الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الثَّاني: حُكمُ تَحضيرِ الأرواحِ

إنَّ شَأنَ الرُّوحِ مِنَ الأمورِ الغَيبيَّةِ الَّتي اختَصَّ اللهُ سُبْحانَه وتعالى بعِلمِها، فلا يَصِحُّ الخَوضُ فيها إلَّا بدَليلٍ شَرعيٍّ.
وقدِ اختَلَفَ العُلَماءُ في المُرادِ بالرُّوحِ في قَولِه تعالى في سورةِ الإسراءِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ، فقيلَ: المُرادُ: الرُّوحُ في الأبْدانِ، وعليهِ فالآيةُ دَليلٌ على أنَّ الرُّوحَ البَشَريَّةَ من أمرِ اللَّهِ، لا يَعلَمُ النَّاسُ عَنها شَيئًا إلَّا ما عَلَّمَهُمُ اللهُ تعالى.
وقد دَلَّ القُرآنُ الكَريمُ والسُّنَّةُ النَّبَويَّةُ على أنَّ الأرواحَ تَبقى بَعدَ مَوتِ الأبْدانِ.
قال اللهُ تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 42] [4535] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/310). .
وعَن أنسِ بنِ مالِكٍ عَن أبي طَلحةَ ((أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرَ يَومَ بَدٍرٍ بأربَعةٍ وعِشرينَ رَجُلًا من صَناديدِ قُرَيشٍ فقُذِفوا في طَوِيٍّ من أطواءِ بَدرٍ خَبيثٍ مُخبِثٍ، وكانَ إذا ظَهَرَ على قَومٍ أقامَ بالعَرَصةِ ثَلاثَ ليالٍ، فلمَّا كانَ ببَدرٍ اليَومَ الثَّالِثَ أمرَ براحِلَتِه فشُدَّ عليها رَحْلُها، ثُمَّ مَشى واتَّبَعه أصحابُه، وقالوا: ما نَرى يَنطَلِقُ إلَّا لبَعضِ حاجَتِهِ، حَتَّى قامَ على شَفَةِ الرَّكِيِّ [4536] قال علي القاري: (أي: حافَةِ البِئْرِ التي فيها صناديدُ قُرَيشٍ) ((مرقاة المفاتيح)) (6/ 2553). ، فجَعل يُناديهم بأسمائِهم وأسماءِ آبائِهم: يا فُلانُ بنَ فُلانٍ، ويا فُلانُ بنَ فُلانٍ، أيسرُّكم أنَّكُم أطَعتُمُ اللهَ ورَسولَه؟ فإنَّا قد وجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا، فهَل وجَدتُم ما وعَد رَبُّكم حَقًّا؟ قال: فقال عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما تُكلِّمُ من أجسادٍ لا أرواحَ لَها! فقال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: والَّذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ، ما أنتم بأسمَعَ لِما أقولُ مِنهم )). قال قَتادةُ: أحياهُمُ اللهُ حَتَّى أسمَعَهم قَولَه تَوبيخًا وتَصغيرًا ونَقيمةً وحَسرةً وندَمًا [4537] رواه البخاري (3976) واللَّفظُ له، ومسلم (2875). .
 قال ابنُ بطالٍ: (قال قَتادةُ: أحياهُمُ اللهُ حَتَّى أسمَعَهم، تَوبيخًا ونِقمةً وحَسرةً وندَمًا. وعلى تَأويلِ قَتادةَ فُقَهاءُ الأئِمَّةِ، وجَماعةُ أهلِ السُّنَّةِ) [4538] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (3/ 359). .
 وقال ابنُ الجوزيِّ: (إنْ قيلَ: كيفَ أخبَرَ بسَماعِهم، وقد قال عَزَّ وجَلَّ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النَّمل: 80] ؟ فالجَوابُ من وجهَينِ: أحَدُهُما: أنَّ اللهَ تعالى أحياهُم لَه، فسَمِعوا كلامَه إكرامًا لَه، وإذلالًا لَهم، هَذا قَولُ قَتادةَ. وعلى هَذا القَولِ رُدَّت أرواحُهم وقتَ خَطابِه، كما تُرَدُّ الرُّوحُ إلى المَيِّتِ عِندَ سُؤالِ مُنكَرٍ ونَكيرٍ؛ ولِذلك قال: ((إنَّهم ليَسمَعونَ قَرْعَ نَعالِكُم إذا ولَّيتُم مُدْبِرين)) [4539] لفظ الحديث: عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه حدَّثهم أن رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (إنَّ العبدَ إذا وُضِع في قبره، وتولى عنه أصحابُه، وإنه ليسمَعُ قَرْعَ نعالهم، أتاه مَلَكانِ فيُقعدانه فيقولان: ما كنتَ تقولُ في الرجُلِ؟ لمحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأما المؤمِنُ فيقولُ: أشهَدُ أنَّه عبدُ اللهِ ورسولُه. فيقال له: انظُرْ إلى مقعَدِك من النَّارِ، قد أبدلك اللهُ به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا..) أخرجه البخاري (1374) واللَّفظُ له، ومسلم (2870). ... والثَّاني: أنَّ اللهَ تعالى أوصَلَ صَداه إلى أرواحِهم، وإنَّما البَدَنُ آلةٌ، واللهُ قادِرٌ أن يُوصِلَ إلى الرُّوحِ بآلةٍ أُخرى، وبِغَيرِ آلةٍ) [4540] يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) (1/ 148). .
 وقال النَّوَويُّ: ( ((ما أنتم بأسمَعَ لما أقولُ مِنهم)) قال المازِريُّ: قال بَعضُ النَّاسِ: المَيِّتُ يَسمَعُ عَمَلًا بظاهِرِ هَذا الحَديثِ، ثُمَّ أنكره المازِريُّ، وادَّعى أنَّ هَذا خاصٌّ في هَؤُلاءِ، ورَدَّ عليهِ القاضي عياضٌ، وقال: يُحمَلُ سَماعُهم على ما يُحمَلُ عليهِ سَماعُ المَوتى في أحاديثِ عَذابِ القَبرِ وفِتْنَتِه الَّتي لا مَدْفَعَ لَها، وذلك بإحيائِهم أو إحياءِ جُزءٍ مِنهم يَعقِلونَ بهِ، ويَسمَعونَ في الوَقتِ الَّذي يُريدُ اللَّهُ، هَذا كلامُ القاضي، وهوَ الظَّاهِرُ المُختارُ الَّذي يَقتَضيهِ أحاديثُ السَّلامِ على القُبورِ، واللهُ أعلَمُ) [4541] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/ 206). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (قد دَلَّ على التِقاءِ أرواحِ الأحياءِ والأمواتِ أنَّ الحَيَّ يَرى المَيِّتَ في مَنامِه فيَستَخبِرُه ويُخبِرُه الميِّتُ بما لا يَعلَمُ الحَيُّ، فيُصادِفُ خَبرَه كما أخبَرَ!) [4542] يُنظر: ((الروح)) (ص: 39). .
وقال ابن باز: (أرواحُ الأمواتِ باقيةٌ إلى ما شاءَ اللهُ وتَسمَعُ، ولَكِنْ لَم يَثبُت أنَّها تَتَّصِلُ بالأحياءِ في غَيرِ المَنامِ.
كما أنَّه لا صِحَّةَ لما يَدَّعيهِ المُشَعْوذونَ من قُدرَتِهم على تَحضيرِ أرواحِ مَن يَشاؤونَ مِنَ الأمواتِ ويُكلِّمونَها ويَسألونَها، فهذه ادِّعاءاتٌ باطِلةٌ لَيسَ لَها ما يُؤَيِّدُها مِنَ النَّقلِ، ولا مِنَ العَقلِ، بَل إنَّ اللهَ سُبْحانَه وتعالى هوَ العالِمُ بهذه الأرواحِ، والمُتَصَرِّفُ فيها، وهوَ القادِرُ على رَدِّها إلى أجسامِها مَتى شاءَ ذلك، فهوَ المُتَصَرِّفُ وحدَه في مُلكِه وخَلقِه، لا يُنازِعُه مُنازِعٌ، أمَّا من يَدَّعي غَيرَ ذلك فهوَ يَدَّعي ما لَيسَ لَه بهِ عِلمٌ، ويَكذِبُ على النَّاسِ فيما يُروِّجُه من أخبارِ الأرواحِ؛ إمَّا لكَسْبِ مالٍ، أو لإثباتِ قُدرَتِه على ما لا يَقدِرُ عليهِ غَيرُه، أو للتَّلبيسِ على النَّاسِ لإفسادِ الدِّين والعَقيدةِ.
وما يَدَّعيهِ هَؤُلاءِ الدَّجَّالونَ من تَحضيرِ الأرواحِ إنَّما هيَ أرواحُ شياطينَ يَخدِمُها بعِبادَتِها وتَحقيقِ مَطالِبِها، وتَخدِمُه بما يَطلُبُ مِنها كذِبًا وُزورًا في انتِحالِها أسماءَ مَن يَدَّعونَه مِنَ الأمواتِ، كما قال اللهُ تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:112-113] .
وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128] .
وذَكَرَ عُلَماءُ التَّفسيرِ أنَّ استِمتاعَ الجِنِّ بالإنسِ بعِبادَتِهم إيَّاهم بالذَّبائِحِ والنُّذورِ والدُّعاءِ، وأنَّ استِمتاعَ الإنسِ بالجِنِّ قَضاءُ حَوائِجِهم الَّتي يَطلُبونَها مِنهم، وإخبارُهم ببَعضِ المُغَيَّباتِ الَّتي يَطَّلِعُ عليها الجِنُّ في بَعضِ الجِهاتِ النَّائيةِ، أو يَستَرِقونَها مِنَ السَّمعِ، أو يَكذِبونَه وهوَ الأكثَرُ، ولَو فرَضْنا أنَّ هَؤُلاءِ الإنسَ لا يَتَقَرَّبونَ إلى الأرواحِ الَّتي يَستَحضِرونَها بشَيءٍ مِنَ العِبادةِ، فإنَّ ذلك لا يوجِبُ حِلَّ ذلك وإباحَتَه؛ لأنَّ سُؤالَ الشَّياطينِ والعَرَّافينَ والكَهَنةِ والمُنجِّمينَ مَمنوعٌ شَرعًا، وتَصديقُهم فيما يُخبِرونَ بهِ أعظَمُ تَحريمًا وأكبَرُ إثمًا، بَل هوَ من شُعَبِ الكُفْرِ؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من أتى عَرَّافًا فسَألَه عَن شَيءٍ، لَم تُقبَلْ لَه صَلاةٌ أربَعينَ لَيلةً )) [4543] رواه مسلم (2230). .
وقد جاءَ في هَذا المَعنى أحاديثُ وآثارٌ كثيرةٌ، ولا شَكَّ أنَّ هذه الأرواحَ الَّتي يَستَحضِرونَها بزَعمِهم داخِلةٌ فيما مَنعَ مِنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّها من جِنسِ الأرواحِ الَّتي تَقتَرِنُ بالكُهَّانِ والعَرَّافِينَ من أصنافِ الشَّياطينِ، فيَكونُ لَها حُكمُها، فلا يَجوزُ سُؤالُها ولا استِحضارُها ولا تَصديقُها، بَل كُلُّ ذلك مُحَرَّمٌ ومُنكَرٌ بَل وباطِلٌ؛ لِما سَمِعتَ مِنَ الأحاديثِ والآثارِ في ذلك، ولِأنَّ ما يَنقُلونَه عَن هذه الأرواحِ يُعتَبَرُ من عِلمِ الغَيبِ، وقد قال اللهُ سُبْحانَه: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النَّملِ: 65] .
وقد تَكونُ هذه الأرواحُ هيَ الشَّياطينَ المُقتَرِنةَ بالأمواتِ الَّذينَ طَلَبوا أرواحَهم، فتُخبِرُ بما تَعْلَمُه من حالِ المَيِّتِ في حَياتِهِ مُدَّعِيةً أنَّها رُوحُ المَيِّتِ الَّذي كانَت مُقتَرِنةً بهِ، فلا يَجوزُ تَصديقُها ولا استِحضارُها ولا سُؤالُها كما تَقدَّمَ الدَّليلُ على ذلك، وما يُحَضِّرُه لَيسَ إلَّا الشَّياطينَ والجِنَّ يَستَخدِمُهم مُقابِلَ ما يَتَقَرَّبُ بهِ إليهم مِنَ العِبادةِ الَّتي لا يَجوزُ صَرفُها لغَيرِ اللَّهِ، فيَصِلُ بذلك إلى حَدِّ الشِّركِ الأكبَرِ الَّذي يُخرِجُ صاحِبَه مِنَ المَلَّةِ) [4544] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/311-313). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (هَذا التَّحضيرُ لأرواحِ المَوتى لا يَصِحُّ ولا يُمكِنُ أن يَكونَ ثابِتًا، وإذا قدِّرَ أنَّ أحَدًا زَعَمَ أنَّه حَضَّرَ رُوحَ فُلانٍ وخاطَبَها وخاطَبَتْه فإنَّ هَذا شَيطانٌ يُخاطِبُه بصَوتِ ذلك المَيِّتِ؛ فإنَّ الأرواحَ بَعدَ المَوتِ مَحفوظةٌ، كما قال اللهُ تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ، أي: لا يُفرِّطونَ في حِفظِ هذه الرُّوحِ، ثُمَّ إنَّ الأرواحَ تَكونُ بَعدَ المَوتِ في مَقَرِّها، ولا يُمكِنُ أن تَحضُرَ إلى الدُّنيا بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ. وتَعاطي مِثلِ هَذا العَمَلِ مُحرَّمٌ؛ لِما فيه مِنَ الكَذِبِ والدَّجَلِ وغِشِّ النَّاسِ وأكَلِ المالِ بالباطِلِ؛ فالواجِبُ الحَذَرُ مِنه والتَّحذيرُ أيضًا؛ لِما فيه مِنَ المَفاسِدِ الكَثيرةِ العَظيمةِ) [4545] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (1/405). .

انظر أيضا: