الموسوعة العقدية

الفَرْعُ الأوَّلُ: مفهومُ الإعراضِ والتَّولِّي

قال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (قَولُهم: تولَّى إذا عُدِّي بنَفْسِه اقتضى معنى الولايةِ وحُصولَه في أقرَبِ المواضِعِ منه، يقالُ: وَلَّيتُ سمعي، ووَلَّيتُ عيني كذا، ووَلَّيتُ وَجهي كذا: أقبَلْتُ به عليه؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة: 144] ... وإذا عُدِّي بـ(عن) لفظًا أو تقديرًا اقتضى معنى الإعراضِ وتَرْكَ قُرْبِه... فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران: 144] إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ [الغاشية: 23] ... والتَّولِّي قد يكونُ بالجِسمِ، وقد يكونُ بتَرْكِ الإصغاءِ والائتمارِ) [1743] يُنظر: ((المفردات)) (ص: 886). .
وقال أبو البقاءِ الكَفَوي: (الإعراضُ: أن تولِّيَ الشَّيءَ عُرْضَك، أي: جانِبَك ولا تُقبِلَ عليه، والتَّولِّي: الإعراضُ مُطلقًا، ولا يلزَمُه الإدبارُ... والإعراضُ: الانصرافُ عن الشَّيءِ بالقَلْبِ؛ قال بعضُهم: المعرِضُ والمتَوَلِّي يَشتَرِكان في السُّلوكِ إلَّا أنَّ المعرِضَ أسوَأُ حالًا... وغايةُ الذَّمِّ الجَمعُ بينهما) [1744] يُنظر: ((الكليات)) (ص: 28). .
وقد ورد ذِكرُ الإعراضِ في القُرآنِ الكريمِ في أكثَرَ مِن خَمسينَ مَوضِعًا [1745] يُنظر: ((المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم)) لمحمد فؤاد عبد الباقي (ص: 457). ؛ منها:
1- قَولُه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [السجدة: 22] .
قال القُرطبيُّ: (ثم أعرَضَ عنها بتَرْكِ القَبولِ) [1746] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/ 108). .
وقال ابنُ كثير: (أي: تناساها، وأعرض عنها، ولم يُصْغِ لها ولا ألقى إليها بالًا) [1747] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 172). .
وقال الشَّوكانيُّ: (أي: لا أحَدَ أظلَمُ لنَفْسِه ممَّن وُعِظ بآياتِ رَبِّه التنزيليَّةِ أو التكوينيَّةِ أو مجموعِهما، فتهاوَنَ بها، وأعرض عن قَبولِها، ولم يتدبَّرْها حَقَّ التدَبُّرِ، ويتفكَّرْ فيها حَقَّ التفَكُّرِ) [1748] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/ 350). .
وقال الشِّنقيطيُّ: (فأعرض عنها: أي: توَلَّى وصَدَّ عنها) [1749] يُنظر: ((أضواء البيان)) (3/ 309). .
2- قَولُه سُبحانَه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] .
قال أبو حَيَّانَ: (الغَفلةُ عن الشَّيءِ والإعراضُ عنه متنافيانِ، لكن يُجمَعُ بينهما باختلافِ حالينِ، أخبر عنهم أولًا: أنَّهم لا يتفَكَّرون في عاقبةٍ، بل هم غافِلون عمَّا يَؤول إليه أمرُهم، ثم أخبَرَ ثانيًا أنَّهم إذا نُبِّهوا من سِنَةِ الغَفلةِ وذُكِّروا بما يؤولُ إليه أمرُ المحسِنِ والمُسيءِ، أعرَضوا عنه، ولم يبالوا بذلك) [1750] يُنظر: ((البحر المحيط)) (7/ 407). .
3- قَولُه عَزَّ وجَلَّ: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا [طه: 100] .
قال البَغَوي: (من أعرَضَ عنه، أي: عن القُرآنِ فلم يؤمِنْ به ولم يعمَلْ بما فيه) [1751] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/274). .
4- قَولُه تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ [الأنبياء: 34] .
قال أبو حَيَّان: (الظَّاهِرُ أنَّ الإعراضَ مُتسَبِّبٌ عن انتفاءِ العِلمِ، لَمَّا فقدوا التمييزَ بين الحَقِّ والباطِلِ أعرضوا عن الحَقِّ، وقال ابنُ عطيَّة: ثم حَكَم عليهم تعالى بأنَّ أكثَرَهم لا يَعلَمونَ الحَقَّ؛ لإعراضِهم عنه، وليس المعنى: فهُم مُعرِضون؛ لأنَّهم لا يَعلَمونَ، بل المعنى: فهم مُعرِضون؛ ولذلك لا يَعلَمونَ الحَقَّ) [1752] يُنظر: ((البحر المحيط)) (7/ 422). .
5- قَولُه سُبحانَه: وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن: 17] .
قال القُرطبي: (يعني: القرآنَ، قاله ابنُ زَيدٍ، وفي إعراضِه عنه وجهانِ؛ أحَدُهما: عن القَبولِ، إن قيل: إنَّها في أهلِ الكُفرِ. الثَّاني: عن العَمَلِ، إن قيل: إنَّها في المؤمنينَ) [1753] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/19). .
6- قَولُه عَزَّ وجَلَّ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة: 83] .
قال ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ: أعرَضْتُم عن طاعتي، إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ: القليلُ الذين اختَرْتُهم لطاعتي، وسيحِلُّ عِقابي بمن توَلَّى وأعرض عنها) [1754] أخرجه ابن جرير في ((تفسيره)) (2/ 199). .
وقال ابنُ عَبَّاسٍ أيضًا: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أي: ترَكْتُم ذلك كُلَّه) [1755] أخرجه ابن جرير في ((تفسيره)) (2/ 200). .
7- قَولُه تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ [آل عمران: 23] .
قال ابنُ جريرٍ: (ثمَّ يستدبِرُ عن كِتابِ اللهِ الذي دعا إلى حُكمِه، مُعرِضًا عنه مُنصَرِفًا، وهو بحقيقتِه وحُجَّتِه عالمٌ) [1756] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/ 296). .
8- قَولُه سُبحانَه: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة: 64] .
قال ابنُ جريرٍ: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ثمَّ أعرَضْتُم، وإنَّما هو «تفعَّلْتُم» من قَولِهم: وَلَّاني فلانٌ دُبُرَه: إذا استدبَرَ عنه وخَلَّفَه خَلْفَ ظَهْرِه، ثمَّ يُستعمَلُ ذلك في كُلِّ تاركٍ طاعةً أَمَر بها عَزَّ وجَلَّ) [1757] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/ 54). .
9- قَولُه عَزَّ وجَلَّ: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة: 43] .
قال ابنُ جريرٍ: (يَتَوَلَّوْنَ يقولُ: يَتْرُكون الحُكمَ به، بعد العِلمِ بحُكمي فيه؛ جراءةً عليَّ وعِصيانًا لي) [1758] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/ 447). .
وقال أيضًا: (أصلُ التَّولِّي عن الشَّيءِ: الانصرافُ عنه) [1759] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/ 448). .
10- ورَدَ لفظُ التَّولِّي بمعنى التَّولِّي عن الطَّاعةِ في مواضِعَ مِنَ القُرآنِ؛ منها:
- قَولُه تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 32] .
قال البيضاويُّ: (إنَّما لم يقُلْ: لا يحِبُّهم؛ لقَصدِ العُمومِ، والدلالةِ على أنَّ التَّولِّي كُفرٌ، وإنَّه من هذه الحيثيَّةِ ينفي محبَّةَ اللهِ، وأنَّ محَبَّتَه مخصوصةٌ بالمؤمِنينَ) [1760] يُنظر: ((أنوار التنزيل)) (2/13). .
وقال أبو السُّعودِ: (إيثارُ الإظهارِ على الإضمارِ؛ لتعميمِ الحُكمِ لكُلِّ الكَفَرةِ، والإشعارِ بعِلَّتِه؛ فإنَّ سَخَطَه تعالى عليهم بسَبَبِ كُفرِهم، والإيذانِ بأنَّ التَّولِّي عن الطَّاعةِ كُفرٌ) [1761] يُنظر: ((إرشاد العقل السليم)) (2/25). .
- قال اللهُ سُبحانَه: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 16] .
 قال السَّمعانيُّ: (قَولُه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي: تُعرِضوا كما أعرَضْتُم من قَبْلُ) [1762] يُتظر: ((تفسير السمعاني)) (5/ 199). .
- قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 15-16] .
 قال ابنُ جريرٍ: (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 16] يقولُ: الذي كَذَّب بآياتِ رَبِّه، وأعرض عنها، ولم يُصَدِّقْ بها) [1763] يُتظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 477). .
- قال اللهُ تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31-32] .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (فالتكذيبُ للخَبَرِ، والتَّولِّي عن الأمرِ، وإنَّما الإيمانُ تصديقُ الرُّسُلِ فيما أخبروا، وطاعتُهم فيما أَمَروا) [1764] يُتظر: ((الإيمان)) (ص: 51). .
وقال أيضًا: (فعُلِمَ أنَّ التَّولِّي ليس هو التكذيبَ، بل هو التَّولِّي عن الطَّاعة، فإنَّ النَّاسَ عليهم أن يُصَدِّقوا الرَّسولَ فيما أخبر، ويطيعوه فيما أمَرَ، وضِدُّ التصديقِ التكذيبُ، وضِدُّ الطَّاعةِ التَّولِّي) [1765] يُتظر: ((الإيمان)) (ص: 117). .
وقال أيضًا: (والمتوَلِّي هو العاصي الممتَنِعُ من الطَّاعةِ) [1766] يُتظر: ((الإيمان الأوسط)) (ص: 559). .
وقال ابنُ باز: (قد وَصَف اللهُ الكُفَّارَ بالإعراضِ عمَّا خُلِقوا له وعمَّا أُنذِروا به؛ تنبيهًا لنا على أنَّ الواجِبَ على المُسلِمِ أن يُقبِلَ على دينِ اللهِ، وأن يتفَقَّهَ في دينِ اللهِ، وأن يسألَ عَمَّا أشكَلَ عليه، وأن يتبَصَّرَ؛ قال عَزَّ وجَلَّ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ، وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [الكهف: 57] ) [1767] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (9/130). .
وقال ابنُ عثيمين: (من توَلَّى وكَفَر بعد أن بلَغَه الوَحيُ النَّازِلُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّه سيُعَذَّبُ. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ [الغاشية: 23] التَّولِّي: أي: الإعراضُ، فلا يتَّجِهُ للحَقِّ، ولا يَقبَلُ الحَقَّ، ولا يَسمَعُ الحَقَّ، حتى لو سمِعَه بأُذُنِه لم يسمَعْه بقَلْبِه، كما قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [الأنفال: 20، 21] أي: لا ينقادُونَ. فهنا يقولُ عَزَّ وجَلَّ: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ [الغاشية: 23] تولى: أعرَضَ، كَفَر: أي: استكبَرَ، ولم يقبَلْ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ [الغاشية: 24] يومَ القيامةِ) [1768] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) (رقم اللقاء: 61). .
ويمكِنُ بعد هذا استخلاصَ معاني الإعراضِ كالآتي:
1- يأتي بمعنى: عَدَمِ الاستماعِ لأوامِرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وعَدَمِ المبالاةِ بها أو التفكُّرِ فيها، وهو الغالِبُ.
2- يأتي بمعنى: عَدَمِ القَبولِ لها، وهذا يأتي بعد الاستماعِ لها، والتذكيرِ بها.
3- يأتي بمعنى الامتناعِ والتَّولِّي عن الطَّاعةِ، وهذا يكونُ بعد الاستماعِ والقَبولِ.
4- يأتي بمعنى: تَرْكِ العَمَلِ.
5- يأتي بمعنى: الصُّدُودِ.
6- يأتي بمعنى: تَرْكِ حُكمِ الله، والانصرافِ عنه مع العِلْمِ بحقيقتِه.
وذلك يرجِعُ إلى ثلاثةِ أُمورٍ:
الأوَّلُ: يتعَلَّقُ بالعِلْمِ (قَول القَلْبِ)، من عدمِ الاستماعِ، وعَدَمِ المُبالاةِ.
الثَّاني: يتعَلَّقُ بالعَمَلِ (عَمَلِ القَلبِ والجوارحِ).
أ - عَمَلُ القَلبِ: عَدَمُ القَبولِ والاستسلامِ.
ب- عَمَلُ الجوارحِ: الامتناعُ وتَرْكُ العَمَلِ، والتَّولِّي عن الطَّاعةِ.
الثَّالثُ: الإعراضُ عن حُكمِ اللهِ والتحاكُمِ إليه.
فهذا هو مفهومُ الإعراضِ، وهذه هي أنواعُه وحالاتُه.

انظر أيضا: