سابعًا: موانِعُ اكتِسابِ العَزمِ والعَزيمةِ وعُلُوِّ الهِمَّةِ
1- مَرَضُ القَلبِ وضَعفُ النَّفسِ وانهزامُها:إذا فقد القَلبُ عَزمَه خارت قوى الجَسَدِ مهما كان قويًّا؛ قال تعالى:
فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .
وقال تعالى:
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] ، فإنَّ ضَعفَ العَزيمةِ من ضَعفِ حياةِ القَلبِ، وهي دليلٌ على حياتِه، وعلى مَرَضِه أو مَوتِه.
2- العَجزُ والكَسَلُ: فالعَجزُ والكَسَلُ (هما العائقانِ اللَّذان أكثَرَ الرَّسولُ من التَّعوُّذِ باللهِ سُبحانَه منهما
، وقد يُعذَرُ العاجزُ لعَدَمِ قُدرتِه، بخلافِ الكَسولِ الذي يتثاقَلُ ويتراخى ممَّا ينبغي مع القدرةِ؛ قال تعالى:
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة: 46] )
.
وقال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((احرِصْ على ما ينفَعُك، واستَعِنْ باللهِ ولا تَعجِزْ))
. وقيل: (آفةُ صِدقِ العَزمِ: العَجزُ)
.
4- التَّسويفُ والتَّمنِّي وتركُ الأخذِ بالأسبابِ:والتَّسويفُ والتَّمنِّي(هما صفةُ بليدِ الحِسِّ عديمِ المبالاةِ، الذي كلَّما همَّت نفسُه بخيرٍ وعَزَمت عليه، إمَّا يُعيقُها بــ (سوف)حتَّى يفجأَه الموتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المُنافِقون: 10] ، وإمَّا يركَبُ بها بحرَ التَّمنِّي، وهو بحرٌ لا ساحِلَ له، يُدمِنُ ركوبَه مفاليسُ العالَمِ... وما أحسَنَ ما قال أبو تمَّامٍ:
من كان مرعى عَزمِه وهمومِه
روضَ الأماني لم يَزَلْ مَهزولَا)
.
وقال الحارِثُ بنُ قَيسٍ: (إذا همَمْتَ بخيرٍ فلا تؤخِّرْ)
، وقال بعضُ أهلِ العِلمِ: (التُّؤَدةُ في كُلِّ شيءٍ خَيرٌ إلَّا ما كان من أمرِ الآخِرةِ)
.
5- الخوفُ من الفَشَلِ:إنَّ الخوفَ الدَّائِمَ من الفَشَلِ، وتوقُّعَ انتقادِ الآخرينَ، من العوامِلِ المؤثِّرةِ في ضَعفِ عزيمةِ النَّفسِ، فالمطلوبُ هو أن تقاوِمَ الخوفَ، وتتأسَّى بأصحابِ العَزمِ الصَّادِقِ، الذين قال اللهُ تعالى عن عَزمِهم، وقوَّتِهم في مواجهةِ الحياةِ، وحُسنِ توكُّلِهم عليه سُبحانَه في تقويةِ عزائِمِهم على مواجَهةِ الصُّعوباتِ
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 173-174] . واعلَمْ أنَّ عليك أن تسعى وتأخُذَ بالأسبابِ، وليس عليك تحصيلُ النَّتائجِ؛ قال تعالى:
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] .
6- التَّردُّدُ وعَدَمُ وُضوحِ الأهدافِ:(إنَّ الإسلامَ يَكرَهُ لك أن تكونَ مترَدِّدًا في أمورِك، تحارُ في اختيارِ أصوَبِها وأسلَمِها، وتكثِرُ الهواجِسَ في رأسِك؛ فتخلُقُ أمامَك جوًّا من الرِّيبةِ والتَّوجُّسِ، فلا تدري كيف تفعَلُ، وتَضعُفُ قَبضتُك في الإمساكِ بما ينفَعُك، فيُفلِتُ منك، ثمَّ يذهَبُ سُدًى)
؛ ولهذا شَرَع لنا اللهُ سُبحانَه مشاورةَ أهلِ الرَّأيِ والخبرةِ من أهلِ الصَّلاحِ، وشرَع لنا الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الاستخارةَ
؛ إعانةً للمرءِ على بلوغِ الصَّوابِ، وبعدَ المشاورةِ يكونُ التَّنفيذُ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159] .
7- سوءُ الظَّنِّ باللهِ، واليأسُ، وفِقدانُ الأمَلِ، والنَّظرةُ التَّشاؤميَّةُ للحياةِ:إنَّ فِقدانَ الأمَلِ يُقعِدُ الإنسانَ عن طَلَبِ المعالي؛ ليأسِه وحُكمِه على المستقبَلِ بما يعيشُه من واقعٍ أليمٍ، وإنَّ (عَمَلَ الشَّيطانِ هو تشييعُ الماضي بالنَّحيبِ والإعوالِ، هو ما يُلقيه في النَّفسِ من أسًى وقنوطٍ على ما فات، إنَّ الرَّجُلَ لا يلتَفِتُ وراءه إلَّا بمقدارِ ما ينتَفِعُ به في حاضِرِه ومستقبَلِه، أمَّا الوقوفُ مع هزائمِ الأمسِ، واستعادةُ أحزانِها، والتَّعثُّرُ في عقابيلِها
وتَكرارُ لو وليت: فليس ذلك من خُلُقِ المُسلِمِ... قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران: 156] )
.
وانظُرْ لنبيِّ اللهِ يعقوبَ عليه السَّلامُ؛ لم يمنَعْه طولُ الزَّمانِ بَعدَ فِقدانِه ليوسُفَ من الأمَلِ في اللهِ أن يعيدَه له، بل ازداد أمَلُه بعدَ حَبسِ ابنِه الثَّاني بمصرَ، فقال لأولادِه:
يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87] .
8- قِلَّةُ الصَّبرِ، وعَدَمُ الثَّباتِ، واستطالةُ الطَّريقِ، واستعجالُ النَّتائجِ:قِلَّةُ الصَّبرِ وعَدَمُ الثَّباتِ تحرِمُ الإنسانَ من بلوغِ أيِّ هَدَفٍ، وتحقيقِ أيِّ كمالٍ.
9- الفُتورُ والغَفلةُ:الفُتورُ والغَفلةُ هما رأسُ البلاءِ، ومَكمَنُ الدَّاءِ، وإن كان (لا بدَّ من سِنةِ الغَفلةِ ورُقادِ الغَفلةِ، ولكِنْ كُنْ خَفيفَ النَّومِ)
. فلا يعني ذلك تركَ الواجباتِ وفِعلَ المحرَّماتِ؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ لكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً
، ولكُلِّ شِرَّةٍ فَترةً
؛ فمَن كانت شِرَّتُه إلى سُنَّتي فقد أفلَح، ومن كانت فَترتُه إلى غيرِ ذلك فقد هَلَك))
.
ومن مظاهرِ ذلك:
- (تضييعُ الوَقتِ وعَدَمُ الإفادةِ منه، وتزجيتُه بما لا يعودُ بالنَّفعِ، وتقديمُ غَيرِ المهِمِّ على المهِمِّ، والشُّعورُ بالفراغِ الرُّوحيِّ والوَقتيِّ، وعَدَمُ البركةِ في الأوقاتِ، وعَدَمُ إنجازِ شَيءٍ من العَمَلِ مع طولِ الزَّمَنِ.
- عدمُ الاستعدادِ للالتِزامِ بشَيءٍ، والتَّهرُّبُ من كُلِّ عَمَلٍ جِدِّيٍّ.
- الفَوضويَّةُ في العَمَلِ: فلا هَدَفَ مُحدَّدٌ، ولا عَمَلَ مُتقَنٌ، الأعمالُ ارتجاليَّةٌ، التَّنقُّلُ بَيْنَ الأعمالِ بغيرِ داعٍ.
- خِداعُ النَّفسِ بالانشغالِ مع الفراغِ، وبالعَمَلِ وهي عاطِلةٌ، الانشغالُ بجُزئيَّاتٍ لا قيمةَ لها ولا أثَرَ يُذكَرُ، ليس لها أصلٌ في الكتابِ أو السُّنَّةِ، وإنَّما هي أعمالٌ تافهةٌ ومشاريعُ وهميَّةٌ لا تُسمِنُ ولا تُغني من جُوعٍ.
- النَّقدُ لكُلِّ عمَلٍ إيجابيٍّ؛ تنصُّلًا من المشاركةِ والعَمَلِ، وتضخيمُ الأخطاءِ والسَّلبيَّاتِ؛ تبريرًا لعَجزِه وفتورِه، تراه يبحَثُ عن المعاذيرِ، ويصطَنِعُ الأسبابَ؛ للتخلُّصِ والفِرارِ
وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] )
.
10- كَثرةُ الذُّنوبِ والمَعاصي:إنَّ كَثرةَ المَعاصي أحَدُ أسبابِ انحِطاطِ الهمَّةِ وضَعفِ العَزيمةِ؛ إذ كيف ينطَلِقُ الإنسانُ إلى المَعالي وهو مُكبَّلٌ بالشَّهَواتِ، مُثقَلٌ بالذُّنوبِ، مُنهَكُ القوى بالمَعاصي؛ يقولُ
ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ: (فالذَّنبُ يحجُبُ الواصِلَ، ويقطَعُ السَّائِرَ، ويُنَكِّسُ الطَّالبَ، والقَلبُ إنَّما يسيرُ إلى اللَّهِ بقوَّتِه، فإذا مَرِضَ بالذُّنوبِ ضَعُفت تلك القوَّةُ التي ستُسَيِّرُه، فإذا زالَت بالكُلِّيَّةِ انقَطَعَ عنِ اللَّهِ انقِطاعًا يبعُدُ تَدارُكُه، فاللَّهُ المُستَعانُ)
.
11- مُجالَسةُ البَطَّالينَ والمُثَبِّطينَ:فـ (مَجالِسُ البَطَّالينَ والقاعِدينَ تُوهِنُ العَزائِمَ وتُضعِفُ الهمَمَ بما يَعلقُ في القَلبِ مِن أقوالِهم مِنَ الشُّبَهِ، وما يحصُلُ بمُجالَسَتِهم مِن ضَياعٍ للوقتِ، وإشغالٍ بتَوافِهِ الأُمورِ.. وكُلَّما أرَدتَ العَمَلَ ثَبَّطَك وقال: أمامَك لَيلٌ طَويلٌ فارقُدْ!)
.
فينبَغي الحَذَرُ مِن مُجالَسة البَطَّالَينِ (فإنَّ طَبعَك يَسرِقُ مِنهم وأنت لا تَدري، وليس إعداءُ الجَليسِ جَليسَه بمَقالِه وفِعالِه فقَط، بل بالنَّظَرِ إليه، والنَّظَرُ في الصُّورِ يورِثُ في النُّفوسِ أخلاقًا مُناسِبةً لخُلُقِ المَنظورِ إليه، فإنَّ مَن دامَت رُؤيتُه للمَسرورِ سُرَّ، أو للمَحزونِ حَزِن... ومِن المُشاهَدِ أنَّ الماءَ والهَواءَ يفسُدانِ بمُجاوَرةِ الجيفةِ، فما الظَّنُّ بالنُّفوسِ البَشَريَّةِ التي مَوضِعُها لقَبولِ صُوَرِ الأشياءِ خَيرِها وشَرِّها؟)
.
12- المَناهِجُ التَّربَويَّةُ والتَّعليميَّةُ الهَدَّامةُ:هذه المَناهجُ (التي تُثَبِّطُ الهمَمَ وتَخنُقُ المَواهبَ، وتَكبتُ الطَّاقاتِ، وتُخَرِّبُ العُقولَ، وتُنشِئُ الخُنوعَ، وتَزرَعُ في الأجيالِ ازدِراءَ النَّفسِ، وتُعَمِّقُ فيها احتِقارَ الذَّاتِ والشُّعورَ بالدُّونيَّةِ)