الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الأوَّلُ: القَرينُ الموَكَّلُ بالإنسانِ

كُلُّ إنسانٍ بلا استِثناءٍ موكَّلٌ بهِ قَرِينٌ مِنَ الجِنِّ يَأمُرُه بالمُنكَرِ ويَنهاه عَنِ المَعروفِ.
قال اللهُ تعالى حِكايةً عَن بَعضِ أهلِ الجَنَّةِ: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات: ]51-52[.]
قال ابنُ كثيرٍ: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ قال مُجاهِدٌ: يَعني شَيطانًا.
وقال العوفيُّ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: هوَ الرَّجُلُ المُشرِكُ، يَكونُ لَه صاحِبٌ من أهلِ الإيمانِ في الدُّنيا.
ولا تَنافيَ بَينَ كلامِ مُجاهِدٍ، وابنِ عَبَّاسٍ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يَكونُ مِنَ الجِنِّ فيُوسوِسُ في النَّفسِ، ويَكونُ مِنَ الإنسِ فيَقولُ كلامًا تَسمَعُه الأذُنانِ) .
وعَن عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِنكُم من أحَدٍ إلَّا وقد وكِّلَ بهِ قَرَينُه مِنَ الجِنِّ. قالوا: وإيَّاكَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قال: وإيَّاي، إلَّا أنَّ اللهَ أعانَني عليهِ فأسلَمَ، فلا يَأمُرُني إلَّا بخَيرٍ )) .
قال عِياضٌ: (رُوِّيناه بالضَّبطَينِ مِنَ الرَّفعِ والفَتحِ، فمَن رفع تأوَّلها: فأسلَمُ أنا منه، وهي التي صحَّح الخطَّابي ورجَّح، ومن فتح جعَلَه صِفةً للقَرينِ، مِن الإسلامِ، وهي عندي أظهَرُ، بدليلِ قولِه: "فلا يأمُرُني إلَّا بخيرٍ". ... واعلَمْ أنَّ الأمَّةَ مُجتَمِعةٌ على عِصمةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الشَّيطانِ، لا في جِسْمِه بأنواعِ الأذى، ولا على خاطِرِه بضُروبِ الوساوِسِ، ولا على لِسانِه بما لم يَقُلْ، وقد بسَطْنا هذا البابَ على أتمِّ وُجوهِ البيانِ في كتابِ الشِّفا) .
وقال النَّوَويُّ: (في هَذا الحَديثِ إشارةٌ إلى التَّحذيرِ من فتنةِ القَرِينِ ووَسوسَتِه وإغوائِه، فأعلَمَنا بأنَّه مَعَنا لنَحتَرِزَ مِنه بحَسَبِ الإمكانِ) .
وقال ابنُ باز: (كُلُّ إنسانٍ مَعَه قَرِينٌ مِنَ المَلائِكةِ وقَرِينٌ مِنَ الشَّياطينِ؛ فالمُؤْمِنُ يَقهَرُ شَيطانَه بطاعةِ اللهِ والِاستِقامةِ على دينِهِ، ويُذِلُّ شَيطانَه حَتَّى يَكونَ ضَعيفًا لا يَستَطيعُ أن يَمنَعَ المُؤْمِنَ مِنَ الخَيرِ ولا أن يَوقِعَه في الشَّرِّ إلَّا ما شاءَ اللهُ، والعاصي بمَعاصيه وسَيِّئاتِه يُعِينُ شَيطانَه حَتَّى يَقْوى على مُساعَدَتِه على الباطِلِ، وتَشجيعِه على الباطِلِ، وعلى تَثبيطِه عَنِ الخَيرِ. فعلى المُؤْمِنِ أن يَتَّقِيَ اللهَ وأن يَحرِصَ على جِهادِ شَيطانِه بطاعةِ اللهِ ورَسولِه والتَّعوُّذِ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (القَرِينُ هوَ الشَّيطانُ مُسَلَّطٌ على الإنسانِ بإذْنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، يَأمُرُه بالفَحْشاءِ ويَنْهاه عَنِ المَعروفِ، كما قال عَزَّ وجَلَّ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ولَكِنْ إذا مَنَّ اللهُ سُبْحانَه وتعالى على العَبدِ بقَلبٍ سَليمٍ، صادِقٍ مُتَّجِهٍ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، مُريدٍ للآخِرةِ، مُؤْثِرٍ اللَّهَ على الدُّنيا؛ فإنَّ اللهَ تعالى يُعِينُه على هَذا القَرينِ حَتَّى يَعجِزَ عَن إغوائِه؛ ولذلك يَنبَغي للإنسانِ كُلَّما نَزغَه مِنَ الشَّيطانِ نَزغٌ أن يَستَعِيذَ باللَّهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ، كما أمرَ اللهُ؛ حَيثُ قال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. والمُرادُ بنَزغِ الشَّيطانِ أن يَأمُرَكَ بتَركِ الطَّاعةِ، ويَأمُرَكَ بفِعلِ المَعصيةِ. فإذا أحسَسْتَ من نَفسِكَ المَيلَ إلى تَركِ الطَّاعةِ، فذلك مِنَ الشَّيطانِ، أوِ المَيلَ إلى فِعلِ المَعصيةِ فهَذا مِنَ الشَّيطانِ؛ فبادِرْ بالِاستِعاذةِ باللَّهِ مِنه يُعيذُكَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مِنه، وأمَّا كونُ هَذا القَرينِ يَمتَدُّ بأن يَكونَ مَعَ الإنسانِ في قَبرِهِ، فلا؛ فالظَّاهِرُ -واللهُ أعلَمُ- بمُجَرَّدِ أن يَموتَ الإنسانُ يُفارِقُه؛ لأنَّ مُهمَّتَه الَّتي كانَ مُسخَّرًا لَها قدِ انتَهَت) .

انظر أيضا:

  1. (1) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 15).
  2. (2) أخرجه مسلم (2814).
  3. (3) يُنظر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (8/ 350).
  4. (4) يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/158).
  5. (5) يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (9/371(.
  6. (6) يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (17/427).