موسوعة التفسير

سورةُ الانفِطارِ
الآيات (1-5)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ

غريب الكلمات:

انْفَطَرَتْ: أي: انشَقَّت، وأصلُ (فطر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وإبرازِه .
انْتَثَرَتْ: أي: تَساقَطَت مُتفَرِّقةً، ونَثْرُ الشَّيءِ: نَشْرُه وتفريقُه، وأصلُ (نثر): يدُلُّ على إلقاءِ شَيءٍ مُتفَرِّقٍ .
فُجِّرَتْ: أي: فُتِحَ بَعضُها في بعضٍ، فصارت بحرًا واحِدًا مُمتَلِئًا، وأصلُ (فجر): يدُلُّ على تَفتُّحٍ في شَيءٍ .
بُعْثِرَتْ: أي: أُثِيرت، وقُلِبَ تُرابُها، وأُخرِجَ ما فيها، وأصلُ (بعثر): مُركَّبٌ مِن: بَعَث وأُثيرَ؛ فإنَّ البَعْثرةَ تتضَمَّنُ معناهما .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بالحَديثِ عن أشراطِ السَّاعةِ، فقال تعالى: إذا السَّماءُ انشَقَّت وتَصَدَّعَت يومَ القيامةِ، وإذا الكواكِبُ تَساقَطَت وتفَرَّقَت، وإذا البِحارُ فُجِّرَت واختَلَط بَعضُها ببَعضٍ، فصارت جميعُها بحرًا واحِدًا، وإذا القُبورُ أُثِيرَت وقُلِبَ ما في بَطْنِها مِن الأمواتِ، فبُعِثُوا للحِسابِ- إذا وقَعَت تلك الأمورُ عَلِمَت كُلُّ نفْسٍ حِينَها بجميعِ أعمالِها مِن خَيرٍ وشَرٍّ.

تفسير الآيات:

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1).
أي: إذا السَّماءُ مع قُوَّتَها وشِدَّةِ إحكامِها قد انشَقَّت يومَ القيامةِ .
كما قال تعالى: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: 18] .
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان يَلزَمُ مِن انفِطارِها وَهْيُها، وعَدَمُ إمساكِها لِما أُثبِتَ بها؛ ليَكونَ ذلك أشَدَّ تخويفًا لِمَن تحتَها بأنَّهم يَترَقَّبونَ كُلَّ وَقتٍ سُقوطَها أو سُقوطَ طائفةٍ منها فَوقَهم، فيَكونونَ بحيثُ لا يَقِرُّ لهم قَرارٌ؛ قال :
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2).
أي: وإذا الكواكِبُ تَساقَطَت وتفَرَّقَت .
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3).
أي: وإذا البِحارُ المتفَرِّقةُ في الأرضِ قد فُجِّرَت تَفجيرًا كَثيرًا، وفُتِح بعضُها إلى بعضٍ .
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ما سبَق مُقتَضِيًا لغَمْرِ القُبورِ، فأوهمَ أنَّ أهلَها لا يقومونَ -كما كان العَرَبُ يَعتَقِدونَ أنَّ مَن مات فات- قال دافِعًا لذلك على نَمَطِ كلامِ القادِرينَ؛ إشارةً إلى سُهولةِ ذلك عليه :
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4).
أي: وإذا القُبورُ أُثِيرَت وقُلِبَ ما في بَطْنِها مِن الأمواتِ إلى ظَهْرِها، فبَعَثَهم اللهُ تعالى أحياءً .
كما قال تعالى: أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [العاديات: 9] .
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت هذه الشُّروطُ كُلُّها -الَّتي جُعِلَت أشراطًا على السَّاعةِ- مُوجِبةً لعُلومٍ دقيقةٍ، وتَكشِفُ كُلُّ واحدةٍ منها عن أمورٍ عَجيبةٍ، وكانت كُلُّها دالَّةً على الانتِقالِ مِن هذه الدَّارِ إلى دارٍ أُخرى لخرابِ هذه الدَّارِ؛ ناسَبَ أن يجيبَ «إذا» بقَولِه :
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5).
أي: إذا وقَعَت تلك الأمورُ عَلِمَتْ كُلُّ نفْسٍ حِينَها بجميعِ أعمالِها؛ خَيْرِها وشَرِّها .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ لعَلَّه نَكَّرَ؛ إشارةً إلى أنَّه ينبغي لِمَن وَهَبه اللهُ عقلًا أن يُجَوِّزَ أنَّه هو المرادُ، فيَخافَ .
2- في قَولِه تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ زَجْرٌ عن المعصيةِ، وترغيبٌ في الطَّاعةِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ دَلالةٌ على سُرعةِ الانتِشارِ، كبَعْثرةِ الحَبِّ مِن الكَفِّ، كما في قَولِه تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا [المعارج: 43] .
2- في قَولِه تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ دَلالةٌ على مُؤاخَذةِ الإنسانِ بما عُمِلَ به بَعْدَه مِمَّا سَنَّه مِن هُدًى أو ضَلالةٍ، كقَولِه تعالى: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13] بِناءً على أنَّ المعنَى: بِمَا قَدَّمَ مُباشِرًا له، وَأَخَّرَ مِمَّا عُمِلَ به بَعْدَه مِمَّا سَنَّه مِن هُدًى أو ضَلالٍ .
3- في قَولِه تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ سؤالٌ: هذه الآيةُ الكريمةُ يُوهِمُ ظاهِرُها أنَّ الَّذي يَعلَمُ يومَ القيامةِ ما قَدَّم وما أخَّر: نفْسٌ واحِدةٌ، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على أنَّ كُلَّ نفْسٍ تَعلَمُ ما قَدَّمت وأخَّرَت، كقَولِه تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [يونس: 30] ، وقَولِه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [الإسراء: 13] إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ.
الجوابُ: أنَّ المرادَ بقَولِه: نَفْسٌ كُلُّ نَفسٍ، والنَّكِرةُ وإن كانت لا تَعُمُّ إلَّا في سياقِ النَّفيِ أو الشَّرطِ أو الامتِنانِ، كما تقَرَّر في الأُصولِ؛ فإنَّ التَّحقيقَ أنَّها رُبَّما أفادت العُمومَ بقرينةِ السِّياقِ مِن غَيرِ نَفيٍ أو شرطٍ أو امتنانٍ، كقَولِه: عَلِمَتْ نَفْسٌ في «التَّكوير» و«الانفطار»، وقَولِه: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ [الأنعام: 70] ، وقَولِه: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا [الزمر: 56] ، والعِلمُ عندَ اللهِ تعالى .

بلاغة الآيات:

- قولُه تعالَى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ
- الافْتِتاحُ بـ (إِذَا) افْتِتاحٌ مُشوِّقٌ لِما يَرِدُ بَعدَها مِن مُتَعلَّقِها الَّذي هو جَوابُ ما في (إذا) مِن مَعنى الشَّرطِ .
- وصِيغةُ الماضي المُتَكرِّرةُ في قولِه: انْفَطَرَتْ وما عُطِفَ عليه، مُستعمَلةٌ في المُستَقبَلِ؛ تَشْبيهًا لتَحقيقِ وُقوعِ المُستَقبَلِ بحُصولِ الشَّيءِ في الماضي .
- وأيضًا الجُملُ الَّتي أُضيفَ إليها (إذا) مُفتتَحةٌ بمُسنَدٍ إليْه مُخبَرٍ عنه بمُسنَدٍ فِعليٍّ دُونَ أنْ يُؤتى بالجُملةِ الفِعليَّةِ، ودُونَ تَقديرِ أفْعالٍ مَحْذوفةٍ قبْلَ الأسْماءِ؛ لقَصْدِ الاهْتمامِ بالمُسنَدِ إليه، وتَقويةِ الخَبَرِ .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ فإنَّ الجُمَلَ المُتعاطِفةَ المُضافةَ إلى (إذا) هُنا أقَلُّ مِن اللَّاتي في سورةِ (التَّكويرِ)؛ لأنَّ المَقامَ لم يَقتَضِ تَطْويلَ الإطْنابِ كما اقْتَضاه المَقامُ في سورةِ (التَّكْويرِ)، وإنْ كان في كِلتَيهما مُقتَضٍ للإطْنابِ لكنَّه مُتفاوِتٌ .
- قولُه: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ بَعْثرةُ القُبورِ: حالةٌ مِن حالاتِ الانقِلابِ الأرضيِّ والخَسفِ، خُصَّتْ بالذِّكرِ مِن بيْنِ حالاتِ الأرضِ؛ لِما فيها مِن الهَوْلِ باسْتِحضارِ حالةِ الأرضِ وقد أَلْقَتْ على ظاهِرِها ما كان في باطِنِ المَقابِرِ مِن جُثَثٍ كامِلةٍ ورُفاتٍ .
- وكُرِّرَتْ (إذا)؛ لتَهويلِ ما في حَيِّزِها مِن الدَّواهي .
- قولُه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ هذا العِلمُ كِنايةٌ عن الحِسابِ على ما قَدَّمَتِ النُّفوسُ وأخَّرَتْ ؛ فهذا وَعيدٌ بالحِسابِ على جَميعِ أعمالِ المُشرِكين، وهم المَقصودُ بالسُّورةِ، كما يُشيرُ إليه قولُه بعدَ هذا: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: 9]، ووَعْدٌ للمُتَّقينَ، ومُختَلَطٌ لِمَن عَمِلوا عمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا .
- وأيضًا إثْباتُ العِلمِ للنَّاسِ بما قَدَّموا وأَخَّروا عندَ حُصولِ تلك الشُّروطِ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ؛ لعَدَمِ الاعتِدادِ بعِلمِهم بذلك الَّذي كان في الحياةِ الدُّنيا، فنُزِّلَ مَنزِلةَ عدَمِ العِلمِ .
- ونَفْسٌ نَكِرةٌ مُرادٌ بها العُمومُ .
- والمَقصودُ مِن قولِه: مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ تَعميمُ التَّوقِيفِ على جَميعِ ما عَمِلَتْه .