تُكتَبُ: وأنْ لَوْ.
ومن الفَصلِ بالنَّفي:ِ أيقَنْتُ أنْ لن يَغدِرَ الشَّريفُ، وأنْ لا يخونُ المخلِصُ. ومنه قَولُه تعالى: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [البلد: 5] ، وقَولُه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد: 7] .
فإن كان الخَبَرُ جُملةً اسميَّةً لم يُفصَلْ بينها وبينه بفاصلٍ، كقَولِك: أيقنتُ أنْ عليٌّ شُجاعٌ.
وكذا في الجُملةِ الفِعْليَّةِ المبدوءةِ بفِعلٍ جامدٍ، كقَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39] ، وتَقولُ: وَثِقْتُ أنْ ليس للكَرامةِ مَكانٌ عند الأدنياءِ.
وكذلك في الجُملةِ الفِعْليَّةِ المبدوءةِ بفِعلٍ مُتصَرِّفٍ، لكِنْ قُصِدَ بها الدُّعاءُ، كقَولِ أعرابيٍّ يَصِفُ دعاءَ أخيه: أسألُ رَبِّي التوفيقَ لِما يُرضِيه، ودوامَ العافيةِ عليَّ -ونظَرَ إليَّ وصاح-: وأنْ كَتَب اللهُ لك الأمْنَ والسَّلامةَ ما حَيِيتَ، وأنْ أسبْغَ عليك نِعَمَه ظاهِرةً وباطنةً في قابِلِ أيَّامِك، وأنْ أهْلَك كُلَّ باغٍ يَتَصَدَّى لإيذائِكَ.
ويتحتَّمُ عَدُّ (أنْ) مخفَّفةً من الثقيلةِ إذا وُجِدَت علامةٌ من تلك العَلاماتِ:
1- أن تقَعَ بعد ما يدُلُّ على اليقينِ، مِثلُ: أيقَنْتُ، عَلِمتُ، جَزَمتُ، اعترَفْتُ ... ومنه قَولُ الشَّاعِرِ:
أأنتَ أخي ما لم تكُنْ لي حاجةٌ
فإن عرَضَتْ أيقَنْتُ أنْ لا أخا لِيَا
وتَقولُ: أيقَنْتُ أنْ عَدَلٌ من اللهِ جَزاؤُه.
2- أن تدخُلَ على فِعلٍ جامدٍ أو على (رُبَّ) أو على حَرفِ تنفيسٍ، نَحوُ قَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39] .
3- أن يقَعَ بَعْدَها فِعلُ دُعاءٍ، مِثلُ: أطال اللهُ عُمْرَك، وأنْ هيَّأَ لك المستقبَلَ المُشرِقَ يُنظَر: ((شرح ألفية ابن مالك)) لابن الناظم (ص: 129)، ((توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك)) للمرادي (1/ 539). .
ثالثًا: تخفيفُ نونِ (كأنَّ)
يجوزُ تخفيفُ نون (كأنَّ)، ولا يختَلِفُ معناها، ويجِبُ إعمالُها، ولا يجوزُ إهمالُها، ويُشتَرَطُ لذلك شُروطٌ:
يَغلِبُ على اسمِها أن يكونَ ضَميَر الشَّأنِ مَحذوفًا؛ فتَقولُ: كأنْ عصفورٌ سَهمٌ في السُّرعةِ. كأنْ: حرفٌ ناسِخٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ لا مَحَلَّ له مِنَ الإعرابِ، واسمُه ضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ، عصفور: مُبتَدَأٌ مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الضَّمَّةُ الظَّاهِرةُ، سَهمٌ: خَبَرٌ مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الضَّمَّةُ الظَّاهِرةُ، وجملةُ (عُصفورٌ سهْمٌ)، في مَحَلِّ رَفعٍ خَبَرُ (كأنْ).
وقد يُذكَرُ اسمُها صريحًا، كقَولِ الشَّاعِرِ:
ويومًا تُوافِينا بوجْهٍ مُقَسَّمٍ
كأنْ ظَبيةً تعطو إلى وارِقِ السَّلَمِ
حيث رُوِيَ البَيتُ بالنَّصبِ على اعتبارِ "ظَبْيَة" اسمَ كأنْ، ورُوِيَ بالرَّفعِ على أنَّ اسمَها ضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ.
إذا كان الاسمُ ضميرَ الشَّأنِ فيَجِبُ أن يكونَ خَبَرُها جملةً، فِعليَّةً كانت أو اسميَّةً، فإن كانت اسميَّةً لم نحتَجْ إلى الفَصلِ بين (كأنْ) والخَبَر، كقَولِك: رأيتُ المطرَ كأنْ حَجَرٌ واقِعٌ.
فاسمُ (كأنْ) هنا ضميرٌ محذوفٌ، وجملةُ (حجَرٌ واقِعٌ) مُبتَدَأٌ وخَبَرٌ في مَحَلِّ رَفعٍ خَبَرُ (كأنْ).
وإن كان الخَبَرُ جملةً فِعليَّةً فالأحسَنُ الفَصلُ قبل الماضي بـ(قد)، وقبل المضارعِ المنفيِّ بـ(لم)، تَقولُ: كأنْ قد هَوَى الغريقُ في البحرِ كصَخْرةٍ هَوَتْ في الماءِ، وكأنْ لم يكُنْ بين الغَرَقِ والنَّجاةِ وَسيلةٌ للإنقاذِ، ومنه قَولُه تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا [لقمان: 7] يُنظَر: ((شرح ألفية ابن مالك)) لابن الناظم (ص: 131)، ((شرح ألفية ابن مالك)) للأشموني (1/ 324). .
رابعًا: تخفيفُ نونِ (لَكِنَّ)
إذا خُفِّفت (لكِنَّ) وجب إهمالُها، وتدخُلُ حينئذٍ على الجُملةِ الاسميَّةِ والفِعْليةِ، ومِثالُ إهمالها قَولُه تعالى: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ [النساء: 162] ؛ فـ(الرَّاسِخون) هنا مُبتَدَأٌ مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الواوُ؛ لأنَّه جَمعُ مُذَكَّرٍ سالِمٌ. ومنه قَولُه تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] .
ومن أمثلةِ دُخولِها على الجُملةِ الفِعْليَّةِ قَولُه تعالى: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 12] ، وقَولُه تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] يُنظَر: ((أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك)) لابن هشام (1/ 366)، ((شرح ألفية ابن مالك)) للأشموني (1/ 327). .


انظر أيضا: