تَمهيدٌ:
أمَرَ الشَّرعُ الشَّريفُ بالإنفاقِ على النَّفسِ والأهلِ ومَن تَلزَمُ المَرءَ نَفقَتُه
[1] شرَعَ اللهُ تعالى النَّفَقةَ على مَن تَلزَمُه نَفَقتُه لحِكَمٍ؛ منها: أوَّلًا: النَّفَقةُ على الزَّوجةِ؛ لِكَونِها مَحبوسةً عِندَه عن الكَسبِ، فجعل اللهُ لها نَفَقةً على زَوجِها. ثانيًا: شُرِعَت النَّفَقةُ على الوالِدَينِ عند حاجَتِهما للنَّفَقةِ؛ إحسانًا وبِرًّا لهما. ثالثًا: شُرِعَت النَّفَقةُ على الأقارِبِ الفُقَراءِ؛ لأنَّها صِلَةٌ ومُواساةٌ مِن حُقوقِ القَرابةِ، وقد جَعَل اللهُ للقَرابةِ حَقًّا. يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (8/195)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/793)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهوتي (3/238). ، وحَثَّ كذلك على الإنفاقِ في وُجوهِ الخَيرِ المُختَلفةِ.
فقال ربُّنا تبارك وتعالى:
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد: 7] .
وقال تبارك اسمُه:
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران: 92] .
وقال عزَّ وجَلَّ:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن: 16] .
وقال جَلَّ ثناؤه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] .
وقال جَلَّت عَظَمتُه:
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39] .
وقال تقدَّست أسماؤه:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 261 - 274] .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، يَبلُغُ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((قال اللهُ تَبارَكَ وتعالى: يا ابنَ آدَمَ أنفِقْ أُنفِقْ عليك)) [2] أخرجه البخاري (5352)، ومسلم (993) واللَّفظُ له. .
قال النَّوويُّ: (قَولُه عَزَّ وجَلَّ: «أنفِقْ أُنفِقْ عليك» هو مَعنى قَولِه عَزَّ وجَلَّ:
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ: 39] ، فيَتَضَمَّنُ الحَثَّ على الإنفاقِ مَعنًى في وُجوهِ الخَيرِ، والتَّبشيرَ بالخَلَفِ مِن فَضلِ اللهِ تعالى)
[3] ((شرح مسلم)) (7/ 79). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ما مِن يَومٍ يُصبحُ العِبادُ فيه إلَّا مَلَكانِ يَنزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهما: اللهُمَّ أعطِ مُنفِقًا خَلَفًا، ويَقولُ الآخَرُ: اللهُمَّ أعطِ مُمسِكًا تَلفًا)) [4] أخرجه البخاري (1442)، ومسلم (1010). .
قال النَّوويُّ: (قال العُلَماءُ: هذا في الإنفاقِ في الطَّاعاتِ ومَكارِمِ الأخلاقِ، وعلى العِيالِ والضِّيفانِ، والصَّدَقاتِ ونَحوِ ذلك، بحَيثُ لا يُذَمُّ ولا يُسَمَّى سَرَفًا، والإمساكُ المَذمومُ هو الإمساكُ عن هذا)
[5] ((شرح مسلم)) (7/ 95). .
وعن أبي أُمامةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم:
((يا ابنَ آدَمَ، إنَّك أن تَبذُلَ الفَضلَ خيرٌ لك، وأن تُمسِكَه شرٌّ لك، ولا تُلامُ على كَفافٍ، وابدأْ بمن تَعولُ، واليدُ العُليا خَيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلى)) [6] أخرجه مسلم (1036). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن أنفَقَ زَوجَينِ في سَبيلِ اللهِ نوديَ في الجَنَّةِ: يا عَبدَ اللهِ، هذا خَيرٌ، فمَن كان من أهلِ الصَّلاةِ دُعيَ مِن بابِ الصَّلاةِ، ومَن كان من أهلِ الجِهادِ دُعيَ مِن بابِ الجِهادِ، ومَن كان من أهلِ الصَّدَقةِ دُعيَ مِن بابِ الصَّدَقةِ، ومَن كان مِن أهلِ الصِّيامِ دُعيَ مِن بابِ الرَّيَّانِ. قال أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ: يا رَسولَ اللهِ، ما على أحَدٍ يُدعى مِن تلك الأبوابِ مِن ضَرورةٍ [7] أي: لا يَرى مَشَقَّةً. يُنظر: ((مشارق الأنوار)) لعياض (2/ 57). ، فهَل يُدعى أحَدٌ مِن تلك الأبوابِ كُلِّها؟ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نَعَم، وأرجو أن تَكونَ مِنهم)) [8] أخرجه البخاري (1897)، ومسلم (1027) واللَّفظُ له. .
وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((ما مِن رَجُلٍ أنفقَ زَوجَينِ مِن مالِه في سَبيلِ اللهِ إلَّا ابتَدَرَته حَجَبةُ الجَنَّةِ [9] حجبةُ الجنة: جَمْعُ حاجِبٍ، أي: بَوَّابو أبوابِها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/ 1349). ، قُلتُ: وما زَوجانِ مِن مالِه؟ قال: عَبدانِ مِن رَقيقِه، فَرَسانِ مِن خَيلِه، بَعيرانِ مِن إبِلِه [10] قال عِياضٌ: (وقيل: دِرهَم ودينارٌ، ودِرهَمٌ وثَوبٌ، والزَّوجُ: الفردُ، قال اللهُ: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: 40] ، ويَقَعُ الزَّوجُ على الاثنَينِ أيضًا، وقيل: إنَّما يُقالُ للفردِ: زَوجٌ، إذا كان مَعَه آخَرُ، والزَّوجُ الصِّنفُ... قيل: ويُحتَمَلُ أن يَكونَ هذا في جَميعِ أعمالِ البرِّ: مَن صَلَّى صَلاتَينِ، أو صامَ يَومَينِ. والمَقصودُ مِن هذا كُلِّه -واللهُ أعلمُ- تَشفيعُ صَدَقَتِه بأُخرى مِثلِها، والتَّنبيهُ على فَضلِ الصَّدَقةِ والنَّفَقةِ في سَبيلِ اللهِ، والاستِكثارِ مِنها. وقَولُه: «في سَبيلِ اللهِ»: قيل: يَحتَمِلُ العُمومَ في جَميعِ وُجوهِ الخَيرِ، وقيل: الخُصوصُ في الجِهادِ، والأوَّلُ أظهَرُ. وقَولُه: «نوديَ: هذا خَيرٌ»: فيه وجهانِ، أي: هنالكَ خَيرٌ وثَوابٌ وغِبطةٌ، والآخَرُ: هذا البابُ خَيرٌ مِن غَيرِه مِنَ الأبوابِ لك؛ لكَثرةِ ثَوابِه ونَعيمِهـ). ((إكمال المعلم)) (3/ 555). ) [11] أخرجه أحمد (21413)، والدارمي (2447)، وابن حبان (4643) واللفظ له. صَحَّحَ إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تَخريج ((صحيح ابنٍ حبان)) (4643)، وقال البَزَّار في ((البَحر الزِّخار)) (9/349): مَحفوظٌ. ورويَ بلفظ: عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن عَبدٍ مُسلمٍ يُنفِقُ مِن كُلِّ مالٍ له زَوجَينِ في سَبيلِ اللهِ، إلَّا استَقبَلته حَجَبةُ الجَنَّةِ كُلُّهم يَدعوه إلى ما عِندَه، قُلتُ: وكَيف ذلك؟ قال: إن كانت إبلًا فبَعيرَينِ، وإن كانت بَقرًا فبَقَرَتَينِ)). أخرجه النسائي (3185) واللَّفظُ له، وأحمد (21341). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (3185)، وصَحَّحَ إسنادَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (2/446)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (21341). .
كَما حَذَّرَ الإسلامُ مِنَ الشُّحِّ والبُخلِ، وإضاعةِ المَرءِ مَن يَعولُه:
قال تعالى:
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
وقال جَلَّ ثناؤه:
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران: 180] .
وقال سُبحانَه:
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 36 - 37] .
وقال عزَّ وجَلَّ:
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد: 24] .
وقال سُبحانَه:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 5 - 11] .
وعن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((انفَحي أوِ انضَحي [12] انفَحي: النَّفحُ: الرَّميُ بالشَّيءِ إلى المُعطى، وهذه كِنايةٌ عنِ السَّماحةِ والجودِ والعَطاءِ، وكذلك قَولُه: ((انضَحي))، وأصلُ النَّضحِ: رَشُّ الماءِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 451)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 482). أو أنفِقي، ولا تُحصي فيُحصيَ اللهُ عليكِ، ولا تُوعي فيُوعيَ اللَّهُ عليكِ [13] لا توعي: أي لا تَجمَعي في الوِعاءِ إمساكًا وبُخلًا. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 451). ).
[14] أخرجه مسلم (1029). وفي رِوايةٍ:
((لا تُوكي [15] الإيكاءُ: شَدُّ الوِعاءِ بالوِكاءِ، وهو الخَيطُ الذي يُشَدُّ به رَأسُ الوِعاءِ والقِربةِ ونَحوِهما. والمَعنى: لا تَبخَلي فتَدَّخِري المَوجودَ ضَنًّا به، ولا تُقَتِّري في الواجِبِ فيُقَتِّرَ عليك ويَقطَعَ المادَّةَ عنك، وهذا كَقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تُحصي فيُحصى عليك)). يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 766). فيُوكَى عليكِ)) [16] أخرجها البخاري (1433). .
قال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: «لا تُوعي» يُريدُ: لا تُخَبِّئِي الشَّيءَ في الوِعاءِ، فتَدَّخِريه ولا تُنفِقيه. يُقالُ: أوعَيتُ الشَّيءَ: إذا جَعَلتَه في الوِعاءِ، ومِنه قَولُه سُبحانَه:
وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج: 18] . يَقولُ: إنَّ مادَّةَ الرِّزقِ مُتَّصِلةٌ باتِّصالِ النَّفَقةِ، ومُنقَطِعةٌ بانقِطاعِها، فلا تَمنَعي فَضلَ الزَّادِ فتُحرَمي مادَّةَ الرِّزقِ، وكذلك قَولُه: «لا تُحصي فيُحصيَ اللهُ عليكِ»، وذلك أنَّها تُحصي ما تُحصي للتَّبقيةِ والذُّخرِ، فيُحصى عليها بقَطعِ البَرَكةِ، ومَنعِ الزِّيادةِ، وقد يَكونُ مَرجِعُ الإحصاءِ إلى المُحاسَبةِ عليه، والمُناقَشةِ في الآخِرةِ)
[17] ((أعلام الحديث)) (2/ 1283). .
وقال أيضًا: («ولا توكي فيُوكَى عليكِ» مَعناه: أعطي ولا توكي، أي: لا تَدَّخِري، والإيكاءُ: شَدُّ رَأسِ الوِعاءِ بالوِكاءِ، وهو الرِّباطُ الذي يُربَطُ به. يَقولُ: لا تَمنَعي ما في يَدِك فتَنقَطِعَ مادَّةُ بَرَكةِ الرِّزقِ عنكِ)
[18] ((معالم السنن)) (2/ 84). .
وعن خَيثَمةَ، قال: كُنَّا جُلوسًا مَعَ عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو، إذ جاءَه قَهرَمانٌ
[19] القَهرَمانُ: هو كالخازِنِ والوكيلِ والحافِظِ لِما تَحتَ يَدِه، والقائِمِ بأُمورِ الرَّجُلِ، بلُغةِ الفُرسِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/ 129). له فدَخَل، فقال: أعطَيتَ الرَّقيقَ
[20] الرَّقيقُ: اسمٌ يَجمَعُ العَبيدَ والإماءَ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 53). قُوتَهم؟ قال: لا، قال: فانطَلِقْ فأَعطِهم، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((كَفى بالمَرءِ إثمًا أن يَحبِسَ عَمَّن يَملِكُ قُوتَهـ)) [21] أخرجه مسلم (996). .
وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((اتَّقوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يَومَ القيامةِ، واتَّقوا الشُّحَّ؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلَكَ مَن كان قَبلَكُم، حَمَلهم على أن سَفكوا دِماءَهم، واستَحَلُّوا مَحارِمَهم)) [22] أخرجه مسلم (2578). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((مَثَلُ البَخيلِ والمُنفِقِ كَمَثَلِ رَجُلينِ عليهما جُبَّتانِ مِن حَديدٍ مِن ثُدِيِّهما إلى تَراقيهما، فأمَّا المُنفِقُ فلا يُنفِقُ إلَّا سَبَغَت أو وفَرَت على جِلدِه، حتَّى تُخفيَ بَنانَه وتَعفوَ أثَرَه، وأمَّا البَخيلُ فلا يُريدُ أن يُنفِقَ شَيئًا إلَّا لزِقَت كُلُّ حَلقةٍ مَكانَها، فهو يوسِّعُها ولا تَتَّسِعُ)) [23] أخرجه البخاري (1443) واللفظ له، ومسلم (1021). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (لمَّا كان البخيلُ محبوسًا عن الإحسانِ، ممنوعًا عن البِرِّ والخيرِ، وكان جزاؤه من جِنسِ عَمَلِه؛ فهو ضَيِّقُ الصَّدرِ، ممنوعٌ من الانشراحِ، ضَيِّقُ العَطَنِ، صغيرُ النَّفسِ، قليلُ الفَرَحِ، كثيرُ الهَمِّ والغَمِّ والحُزنِ، لا يكادُ تُقضى له حاجةٌ، ولا يُعانُ على مطلوبٍ؛ فهو كرجُلٍ عليه جُبَّةٌ من حديدٍ قد جُمِعَت يداه إلى عنُقِه، بحيث لا يتمكَّنُ من إخراجِها ولا حركتِها، وكلَّما أراد إخراجَها أو توسيعَ تلك الجُبَّةِ لَزِمَت كُلُّ حلقةٍ من حِلَقِها مَوضِعَها
[24] ينظر: ((السمو الروحي)) للرافعي (ص: 45-47). .
وهكذا البخيلُ كُلَّما أراد أن يتصدَّقَ منعَه بُخلُه فبَقِيَ قلبُه في سِجنِه كما هو، والمُتَصَدِّقُ كُلَّما تَصَدَّقَ بصَدَقةٍ انشَرَحَ لها قَلبُه وانفسَحَ بها صَدَرُه، فهو بمَنزِلةِ اتِّساعِ تلك الجُبَّةِ عليه، فكُلَّما تصَدَّق اتَّسَعَ وانفسَحَ وانشَرَحَ، وقَويَ فرَحُه وعَظُمَ سُرورُه، ولو لم يَكُنْ في الصَّدَقةِ إلَّا هذه الفائِدةُ وحدَها لكان العَبدُ حَقيقًا بالاستِكثارِ مِنها والمُبادَرةِ إليها...
وهو سُبحانَه وتعالى رَحيمٌ يُحِبُّ الرُّحَماءَ، وإنَّما يَرحَمُ مِن عِبادِه الرُّحَماءَ، وهو سَتيرٌ يُحِبُّ مَن يَستُرُ على عِبادِه، وعَفوٌّ يُحِبُّ مَن يَعفو عنهم، وغَفورٌ يُحِبُّ مَن يَغفِرُ لهم، ولطيفٌ يُحِبُّ اللَّطيفَ مِن عِبادِه، ويُبغِضُ الفَظَّ الغَليظَ القاسيَ الجَعْظَريَّ الجَوَّاظَ، ورَفيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وحَليمٌ يُحِبُّ الحِلمَ، وبَرٌّ يُحِبُّ البِرَّ وأهلَه، وعَدلٌ يُحِبُّ العَدلَ، وقابِلُ المَعاذيرِ يُحِبُّ مَن يَقبَلُ مَعاذيرَ عِبادِه، ويُجازي عَبدَه بحَسَبِ هذه الصِّفاتِ فيه وجودًا وعَدَمًا، فمَن عَفا عَفا عنه، ومَن غَفرَ غَفرَ له، ومَن سامَحَ سامَحَه، ومَن حاقَقَ حاقَقَه، ومَن رَفَقَ بعِبادِه رَفَق به، ومَن رَحِمَ خَلقَه رَحِمَه، ومَن أحسَنَ إليهم أحسَنَ إليه، ومَن جادَ عليهم جادَ عليه، ومَن نَفَعَهم نَفَعَه، ومَن سَتَرَهم سَتَره، ومَن صَفَح عنهم صَفَح عنه، ومَن تَتَبَّع عَورَتَهم تَتَبَّع عَورَتَه، ومَن هَتكَهم هَتَكَه وفَضَحَه، ومَن مَنَعهم خَيرَه مَنَعه خَيرَه، ومَن شاقَّ شاقَّ اللَّهُ تعالى به، ومَن مَكَر مَكَر به، ومَن خادَعَ خادَعَه، ومَن عامَلَ خَلقَه بصِفةٍ عامَلَه اللَّهُ تعالى بتلك الصِّفةِ بعَينِها في الدُّنيا والآخِرةِ.
فاللهُ تعالى لعَبدِه على حَسَبِ ما يَكونُ العَبدُ لخَلقِهـ)
[25] ((الوابل الصيب)) (ص: 33-35). .
وفيما يلي ذِكرُ أهمِّ آدابِ الإنفاقِ: