موسوعة التفسير

سورةُ الانفِطارِ
الآيات (6-12)

ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات:

غَرَّكَ: أي: خدَعَك، يُقالُ: غَررْتُ فُلانًا: أصبتُ غِرَّتَه ونِلتُ منه ما أُريدُه، والغِرَّةُ: غفلةٌ في اليقَظةِ، ويُقالُ: غرَّه بفُلانٍ، إذا أمَّنه المحذورَ مِن جهتِه وهو غيرُ مأمونٍ [34] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/292)، ((المفردات)) للراغب (ص: 603)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 673). .
فَسَوَّاكَ: أي: جعلَك سَويًّا مُتساويَ الأعضاءِ والقُوى على وَفْقِ الحكمةِ ومُقتضاها، سالِمًا، والتَّسويةُ: جعلُ الشَّيءِ سَواءً، أي: مُعَدَّلًا مُقَوَّمًا سليمًا، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استِقامةٍ واعْتِدالٍ بيْنَ شيئَيْنِ [35] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/112)، ((المفردات)) للراغب (ص: 440)، ((تفسير الرازي)) (31/75)، ((تفسير القاسمي)) (9/423)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/175). .
فَعَدَلَكَ: أي: قَوَّم خَلْقَك، وجعَلَه مُعتَدِلًا، وأصلُ (عدل): يدُلُّ على اسْتِواءٍ [36] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 518)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/246)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 442)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 661). .
رَكَّبَكَ: أي: وَضَعَك، وألَّف تركيبَ أعضائِك، وأصلُ (ركب): يدُلُّ على عُلُوِّ شَيءٍ شَيئًا [37] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/180)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/432)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 485). .
بِالدِّينِ: أي: بالجزاءِ والحسابِ، يُقالُ: دِنْتُه بما صَنَع، أي: جازَيْتُه، وأصلُ (دين): جِنسٌ مِن الانْقِيادِ، والذُّلِّ [38] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/23)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 38)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/319)، ((البسيط)) للواحدي (23/298)، ((المفردات)) للراغب (ص: 323). .

مشكل الإعراب :

قَولُه تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ
 فِي أَيِّ: شِبهُ جُملةٍ جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بـ رَكَّبَكَ. و(مَا): على هذا الوَجهِ مَزيدةٌ، وجملةُ شَاءَ في محلِّ جَرٍّ نعتٌ لـ صُورَةٍ، والجُملةُ كُلُّها بيانٌ لِقَولِه: فَعَدَلَكَ، والتَّقديرُ: فعَدَلَك: ركَّبَك في أيِّ صُورةٍ شاءَها. وجُوِّزَ أن يكونَ الجارُّ والمجرورُ في موضِعِ الحالِ، أي: ركَّبَك كائنًا في أيِّ صُورةٍ شاءَها، وجُوِّزَ أن تكونَ مَا شَرطيَّةً في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ مُطلَقٌ، والتَّقديرُ: أيَّ تركيبٍ شاء ركَّبَك، وشَاءَ فِعلُ الشَّرطِ، ورَكَّبَكَ جوابُه، أي: إنْ شاء تركيبَك في أيِّ صورةٍ غيرِ هذه الصُّورةِ ركَّبَك فيها، والجُملةُ الشَّرطيَّةُ كلُّها في محلِّ جَرٍّ نعتٌ لـ صُورَةٍ، والعائِدُ محذوفٌ، وتقديرُه (فيها أو عليها)، ويكونُ فِي أَيِّ عندَئذٍ مُتعَلِّقًا بـ (عَدَلَك)، أي: عَدَلَك في صُورةٍ أيِّ صورةٍ، ثمَّ استُؤنِفَ الشَّرطُ بَعْدَه، ولم يُجَوِّزوا على هذا الوَجهِ تعَلُّقَ فِي أَيِّ بـ رَكَّبَكَ؛ لأنَّ مَعمولَ ما في حَيِّزِ الشَّرطِ لا يجوزُ تقديمُه عليه [39] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزَّجَّاج (5/295)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1274)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/710-712)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/333)، ((تفسير الألوسي)) (15/269). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى معاتبًا الإنسانَ المفرِّطَ في حقِّ ربِّه: يا أيُّها الإنسانُ ما الَّذي خَدَعَك وسوَّلَ لك التَّجَرُّؤَ على الكُفْرِ برَبِّك الكريمِ وعِصيانِه؟! وهو الَّذي أوجَدَك فجَعَلك سَوِيًّا مُعتَدِلَ الخِلْقةِ، وركَّبك في أيِّ صُّورةٍ شاء أن تكونَ عليها!
ثمَّ يبيِّنُ اللهُ تعالى سببَ الغُرورِ والغفلةِ، فيقولُ: كلَّا، ليس هناك شيءٌ يَقتَضي غُرورَكم باللهِ تعالى، ولكِنَّ تكذيبَكم بالبَعثِ والحِسابِ هو الَّذي حَمَلكم على الكُفْرِ والفُسوقِ والعِصيانِ.
ثمَّ يُقرِّرُ سُبحانَه أنَّ الملائكةَ تَكتُبُ ما يَعمَلُه كلُّ إنسانٍ، فيقولُ: وإنَّ عليكم -أيُّها النَّاسُ- ملائِكةً حافِظينَ كِرامًا يُراقِبونَكم، ويُسَجِّلونَ أعمالَكم، ويَعلَمونَ ما تَفعَلونَ مِن قَولٍ أو فِعلٍ.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ سُبحانَه في الآيةِ الأُولى عن وُقوعِ الحَشرِ والنَّشرِ؛ أتْبَعَه ما يدُلُّ عَقلًا على إمكانِه أو على وُقوعِه [40] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/74). .
وأيضًا لَمَّا كان الإنسانُ إذا اعتَقَد البَعثَ قد يقولُ تهاوُنًا ببَعضِ المعاصي: المرجِعُ إلى كريمٍ، ولا يَفعَلُ بي إلَّا خيرًا؛ أنتج قَولَه مُنكِرًا سُبحانَه وتعالى على مَن يقولُ هذا اغترارًا بخَدْعِ الشَّيطانِ [41] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/301). :
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6).
أي: يا أيُّها الإنسانُ ما الَّذي خَدَعَك وسوَّلَ لك التَّجَرُّؤَ على الكُفْرِ برَبِّك أو مَعصيتِه، وهو الكريمُ ذو الكَمالِ والجَمالِ، الَّذي ينبغي أن يُعبَدَ ويُطاعَ شُكرًا لإحسانِه، ومُقابَلةً لكَرَمِه [42] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/178)، ((الوسيط)) للواحدي (4/434)، ((تفسير ابن عطية)) (5/446)، ((تفسير ابن جزي)) (2/458)، ((تفسير ابن كثير)) (8/341، 342)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/301-303)، ((تفسير الشوكاني)) (5/479)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 89). قيل: المرادُ بالإنسانِ هنا: الكافِرُ. ومِمَّن قال بهذا: ابنُ جرير، ومكِّيٌّ، والواحدي، والقرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/178)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8101)، ((الوسيط)) للواحدي (4/434)، ((تفسير القرطبي)) (19/245)، ((تفسير الشوكاني)) (5/479). وقيل: المرادُ: جِنسُ بني آدَمَ، فيَدخُلُ في ذلك الكُفَّارُ وعُصاةُ المؤمنينَ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الرازيُّ، وابنُ جُزَي، والعُلَيمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/74)، ((تفسير ابن جزي)) (2/458)، ((تفسير العليمي)) (7/303)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 89). ؟!
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَصَف تعالى نفْسَه بالكَرَمِ؛ ذكَرَ هذه الأُمورَ الثَّلاثةَ كالدَّلالةِ على تحَقُّقِ ذلك الكَرَمِ [43] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/75). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 914). .
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: فَعَدَلَكَ بتخفيفِ الدَّالِ، قيل: بمعنى: صَرَفَك اللهُ إلى أيِّ صُورةٍ شاءَها. وقيل: المعنى: صَرَفَك عن خِلْقةِ غَيْرِك إلى خِلْقةٍ حَسَنةٍ مُفارِقةٍ لسائِرِ الخَلْقِ. وقيل: معنى قِراءةِ التَّخفيفِ كقراءةِ التَّشديدِ، أي: عَدَلَ بعضَ أعضائِك ببعضٍ حتَّى اعتدَلَت [44] قرأ بها عاصِمٌ، وحمزةُ، والكِسائيُّ، وخَلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/399). ويُنظَرُ لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (24/178)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 364)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/126، 127)، ((تفسير أبي حيان)) (10/422). .
2- قِراءةُ: فَعَدَّلَكَ بتشديدِ الدَّالِ، أي: جعَلَك مُعتَدِلَ الخِلْقةِ، مُتناسِبَ الأعضاءِ [45] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/399). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (24/178)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 364)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/126، 127). .
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7).
أي: الَّذي أوجَدَك فجَعَل خَلْقَك سَوِيًّا سَلِيمًا مُتقَنًا، فصِرْتَ مُعتَدِلَ الخِلْقةِ، مُتناسِبَ الأعضاءِ [46] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/555)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1180)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/303، 304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 175، 176)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 89). .
كما قال الله تبارك وتعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 14] .
وقال سُبحانَه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] .
وقال عزَّ وجَلَّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] .
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8).
أي: ركَّبك اللهُ -أيُّها الإنسانُ- في أيِّ صُّورةٍ شاء أن تكونَ عليها [47] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/343)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/304)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/177)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 89، 90). قال البِقاعي: (مَا شَاءَ رَكَّبَكَ أي: ألَّف تركيبَ أعضائِك، وجَمَعَ الرُّوحَ إلى البَدَنِ). ((نظم الدرر)) (21/304). .
كما قال تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: 64] .
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن سُبحانَه بالدَّلائِلِ العَقليَّةِ صِحَّةَ القَولِ بالبَعثِ والنُّشورِ على الجُملةِ؛ فَرَّع عليها شَرْحَ تفاصيلِ الأحوالِ المتعَلِّقةِ بذلك [48] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/77). .
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9).
أي: ارتَدِعوا وانزَجِروا عن الكُفْرِ برَبِّكم ومَعْصيتِه، فالواجِبُ في حَقِّ مَن خَلَقَكم فسَوَّاكم وعَدَلَكم وصَوَّرَكم: طاعتُه وشُكْرُه؛ فلا عُذْرَ لكم في تَرْكِ ذلك، وإنَّما الَّذي يَحمِلُكم على تَرْكِه هو تكذيبُكم باليومِ الآخِرِ الَّذي يُحاسَبُ فيه النَّاسُ، ويُجازَونَ على أعمالِهم [49] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/77)، ((تفسير ابن كثير)) (8/344)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/305)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/178، 179)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 90). .
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10).
أي: وإنَّ عليكم -أيُّها النَّاسُ- ملائِكةً حافِظينَ يُراقِبونَكم، ولا يُضَيِّعونَ شَيئًا مِن أعمالِكم [50] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/181)، ((تفسير القرطبي)) (19/247)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/179، 180)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 90). ممَّن اختار أنَّ معنى: (حَافِظِينَ): يَحفَظونَ أعمالَ النَّاسِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، والبغوي، وابن عطية، والبِقاعي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/613)، ((تفسير ابن جرير)) (24/181)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1181)، ((تفسير البغوي)) (5/220)، ((تفسير ابن عطية)) (5/447)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/305)، ((تفسير الشوكاني)) (5/480). .
كِرَامًا كَاتِبِينَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أثبَتَ لهم الحِفظَ، نَزَّهَهم عن الزِّيادةِ والنَّقْصِ، فقال [51] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/305). :
كِرَامًا كَاتِبِينَ (11).
أي: هم ذَوُو كَمالٍ وَجمالٍ في صِفاتِهم الخِلْقِيَّةِ والخُلُقِيَّةِ، لا يَظلِمونَكم، ويَكتُبونَ جميعَ أعمالِكم [52] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/181)، ((تفسير ابن عطية)) (5/447)، ((تفسير ابن كثير)) (8/344)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914)، ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/423)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 90). .
كما قال تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17-18] .
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أفهَمَ الاستعلاءُ والتَّعبيرُ بالوَصْفِ -في قَولِه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ- إحاطةَ الاطِّلاعِ على ما يَبرُزُ مِنَ الأعمالِ؛ صَرَّحَ به فقال [53] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/306). :
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12).
أي: يَعلَمُ أولئك الملائِكةُ المُوَكَّلونَ بكِتابةِ أعمالِكم كُلَّ ما تَفعَلونَه؛ مِن قَولٍ أو فِعلٍ، خيرٍ أو شَرٍّ، ظاهِرٍ أو باطِنٍ [54] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/182)، ((البسيط)) للواحدي (23/299)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/561)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/180). قال ابنُ عثيمين: (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إمَّا بالمشاهَدةِ إنْ كان فِعلًا، وإمَّا بالسَّماعِ إن كان قولًا، بل إنَّ عَمَلَ القَلبِ يُطلِعُهم اللهُ عليه فيَكتُبونَه، كما قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «مَن هَمَّ بالحَسَنةِ فلم يَعمَلْها كُتِبَت حسَنةً، ومَن هَمَّ بالسَّيِّئةِ ولم يَعمَلْها كُتِبَت حَسَنةً كامِلةً» [البخاريُّ «6491»، ومسلم «131»]). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 90). ويُنظر ما يأتي في الفوائدِ (ص: 388). .

الفوائد التربوية:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ، يَعني: أيُّها الغافِلُ، وَراءَك هذا الخَطْبُ الجَسيمُ، والخَطَرُ العَظيمُ، وأنت قد اغتَرَرْتَ بما تَكرَّمَ عليْك رَبُّك، حيثُ خَلَقَك فسَوَّاك فعَدَلَك، في أيِّ صُورةٍ ما شاء رَكَّبَك، فاشتَغَلْتَ بذلك عن التَّزوُّدِ لدارِ القَرارِ، وأَخْلَدتَ إلى دارِ الغُرورِ.
ولَمَّا كان مُؤدَّى غَفلةِ الإنسانِ الاغْتِرارَ إلى الذُّهولِ عن المُستقَرِّ الأَصليِّ، نَزَّلَه مَنزِلةَ التَّكْذيبِ بيَومِ الدِّينِ، حتَّى أضرَبَ عنه بقولِه: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وهذا كما تَرى مِن حالِ المُتَمادي في أُمورِ الدُّنيا مِن المُتَسمَّينَ بالإسلامِ، إذا سَمِعَ شَيئًا مِن أَمرِ الآخِرةِ تَقَبَّضَ واشْمَأزَّ؛ لِغايةِ انهِماكِه في لَذَّاتِ العاجِلةِ [55] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/325). قال ابنُ كثيرٍ: (قوله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ هذا تهديدٌ، لا كما يتوهَّمُه بعضُ النَّاسِ مِن أنَّه إرشادٌ إلى الجوابِ؛ حيثُ قال: الْكَرِيمِ حتَّى يقولَ قائلُهم: غرَّه كرمُه. بل المعنَى في هذه الآيةِ: ما غرَّك يا ابنَ آدمَ بربِّك الكريمِ -أي: العظيمِ- حتَّى أقدمْتَ على معصيتِه، وقابلْتَه بما لا يَليقُ؟). ((تفسير ابن كثير)) (8/341). . وهذا على أنَّ قولَه: الْإِنْسَانُ -هنا- يَشملُ جميعَ العُصاةِ.
2- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ أنَّه قد أقام اللهُ عليكم ملائِكةً كِرامًا يَكتُبونَ أقوالَكم وأفعالَكم، ويَعلَمونَ أفعالَكم، ودَخَل في هذا أفعالُ القُلوبِ وأفعالُ الجوارحِ، فاللَّائِقُ بكم أن تُكرِموهم وتُجِلُّوهم وتحتَرِموهم [56] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 914). ، فعلى المسلِمِ إذا خلا بالأمرِ وسَوَّل له الشَّيطانُ أن يَفعَلَ فاحِشةً لأنَّ النَّاسَ لا يَرَونَه، وأنَّه لا يَطَّلِعُ عليه أحدٌ، كالَّذي يخلو بامرأةٍ في محَلٍّ مقفولٍ، يأمَنُ عُيونَ النَّاسِ فيه، فيُسوِّلُ له الشَّيطانُ الرِّيبةَ معها- عليه أن يَنظُرَ أنَّ اللهَ رَقيبٌ عليه، وأنَّ الملائكةَ الكِرامَ معه فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف: 7] ، وعلى الشَّخصِ أن يَعبُدَ اللهَ كأنَّه يراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنَّه يراك [57] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/484). .
3- يُنتَزَعُ مِن قَولِه تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ أنَّ هذه الصِّفاتِ الأربَعَ هي عِمادُ الصِّفاتِ المشروطةِ في كُلِّ مَن يقومُ بعَمَلٍ للأمَّةِ في الإسلامِ مِنَ الوُلاةِ وغَيرِهم؛ فإنَّهم حافِظونَ لمصالحِ ما استُحفِظوا عليه، وأوَّلُ الحِفظِ: الأمانةُ وعَدَمُ التَّفريطِ، ولا بُدَّ فيهم مِن الكَرَمِ: وهو زَكاءُ الفِطرةِ، أي: طَهارةُ النَّفْسِ، ومِنَ الضَّبطِ فيما يَجري على يديه بحيثُ لا تُضَيَّعُ المصالِحُ العامَّةُ ولا الخاصَّةُ، بأن يكونَ ما يُصدِرُه مكتوبًا أو كالمكتوبِ، مضبوطًا لا يُستطاعُ تَغييرُه، ويمكِنُ لكُلِّ مَن يقومُ بذلك العَمَلِ بعدَ القائِمِ به أو في مَغِيبِه أن يَعرِفَ ماذا أُجرِيَ فيه مِن الأعمالِ، وهذا أصلٌ عَظيمٌ في وَضعِ الملفَّاتِ للنَّوازِلِ والتَّراتيبِ، ومنه نشَأَتْ دواوينُ القُضاةِ، ودفاتِرُ الشُّهودِ، والخِطابُ على الرُّسومِ، وإخراجُ نُسَخِ الأحكامِ والأحباسِ وعُقودِ النِّكاحِ؛ ومِن إحاطةِ العِلمِ بما يَتعَلَّقُ بالأحوالِ الَّتي تُسنَدُ إلى المؤتَمَنِ عليها بحيثُ لا يستطيعُ أحدٌ مِنَ المخالِطينَ لوَظيفةٍ أن يُمَوِّهَ عليه شيئًا، أو أن يُلَبِّسَ عليه حقيقةً، بحيث يَنتفي عنه الغَلَطُ والخطَأُ في تمييزِ الأُمورِ بأقصى ما يمكِنُ، ويختَلِفُ العِلمُ المطلوبُ باختِلافِ الأعمالِ، فيُقَدَّمُ في كُلِّ ولايةٍ مَن هو أعلَمُ بما تقتضيه وِلايتُه مِن الأعمالِ، وما تتوَقَّفُ عليه مِن المواهِبِ والدِّرايةِ؛ فليس ما يُشتَرَطُ في القاضي يُشتَرَطُ في أميرِ الجَيشِ مَثَلًا، وبمِقْدارِ التَّفاوُتِ في الخِصالِ الَّتي تقتَضيها إحدى الوِلاياتِ يكونُ ترجيحُ مَن تُسنَدُ إليه الوِلايةُ على غيرِه؛ حِرصًا على حِفظِ مَصالحِ الأُمَّةِ، فيُقَدَّمُ في كُلِّ وِلايةٍ مَن هو أقوى كَفاءةً لإتقانِ أعمالِها، وأشَدُّ اضْطِلاعًا بممارستِها [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/180، 181). .
فالآيةُ كأنَّها توجيهٌ لِما ينبغي لوُلاةِ الأُمورِ مُراعاتُه في استِكتابِ الكُتَّابِ والأُمَناءِ؛ ولذا قالوا: على القاضي أن يتخَيَّرَ كاتِبًا أمينًا، حَسَنَ الخَطِّ، فاهِمًا [59] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/451). .
4- لا ألأَمَ ممَّن لا يَستَحي مِن الكريمِ العَظيمِ القَدْرِ، ولا يُجِلُّه ولا يُوَقِّرُه، وقد نَبَّه سُبحانَه على لزومِ الاستحياءِ ممَّن لا يُفارِقُنا مِن الملائكةِ وإكرامِهم بقَولِه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ، أي: استَحْيُوا مِن هؤلاءِ الحافظِينَ الكرامِ، وأكرِموهم وأَجِلُّوهم أنْ يَرَوْا منكم ما تَستحْيُونَ أنْ يَراكم عليه مَن هو مِثْلُكم، والملائكةُ تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منه بنو آدمَ، وإذا كان ابنُ آدم يتأذَّى ممَّن يَفْجُرُ ويَعْصِي بيْن يَدَيه، وإنْ كان يَعمَلُ مِثلَ عَمَلِه، فما الظَّنُّ بأذَى الملائكةِ الكرامِ الكاتبِينَ؟! واللهُ المستعانُ [60] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 108). .
5- عن عطاءِ بنِ أبي رباحٍ: (إنَّ مَن كان قبلَكم كانوا يكرَهونَ فُضولَ الكلامِ، وكانوا يعدُّونَ فضولَ الكلامِ ما عدا كتابَ الله تعالى أنْ يُقرأَ، أو أمرًا بمعروفٍ أو نهيًا عن منكرٍ، أو تنطِقَ في حاجتِك في معيشتِك التي لا بدَّ لك منها، أتُنكِرونَ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17-18] ؟! أمَا يَسْتحي أحدُكم لو نُشِرتْ عليه صحيفتُه التي أملاها صدرَ نهارِه أكثرَ ما فيها ليس مِن أمرِ دينِه ولا دُنياه؟!) [61] أخرجه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/315). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ سؤالٌ: أنَّ بِناءَ هذا الاستدلالِ على أنَّه تعالى حكيمٌ؛ ولذلك قال في سورةِ (التِّينِ) بعدَ هذا الاستِدلالِ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8] ، فلِمَ لَمْ يَقُلْ في هذه السُّورةِ: «ما غَرَّك برَبِّك الحكيمِ»؟
الجوابُ: أنَّ الكريمَ يَجِبُ أن يكونَ حَكيمًا؛ لأنَّ إيصالَ النِّعمةِ إلى الغَيرِ لو لم يكُنْ مبنيًّا على داعيةِ الحِكمةِ لَكان ذلك تبذيرًا لا كَرَمًا، أمَّا إذا كان مَبنيًّا على داعيةِ الحِكمةِ فحينَئذٍ يُسَمَّى كَرَمًا [62] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/74). .
2- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ إنْ قيلَ: ما مُناسَبةُ وَصْفِه بالكريمِ هنا للتَّوبيخِ على الغُرورِ؟
فالجوابُ: أنَّ الكريمَ يَنبغي أن يُعبَدَ ويُطاعَ؛ شُكرًا لإحسانِه، ومُقابلةً لكَرَمِه، ومَن لم يفعَلْ ذلك فقد كَفَر النِّعْمةَ، وأضاع الشُّكرَ الواجِبَ [63] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/458). قال ابنُ كثيرٍ: (أتَى باسمِه الْكَرِيمِ ؛ ليُنبِّهَ على أنَّه لا ينبغي أنْ يُقابَلَ الكريمُ بالأفعالِ القبيحةِ، وأعمالِ السوءِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/342). وقال ابنُ القيِّم: (قد يقولُ بعضُهم: إنَّه لقَّن المغترَّ حُجَّتَه، وهذا جهلٌ قبيحٌ، وإنَّما غرَّه بربِّه الغَرورُ، وهو الشَّيطانُ، ونفسُه الأمَّارةُ بالسُّوءِ وجهلُه وهواه، وأتَى سبحانَه بلفظِ الْكَرِيمِ وهو السيدُ العظيمُ المطاعُ، الذي لا ينبغي الاغترارُ به، ولا إهمالُ حقِّه، فوضَع هذا المغترُّ الغرورَ في غيرِ موضعِه، واغترَّ بمَن لا ينبغي الاغترارُ به). ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) (ص: 24). .
3- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ سؤالٌ: أنَّ كَونَه سُبحانَه كريمًا يَقتضي أن يغتَرَّ الإنسانُ بكَرَمِه؛ فكيف جعَلَه هاهنا مانعًا مِن الاغترارِ به؟!
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
أحدُها: أنَّ معنى الآيةِ: أنَّك لَمَّا كنتَ ترى حِلْمَ اللهِ على خَلْقِه ظنَنْتَ أنَّ ذلك لأنَّه لا حِسابَ، ولا دارَ إلَّا هذه الدارُ، فما الَّذي دعاك إلى هذا الاغترارِ، وجَرَّأك على إنكارِ الحَشرِ والنَّشرِ؟! فإنَّ رَبَّك كريمٌ، فهو لكَرَمِه لا يُعاجِلُ بالعُقوبةِ؛ بَسطًا في مُدَّةِ التَّوبةِ، وتأخيرًا للجزاءِ إلى أن يَجمَعَ النَّاسَ في الدَّارِ الَّتي جعَلَها لهم للجَزاءِ. فالحاصِلُ أنَّ تَرْكَ المعاجَلةِ بالعُقوبةِ مِن أجْلِ الكَرَمِ، وذلك لا يَقتضي الاغترارَ بأنَّه لا دارَ بعْدَ هذه الدَّارِ.
ثانيها: أنَّ كَرَمَه لَمَّا بلغ إلى حيثُ لا يَمنَعُ مِن العاصي موائِدَ لُطْفِه، فبِأَنْ ينتَقِمَ للمَظلومِ مِنَ الظَّالمِ كان أَوْلى، فإذَنْ كَونُه كريمًا يَقتضي الخَوفَ الشَّديدَ مِن هذا الاعتِبارِ، وتَرْكَ الجَراءةِ والاغترارِ.
ثالِثُها: أنَّ كَثرةَ الكرَمِ تُوجِبُ الجِدَّ والاجتِهادَ في الخِدْمةِ، والاستِحياءَ مِن الاغترارِ والتَّواني [64] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/75). .
4- قال تعالى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ على القولِ بأنَّ كَلَّا إِبْطَالٌ لِوُجُودِ مَا يَغُرُّ الإنسانَ أنْ يُشْرِكَ باللَّهِ فالآيةُ بَيانٌ لِما جَرَّأهم على الإشراكِ، وأنَّه ليس غُرورًا؛ إذ لا شُبهةَ لهم في الإشراكِ حتَّى تكونَ الشُّبهةُ كالغُرورِ، ولكِنَّهم أصَرُّوا على الإشراكِ؛ لأنَّهم حَسِبوا أنفُسَهم في مأمَنٍ مِن تَبِعَتِه، فاختاروا الاستمرارَ عليه لأنَّه هوى أنفُسِهم، ولم يعبَؤوا بأنَّه باطِلٌ صُراحٌ، فهم يُكَذِّبونَ بالجَزاءِ؛ فذلك سَبَبُ تصميمِ جَميعِهم على الشِّركِ مع تفاوُتِ مَدارِكِهم الَّتي لا يَخفى على بَعْضِها بُطلانُ كَونِ الحِجارةِ آلهةً، ألَا ترى أنَّهم ما كانوا يَرَونَ العَذابَ إلَّا عذابَ الدُّنيا؟! وعلى هذا الوَجهِ يكونُ فيه إشارةٌ إلى أنَّ إنكارَ البَعثِ هو جِماعُ الإجرامِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/178). .
5- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ سُؤالٌ: ما الحِكمةُ في أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ وَكَّلَ بنا كِرامًا كاتِبينَ، يَعلَمونَ ما نَفْعَلُ، مع أنَّ اللهَ تعالى يَعلَمُ كُلَّ شَيءٍ؟
الجوابُ: الحِكمةُ مِن ذلك بيانُ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى نَظَّمَ الأشياءَ وقَدَّرَها، وأَحْكَمَها إحكامًا مُتقَنًا، حتَّى إنَّه سُبحانَه وتعالى جَعَلَ على أفعالِ بني آدمَ وأقوالِهم كِرامًا كاتبِينَ مُوَكَّلِينَ بهم يَكتُبونَ ما يَفعَلونَ، مع أنَّه سُبحانَه وتعالى عالِمٌ بما يَفعَلونَ قبْلَ أنْ يَفعَلوه، ولكِنْ كلُّ هذا مِن أجْلِ بيانِ كَمالِ عِنايةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ بالإنسانِ، وكمالِ حِفْظِه تبارك وتعالى، وأنَّ هذا الكونَ مُنَظَّمٌ أحسَنَ نِظامٍ، ومُحْكَمٌ أحسنَ إحكامٍ، واللهُ عَليمٌ حَكيمٌ [66] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (1/179). .
6- قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ أنَّ وَصْفَ اللهِ إيَّاهم بهذه الصِّفاتِ يدُلُّ على أنَّه تعالى أثنى عليهم، وعَظَّم شَأْنَهم، وفي تَعظيمِ الكَتَبةِ بالثَّناءِ عليْهم تَعظيمٌ لأَمرِ الجَزاءِ، وأنَّه عندَ اللهِ مِن جَلائلِ الأُمورِ، ولولا ذلك لَما وَكَّلَ بضَبطِ ما يُحاسِبُ عليه ويُجازي به المَلائكةَ الكِرامَ، الحَفَظةَ الكَتَبةَ [67] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/716)، ((تفسير الرازي)) (31/78)، ((تفسير البيضاوي)) (5/293)، ((تفسير أبي حيان)) (10/422)، ((تفسير أبي السعود)) (9/122). .
7- ثَبَت عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ مَن هَمَّ بالحَسَنةِ فلمْ يَعمَلْها كُتِبَت حَسَنةً، ومَن هَمَّ بالسَّيِّئةِ فلم يَعمَلْها كُتِبَت حَسَنةً [68] أخرجه البخاريُّ (6491)، ومسلمٌ (131) مطوَّلًا من حديث عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما. ، والمعروفُ أنَّ الَّذي يَكتُبُ هم الملائِكةُ؛ قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ، وعلى هذا فيكونُ الملائكةُ عندَهم اطِّلاعٌ على ما في القَلبِ، ولا غرابةَ في ذلك؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ يقولُ في كتابِه الكريمِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16] ، فهو سُبحانَه عالِمٌ بذلك، ويجوزُ أنْ يُطْلِعَ اللهُ هؤلاء الملائكةَ على ما عَلِمَه مِن حالِ الشَّخصِ، ويكونُ عِلْمُهم بذلك بواسطةٍ مِن عِلْمِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، ويجوزُ أنْ يَعلَموا ذلك بما يَحصُلُ للقلبِ مِن حركةٍ؛ لأنَّ الهَمَّ حركةُ القَلبِ، فهو يَهُمُّ بالشَّيءِ أي: يتحَرَّكُ، فيَعلَمونَ ما يَحصُلُ بحركةِ القلبِ، وإذا كان الشَّيطانُ يجري مِن ابنِ آدمَ مجرى الدَّمِ، ويَصِلُ إلى شَغَافِ قلْبِه؛ فلا غَرْوَ أنْ يَعْلَمَ الملائِكةُ بما يَحْدُثُ للإنسانِ في قلْبِه [69] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/427). .
8- في قَولِه تعالى: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ أنَّهم يَعلَمونَ تلك الأفعالَ حتَّى يُمكِنَهم أن يَكتُبوها، وهذا تنبيهٌ على أنَّ الإنسانَ لا يجوزُ له الشَّهادةُ إلَّا بعْدَ العِلْمِ [70] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/78). .
9- في قَولِه تعالى: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ قال الحُسَينُ بنُ الفَضلِ: (حيثُ قال: يَعْلَمُونَ ولم يَقُلْ: «يَكْتُبونَ» دَلَّ على أنَّه لا يُكتَبُ الجميعُ، فيَخرجُ عنه السَّهوُ والخَطَأُ، وما لا تَبِعةَ فيه) [71] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/422). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ
- قولُه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ استِئْنافٌ ابتِدائيٌّ؛ لأنَّ ما قبْلَه بمَنزِلةِ المُقدِّمةِ له؛ لتَهيِئةِ السَّامِعِ لتَلقِّي هذه المَوعِظةِ؛ لأنَّ ما سَبَقَه مِن التَّهويلِ والإنْذارِ يُهيِّئُ النَّفْسَ لقَبولِ المَوعِظةِ؛ إذ المَوعِظةُ تَكونُ أشَدَّ تَغَلْغُلًا في القَلبِ حينَئذٍ؛ لِما يَشعُرُ به السَّامعُ مِن انكِسارِ نفْسِه، ورِقَّةِ قَلْبِه، فيَزولُ عنه طُغيانُ المُكابَرةِ والعِنادِ، فخَطَرَ في النُّفوسِ تَرقُّبُ شَيءٍ بعْدَ ذلك [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/173). .
- والنِّداءُ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ؛ للتَّنبيهِ تَنبيهًا يُشعِرُ بالاهتِمامِ بالكَلامِ والاستِدعاءِ لسَماعِه، فليس النِّداءُ مُرادًا به طَلَبُ إقْبالٍ، ولا هو موَجَّهٌ لشَخصٍ مُعيَّنٍ أو جَماعةٍ مُعيَّنةٍ، بل مِثلُه يَجعَلُه المُتكلِّمُ مُوجَّهًا لكُلِّ مَن يَسمَعُه بقَصْدٍ أو بغَيرِ قَصْدٍ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/173). .
- وتعريفُ (الإنسانِ) في قولِه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ قيل: هو تَعريفُ الجِنسِ، يُرادُ به العُمومُ، وهذا العُمومُ مُرادٌ به الَّذين أنْكَروا البَعثَ؛ بدَلالةِ وُقوعِه عَقِبَ الإنذارِ بحُصولِ البَعثِ، ويدُلُّ على ذلك قولُه بعْدَه: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: 9]؛ فالمَعنى: يا أيُّها الإنسانُ الَّذي أَنكَرَ البَعثَ، ولا يَكونُ مُنكِرُ البَعثِ إلَّا مُشرِكًا؛ لأنَّ إنْكارَ البَعثِ والشِّركِ مُتلازِمان يَومَئذٍ، فهو مِن العامِّ المُرادِ به الخُصوصُ بالقَرينةِ، أو مِن الاستِغراقِ العُرفيِّ؛ لأنَّ جُمهورَ المُخاطَبينَ في ابتِداءِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ هم المُشرِكون [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/173، 174). .
وقيل: المقصودُ بالإنسانِ العُمومُ؛ وذلك أنَّ قولَه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إلى قولِه: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ كالاعتِراضِ بيْنَ قَرينتَيِ الجَمْعِ والتَّقسيمِ؛ فإنَّ قولَه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ عامٌّ اشتَملَ على الفُجَّارِ والأبْرارِ، وقولَه: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ تَقسيمٌ تَضمَّنَ مَعنى التَّفريقِ [75] الجمْعُ والتَّقسيمُ والتَّفريقُ: أنْ يُجمعَ بيْنَ مُتعدِّدٍ فى حُكمٍ، ثمَّ يُفرَّقَ -أى: يُوقعَ التَّبايُنُ بيْنَها-، ثمَّ يُضافَ لكلِّ واحدٍ ما يُناسِبُه؛ كقولِه تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: 105] الآياتِ؛ فالجمعُ في قولِه: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ لأنَّها مُتعدِّدةٌ معنًى؛ إذِ النَّكرةُ في سياقِ النَّفْيِ تَعُمُّ. والتَّفريقُ في قولِه: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105] . والتَّقسيمُ في قولِه: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا [هود: 106] وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا [هود: 108] . يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/315)، ((حاشية الدسوقي على مختصر المعاني)) (4/71). ؛ فإنَّه تعالى لَمَّا بيَّنَ أحوالَ القيامةِ بانفِطارِ السَّماءِ، وانتِثارِ الكَواكِبِ، وانفِجارِ الأبحُرِ، والبَعثِ عن القُبورِ، ثمَّ اطِّلاعِ كُلِّ نفْسٍ بَرِّها وفاجِرِها على عمَلِها، خَيرِها وشَرِّها؛ نَبَّهَ جِنسَ الإنسانِ عن رَقدةِ الغَفلةِ وسِنَةِ الجَهالةِ بقولِه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ [76] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/325). .
- وإيثارُ تَعريفِ اللهِ بوَصْفِ (رَبِّك) دُون ذِكرِ اسمِ الجَلالةِ؛ لِما في مَعنى الرَّبِّ مِن المِلْكِ والإنشاءِ والرِّفْقِ؛ ففيه تَذْكيرٌ للإنسانِ بمُوجِباتِ استِحقاقِ الرَّبِّ طاعةَ مَربوبِه؛ فهو تَعريضٌ بالتَّوبيخِ [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/175). .
- وإجراءُ وصْفِ الكريمِ دونَ غيرِه مِن صِفاتِ اللهِ؛ للتَّذْكيرِ بنِعمتِه على النَّاسِ ولُطفِه بِهم؛ فإنَّ الكَريمَ حَقيقٌ بالشُّكرِ والطَّاعةِ، وأيضًا فذِكْرُ الكريمِ والتَّعرُّضُ لعُنوانِ كَرَمِه تعالَى؛ للمُبالَغةِ في المنعِ عنِ الاغترارِ؛ فإنَّ مَحْضَ الكرَمِ لا يَقتضي إهمالَ الظَّالمِ، وتسويةَ المُوالي والمُعادِي، والمُطيعِ والعاصي؛ فهو للإيذانِ بأنَّه ليس ممَّا يَصلُحُ أنْ يَكونَ مَدارًا لاغتِرارِه؛ يُغْويه الشَّيطانُ ويَقولُ له: افعَلْ ما شِئتَ؛ فإنَّ رَبَّك كَريمٌ، قد تَفضَّلَ عليْك في الدُّنيا، وسيَفعَلُ مِثْلَه في الآخِرةِ، ولا يُعذِّبُ أحدًا ولا يُعاجِلُ بالعقوبةِ؛ فإنَّه قِياسٌ عَقيمٌ، وتَمنِيةٌ باطِلةٌ، بل هو ممَّا يُوجِبُ المبالَغةَ في الإقْبالِ على الإيمانِ والطَّاعةِ، والاجتِنابِ عن الكُفرِ والعِصيانِ، كأنَّه قيلَ: ما حَمَلَك على عِصيانِ رَبِّك المَوصوفِ بالصِّفاتِ الزَّاجِرةِ عنه الدَّاعِيةِ إلى خِلافِه؟! فهو تَعْييرٌ وتَوبيخٌ، وليس بإطْماعٍ؛ فالدَّلالةُ على كَثرةِ كرَمِه تَستدعِي الجِدَّ في طاعتِه، لا الانهماكَ في عِصيانِه اغترارًا بكَرمِه [78] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/715)، ((تفسير البيضاوي)) (5/292)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/323، 324)، ((تفسير أبي حيان)) (10/421)، ((تفسير أبي السعود)) (9/121)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/175). .
- وقولُه: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ صِفةٌ ثانيةٌ مُقرِّرةٌ للرُّبوبيَّةِ، مُبيِّنةٌ للكَرَمِ، مُنبِّهةٌ على أنَّ مَن قَدَرَ على ذلك بَدْءًا قَدَرَ عليه إعادةً [79] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/121). .
- والوَصفُ الثَّالثُ الَّذي تَضمَّنَتْه الصِّلةُ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ جامِعٌ لكَثيرٍ ممَّا يُؤذِنُ به الوَصْفانِ الأوَّلانِ خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ؛ فإنَّ الخَلْقَ والتَّسوِيةَ والتَّعديلَ وتَحسينَ الصُّورةِ مِن الرِّفْقِ بالمَخلوقِ، وهي نِعَمٌ عليه، وجَميعُ ذلك تَعريضٌ بالتَّوبيخِ على كُفرانِ نِعمتِه بعِبادةِ غَيرِه [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/175). .
- قولُه: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فيه تَعدادُ الصِّلاتِ وإنْ كان بَعضُها قد يُغْني عن ذِكرِ بعضٍ؛ فإنَّ التَّسوِيةَ حالةٌ مِن حالاتِ الخَلْقِ، وقد يُغْني ذِكرُها عن ذِكرِ الخَلْقِ، كقولِه: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [البقرة: 29] ، ولكنْ قُصِدَ إظْهارُ مَراتبِ النِّعمةِ، وهذا مِن الإطْنابِ المَقصودِ به التَّذْكيرُ بكُلِّ صِلةٍ، والتَّوقيفُ عليْها بخُصوصِها، ومِن مُقتَضياتِ الإطْنابِ مَقامُ التَّوبيخِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/175). .
- وفُرِّعَ فِعلُ (سَوَّاكَ) على خَلَقَكَ، وفِعلُ (عَدَلَكَ) على (سَوَّاكَ) تَفْريعًا في الذِّكرِ؛ نَظَرًا إلى كَونِ مَعانيها مُترتِّبةً في اعتِبارِ المُعتبِرِ، وإنْ كان جَميعًا حاصِلًا في وَقتٍ واحِدٍ؛ إذ هي أطْوارُ التَّكْوينِ مِن حِينِ كَونِه مُضْغةً إلى تَمامِ خَلْقِه، فكان للفاءِ في عَطفِها أحسَنُ وَقْعٍ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/176). .
- قولُه: فَعَدَلَكَ قُرِئَ بتَشْديدِ الدَّالِ، وقُرِئ بتَخفيفِها، وهُما مُتَقارِبان، إلَّا أنَّ التَّشْديدَ يَدُلُّ على المُبالَغةِ في العَدْلِ -أي: التَّسوِيةِ- فيُفيدُ إتْقانَ الصُّنْعِ [83] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/176). .
- والاستِفهامُ فِي أَيِّ صُورَةٍ مُرادٌ به الكِنايةُ عن التَّعجُّبِ أو التَّعجيبِ مِن شأْنِ ما أُضِيفتْ إليه (أيّ)؛ لأنَّ الشَّيءَ إذا بلَغَ مِن الكَمالِ والعظَمةِ مَبلغًا قَويًّا يُتساءلُ عنه، ويُستفَهمُ عن شأْنِه، ومِن هنا نشَأَ معْنى دَلالةِ (أيّ) على الكَمالِ [84] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/176). .
- قولُه: فِي أَيِّ صُورَةٍ، أي: في صُورةٍ أيِّ صورةٍ، أي: في صُورةٍ كامِلةٍ بَديعةٍ [85] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/716)، ((تفسير أبي حيان)) (10/422)، ((تفسير أبي السعود)) (9/121)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/177). .
- وحرفُ (فِي) للظَّرفيَّةِ الَّتي هي بمَعنى المُلابَسةِ، أي: خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ مُلابِسًا صُورةً عَجيبةً، فمَحَلُّ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَحَلُّ الحالِ مِن (كافِ) الخِطابِ، وعامِلُ الحالِ (عَدَلَكَ)، أو (رَكَّبَكَ)، فجُعِلَتِ الصُّورةُ العَجيبةُ كالظَّرفِ للمُصوَّرِ بها؛ للدَّلالةِ على تَمكُّنِها مِن مَوصوفِها [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/177). .
- وقولُه: مَا شَاءَ رَكَّبَكَ بَيانٌ؛ فإنَّه لَمَّا قيلَ: فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ على التَّعجُّبِ والتَّنكيرِ للتَّفخيمِ، قيلَ: ما ذلك التَّعديلُ المُفخَّمُ، العَجيبُ الشَّأنِ؟ وأُجيبَ: لا يُحيطُ الوَصفُ بذلك؛ فإنَّه كما شاءَ اللهُ رَكَّبَك، ولا يَعلَمُ ذلك إلَّا هو [87] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/716)، ((تفسير البيضاوي)) (5/292)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/328)، ((تفسير أبي حيان)) (10/422)، ((تفسير أبي السعود)) (9/ 121)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/177). .
- و(مَا) يَجوزُ أنْ تَكونَ مَوصولةً، ماصَدَقَها [88] الماصَدَق: اسمٌ صِناعيٌّ مأخوذٌ في الأصلِ مِن كَلِمةِ (ما) الاستِفهاميَّةِ أو المَوصوليَّةِ، وكَلِمةِ (صَدَق) الَّتي هي فِعلٌ ماضٍ مِنَ الصِّدقِ، كأنْ يُقالَ مَثَلًا: على ماذا صَدَق هذا اللَّفظُ؟ فيُقالُ في الجوابِ: صدَقَ على كذا أو كذا؛ فاشتَقُّوا مِن ذلك أو نَحَتوا كَلِمةَ (ماصَدَق)، والمرادُ: الفَردُ أو الأفرادُ الَّتي يَنطَبِقُ عليها اللَّفظُ، أو: الأفرادُ الَّتي يَتحَقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ. يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/511). : تَركيبٌ، وهي في مَوضِعِ نَصبٍ على المَفعوليَّةِ المُطلَقةِ، و(شَاءَ) صِلةُ (مَا)، والعائِدُ مَحذوفٌ، تَقديرُه: شاءَه، والمَعنى: رَكَّبَك التَّركيبَ الَّذي شاءَه. وعُدِلَ عن التَّصريحِ بمَصدَرِ رَكَّبَكَ إلى إبهامِه بـ (ما) المَوصولةِ؛ للدَّلالةِ على تَقْحيمِ المَوصولِ بـ (ما) في صِلَتِه مِن المَشيئةِ المُسنَدةِ إلى ضَميرِ الرَّبِّ الخَالِقِ المُبدِعِ الحَكيمِ، وناهيكَ بِها. ويَجوزُ أنْ تَكونَ جُملةُ شَاءَ صِفةً لـ صُورَةٍ، والرَّابطُ مَحذوفٌ، و(مَا) مَزيدةٌ للتَّأكيدِ، والتَّقديرُ: في صورةٍ عَظيمةٍ شاءَها مَشيئةً مُعيَّنةً، أي: عن تَدبيرٍ وتَقديرٍ [89] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/292)، ((تفسير أبي السعود)) (9/121)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/177)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/403). .
2- قولُه تعالَى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ
- وكَلَّا ردْعٌ عن الاغترارِ بكرَمِ اللهِ تعالَى، وجعْلِه ذَريعةً إلى الكُفرِ والمعاصِي، مع كَونِه مُوجِبًا للشُّكرِ والطَّاعةِ، وقولُه: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إضْرابٌ عن جُملةٍ مُقدَّرةٍ يَنْساقُ إليها الكَلامُ، كأنَّه قيلَ بعْدَ الرَّدْعِ بطَريقِ الاعتِراضِ: وأنتم لا تَرتَدِعون عن ذلك، بل تَجتَرِئون على أَعظَمَ مِن ذلك، حيثُ تُكَذِّبون بالجَزاءِ والبَعثِ رأْسًا، أو بدِينِ الإسلامِ الَّذي هُمَا مِن جُملةِ أحْكامِه، فلا تُصدِّقون سُؤالًا ولا جَوابًا، ولا ثَوابًا ولا عِقابًا. وقيلَ: كأنَّه قيلَ: إنَّكم لا تَستَقيمون على ما تُوجِبُه نِعَمي عليْكم، وإرْشادي لكُم، بل تُكذِّبون... إلخ. وقيلَ: ليس الأمرُ كما تَقولون مِن أنَّه لا بَعثَ ولا نُشورَ، ثمَّ قيلَ: أنتم لا تَتَبيَّنون بهذا البَيانِ، بل تُكذِّبون بيَومِ الدِّينِ. وقولُه: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ فيه تَرَقٍّ مِن الأَهوَنِ إلى الأَغلَظِ [90] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/716)، ((تفسير البيضاوي)) (5/292)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/329)، ((تفسير أبي حيان)) (10/422)، ((تفسير أبي السعود)) (9/121). .
وقيل: كَلَّا رَدْعٌ عمَّا هو غُرورٌ بالله، أو كالغُرورِ، ممَّا تَضمَّنَه قولُه: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] مِن حُصولِ ما يَغُرُّ الإنسانَ بالشِّركِ، ومِن إعْراضِه عن نِعَمِ اللهِ تعالى بالكُفرِ، أو مِن كَونِ حالةِ المُشرِكِ كحالةِ المَغرورِ، والمَعنى: إشْراكُك بخالِقِك باطِلٌ، وهو غُرورٌ، أو كالغُرورِ، ويكون قولُه: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ بعدَ كَلَّا إضْرابًا انتِقاليًّا مِن غَرَضِ التَّوبيخِ والزَّجرِ على الكُفرِ إلى ذِكرِ جُرْمٍ فَظيعٍ آخَرَ، وهو التَّكذيبُ بالبَعثِ والجَزاءِ، ويَشملُه التَّوبيخُ بالزَّجرِ بسَببِ أنَّه مَعطوفٌ على تَوبيخٍ وزَجْرٍ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ كَلَّا إبْطالًا لوُجودِ ما يَغُرُّ الإنسانَ أنْ يُشرِكَ باللهِ، أي: لا عُذرَ للإنسانِ في الإشراكِ باللهِ؛ إذ لا يُوجَدُ ما يَغُرُّه به، ويَكونَ قولُه: بَلْ تُكَذِّبُونَ إضْرابًا إبْطاليًّا، وما بعْدَ بَلْ بَيانًا لِما جَرَّأَهم على الإشراكِ، وأنَّه ليس غُرورًا [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/178). .
- وفي صِيغةِ المُضارعِ مِن قولِه: تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إفادةُ أنَّ تَكذيبَهم بالجَزاءِ مُتَجدِّدٌ لا يُقلِعون عنه، وهو سَببُ استِمرارِ كُفرِهم. وفي المُضارعِ أيضًا استِحضارُ حالةِ هذا التَّكذيبِ استِحضارًا يَقتَضي التَّعجيبَ مِن تَكذيبِهم؛ لأنَّ معهم مِن الدَّلائلِ ما حَقُّه أنْ يقلِعَ تَكذيبَهم بالجَزاءِ [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/179). .
3- قولُه تعالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ عطْفٌ على جُملةِ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: 9]؛ تَأكيدًا لثُبوتِ الجزاءِ على الأعمالِ. وأُكِّدَ الكلامُ بحرْفِ (إنَّ) ولامِ الابتداءِ؛ لأنَّهم يُنكِرون ذلك إنكارًا قويًّا [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/179). .
- قولُه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ تَحقيقٌ لِما يُكذِّبون به مِن الجَزاءِ، ومُفيدٌ لبُطلانِ تَكذيبِهم، يعني: أنَّكم تُكذِّبون بالجزاءِ، والكاتِبون يَكتُبون عليكم أعمالَكُم لتُجازَوا بها [94] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/716)، ((تفسير البيضاوي)) (5/293)، ((تفسير أبي السعود)) (9/121). .
- ولَحَافِظِينَ صِفةٌ لمَحذوفٍ، تَقديرُه: لَمَلائكةً حافِظينَ، أي: مُحْصينَ غيرَ مُضيِّعينَ لشَيءٍ مِن أعمالِكُم [95] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/179). .
- وجُمِعَ الملائكةُ باعتِبارِ التَّوزيعِ على النَّاسِ، وإنَّما لكلِّ أحدٍ مَلَكانِ؛ قال تعالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/179) . [ق: 17-18] .
- وفيه إنْذارٌ وتَهويلٌ وتَشويرٌ -أي: إخْجالٌ- للعُصاةِ، ولُطْفٌ للمُؤمِنينَ [97] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/716). .
- وأيضًا قولُه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ هذا بصَريحِ معناه يُفيدُ كِنايةً عن وُقوعِ الجزاءِ؛ إذ لولا الجزاءُ على الأعمالِ لَكان الاعتناءُ بإحصائِها عبثًا [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/179). .
- وأُجرِيَ على الملائكةِ الموكَّلينَ بإحصاءِ أعمالِ النَّاسِ أربعةُ أوصافٍ؛ هي: الحِفظُ، والكرَمُ، والكِتابةُ، والعِلمُ بما يَعمَلُه النَّاسُ. وابتُدِئ منها بوصْفِ الحِفظِ؛ لأنَّه الغرَضُ الَّذي سِيقَ مِن أجْلِه الكلامُ، الَّذي هو إثباتُ الجزاءِ على جَميعِ الأعمالِ، ثمَّ ذُكِرَت بعْدَه صِفاتٌ ثلاثٌ بها كَمالُ الحِفظِ والإحْصاءِ، وفيها تَنويهٌ بشَأنِ الملائكةِ الحافظينَ [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/179). .
- والحِفظُ هنا بمعْنى الرِّعايةِ والمراقبةِ، وهو بهذا المعْنى يَتعدَّى إلى المعمولِ بحرْفِ الجرِّ، وهو (على)؛ لتَضمُّنِه معْنى المراقبةِ. والحَفيظُ: الرَّقيبُ؛ قال تعالَى: اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: 6] . وهذا الاستِعمالُ هو غيرُ استِعمالِ الحِفظِ المعدَّى إلى المفعولِ بنفْسِه؛ فإنَّه بمعْنى الحِراسةِ، نحْو قولِه: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] ؛ فالحِفظُ بهذا الإطلاقِ يَجمَعُ مَعنى الرِّعايةِ والقِيامِ على ما يُوكَلُ إلى الحَفيظِ، والأمانةِ على ما يُوكَلُ إليه، وحرْفُ (على) فيه للاستِعلاءِ؛ لتَضَمُّنِه مَعنى الرِّقابةِ والسُّلطةِ [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/180). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الألوسي)) (15/270). .