موسوعة التفسير

سورةُ الطُّورِ
الآيات (22-28)

ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ

غريب الكلمات:

يَتَنَازَعُونَ: أي: يَتعاطَونَ ويَتداوَلون؛ هذا يأخُذُ مِن يَدِ هذا، وهذا يأخُذُ مِن يَدِ هذا، كالشَّيءِ المُتنازَعِ فيه، وأصلُه مِن نَزْعِ الدَّلوِ مِنَ البِئرِ عندَ الاستِقاءِ؛ فإنَّ النَّاسَ كانوا إذا وَرَدوا للاستِقاءِ نَزَع أحَدُهم دَلوًا مِنَ الماءِ، ثمَّ ناوَلَ الدَّلْوَ لِمَن حَوْلَه [193] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 425)، ((تفسير ابن جرير)) (21/587)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/415)، ((البسيط)) للواحدي (20/492)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 373)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/52). .
لَغْوٌ: أي: باطِلٌ مِن القَولِ يَصدُرُ عن خَلَلِ العَقلِ، وأصلُه يدُلُّ على الشَّيءِ لا يُعتَدُّ به [194] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 85)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 401)، ((المفردات)) للراغب (ص: 742)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/54). .
تَأْثِيمٌ: أي: ما يُؤَثِّمُهم مِن فِعلٍ أو قَولٍ، مِثلُ الضَّربِ والشَّتمِ وغَيرِهما، وأصلُ (أثم): يدُلُّ على بُطءٍ وتأخُّرٍ؛ لأنَّ ذا الإثمِ بَطيءٌ عن الخَيرِ، مُتأخِّرٌ عنه [195] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/588)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 156)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/60)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 393)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/54). .
مَكْنُونٌ: أي: مَصونٌ مَستورٌ، وأصلُ (كنن): يدُلُّ على سَترٍ أو صَونٍ [196] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/269)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 126، 424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/123)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 352). .
مُشْفِقِينَ: أي: خائِفينَ حَذِرينَ، وأصلُ (شفق): يدُلُّ على رِقَّةٍ في الشَّيءِ [197] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 285)، ((تفسير ابن جرير)) (16/253)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 444)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/197)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 237)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 294)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 879). .
فَمَنَّ: أي: أنْعَمَ، وصنَع الصُّنعَ الجَميلَ، وأصلُ (منن) هنا: يدُلُّ على اصطِناعِ الخَيرِ [198] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/267)، ((المفردات)) للراغب (ص: 777)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 872). .
السَّمُومِ: أي: النَّارِ الحارَّةِ، وأصلُه اسمُ الرِّيحِ الَّتي تَهُبُّ مِن جِهةٍ حارَّةٍ جِدًّا، فتكونُ جافَّةً شَديدةَ الحرارةِ؛ سُمِّيت سَمومًا لدُخولِها بلُطفٍ في مَسامِّ البَدَنِ [199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/590)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/62)، ((البسيط)) للواحدي (12/600)، ((المفردات)) للراغب (ص: 424)، ((تفسير القرطبي)) (17/70)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/57). .
الْبَرُّ: أي: اللَّطيفُ الواسِعُ الفَضلِ، الصَّادقُ فيما وعَدَ، وأصلُ (برر) هنا: يدُلُّ على الصِّدقِ والسَّعةِ؛ فأمَّا الصِّدقُ فمِنْه قولُهم: صدَقَ فُلانٌ وبَرَّ، وبرَّتْ يَمينُه: صدَقَت، وأمَّا السَّعةُ فهو مِن البَرِّ الَّذي هو خِلافُ البَحرِ، وتُصُوِّرَ منه التَّوسُّعُ، فاشتُقَّ منه البِرُّ، أي: التَّوسُّعُ في فِعلِ الخَيرِ [200] يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/177، 178)، ((المفردات)) للراغب (ص: 114)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 231). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا آخَرَ مِن مَظاهرِ فِضلِه على عبادِه المؤمنينَ، فيقولُ: وأمدَدْنا المؤمِنينَ في الجنَّةِ بفاكِهةٍ ولَحمٍ مِمَّا يَشتَهونَه، ويَتعاطَونَ في الجنَّةِ كأسًا مملوءةً بالخَمرِ، لا يَهذُونَ بكَلامٍ لا فائِدةَ منه بسببِها، ولا يأثَمُ شارِبُها بِشُرْبِها ولا يُؤثِّمُه أحدٌ، ولا يحْمِلُه شُرْبُها على أنْ يَفعلَ إثْمًا بخِلافِ خَمْرِ الدُّنيا، ويَطوفُ عليهم غِلمانٌ لخِدمتِهم؛ فُهم لنَظافتِهم ونَضارتِهم مِثلُ اللُّؤلؤِ المصُونِ في صَدَفِه!
ثمَّ يخبرُ الله تعالى عن حَديثِهم في الجنَّةِ، فيقولُ: وأقبَلَ بَعضُهم على بَعضٍ يَتحادَثونَ في أحوالِهم الَّتي كانوا عليها في الدُّنيا، فقال بَعضُهم لِبَعضٍ: إنَّا كُنَّا في الدُّنيا خائِفينَ مِن عَذابِ اللهِ تعالى يومَ القِيامةِ، فمَنَّ اللهُ علينا بفَضلِه فنجَّانا مِن عَذابِ النَّارِ؛ إنَّا كُنَّا في الدُّنيا نَدعوه تعالى وحْدَه، إنَّه تعالى هو اللَّطيفُ بعبادِه، الواسِعُ الإحسانِ، الرَّحيمُ بهم.

تفسير الآيات:

وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22).
أي: وزِدْنا المؤمِنينَ في الجنَّةِ مِن فَضْلِنا، فأعطَيْناهم فاكِهةً ولَحمًا مِمَّا يَشتَهونَه ويَستَلِذُّونَه [201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/587)، ((تفسير القرطبي)) (17/68)، ((تفسير ابن كثير)) (7/434)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/52). قال القرطبي: (أي: أكثَرْنا لهم مِن ذلك؛ زيادةً مِنَ اللهِ، أمدَّهم بها غيرَ الَّذي كان لهم). ((تفسير القرطبي)) (17/68). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة: 20، 21].
وقال سبحانَه: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 32، 33].
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان هذا النَّعيمُ العَظيمُ المُقيمُ يدعو إلى المعاشَرةِ بالقَرينةِ العاطِرةِ؛ بَيَّنَ أنَّ ذلك حالُهم اللَّازِمةُ الظَّاهِرةُ مِن الخِصالِ اللَّائِقةِ الطَّاهِرةِ؛ فقال [202] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/17). :
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا.
أي: يَتعاطَونَ فيها كأسَ الشَّرابِ المملوءةَ بالخَمرِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/587)، ((تفسير القرطبي)) (17/68)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 277)، ((تفسير ابن كثير)) (7/434)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/454، 455). قيل: المعنى: يَتعاطَونَ فيها كأسًا، يأخُذُها بعضُهم مِن بَعضٍ للشُّربِ، ويَتداوَلونَها بيْنَهم. وممَّن اختار هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ -في ظاهرِ اختيارِهما-، والماتُريديُّ، والنَّسَفيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/587)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/63)، ((تفسير الماتريدي)) (9/406)، ((تفسير النسفي)). قال البقاعي: (يَتَنَازَعُونَ أي: يَشرَبونَ مُتجاذِبينَ مُجاذَبةَ الملاعَبةِ؛ لِفَرطِ المحبَّةِ والسُّرورِ، وتَحلِيةِ المُصاحَبةِ). ((نظم الدرر)) (19/17). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/211)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 188). وقال ابن عاشور: (الكأس... يجوزُ أن يكونَ هنا مرادًا به الإناءُ المعروفُ، ومرادًا به الجنسُ... وليس المرادُ أنَّهم يَشرَبونَ في كأسٍ واحدةٍ، يأخُذُ أحَدُهم مِن آخَرَ كأسَه، ويجوزُ أن يُرادَ بالكأسِ الخمرُ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/53). وقال السعدي: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا أي: تدورُ كاساتُ الرَّحيقِ والخمرِ عليهم، ويتعاطَوْنها فيما بيْنَهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 815). .
لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان في خَمرِ الدُّنيا غوائِلُ؛ نفاها عنها؛ فقال [204] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/17). :
لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ.
أي: لا يَقَعُ منهم بسَبَبِ الشُّربِ هَذَيانٌ وكَلامٌ لا فائِدةَ منه، ولا يأثَمُ شارِبُها بِشُرْبِها، ولا يُؤثِّمُه أحدٌ، ولا يحْمِلُه شُرْبُها على أنْ يَفعلَ إثْمًا، بخِلافِ خَمْرِ الدُّنيا [205] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 425)، ((تفسير ابن جرير)) (21/587)، ((تفسير الرازي)) (28/211)، ((تفسير القرطبي)) (17/68، 69)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 277)، ((تفسير ابن كثير)) (7/434)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/53)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/455)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 188). ممَّن اختار أنَّ المعنى: أنَّهم لا يأثَمونَ في شُربِها: السمرقنديُّ، والثعلبيُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/353)، ((تفسير الثعلبي)) (9/129). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّه لا يكونُ منهم ما يُؤَثِّمُهم: ابنُ قُتَيبةَ، وابنُ جرير، والسمعانيُّ، والبغوي، والزمخشري. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 425)، ((تفسير ابن جرير)) (21/587)، ((تفسير السمعاني)) (5/275)، ((تفسير البغوي)) (4/293)، ((تفسير الزمخشري)) (4/411). ويُنظر أيضًا: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/146)، ((تفسير ابن كثير)) (7/434). وقال ابنُ عطية: (والتَّأثيمُ: يَلحَقُ خَمرَ الدُّنيا في نفْسِ شُربِها، وفي الأفعالِ الَّتي تكونُ مِن شَرابِها، وذلك كُلُّه مرتفِعٌ في الآخِرةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/190). وقال ابنُ القيِّم: (فنَفى باللَّغوِ السِّبابَ والتَّخاصُمَ، والهُجْرَ والفُحْشَ في المقالِ، والعَرْبدةَ، ونفى بالتَّأثيمِ جَميعَ الصِّفاتِ المذمومةِ الَّتي أثَّمَت شارِبَ الخَمرِ، وقال سُبحانَه: وَلَا تَأْثِيمٌ، ولم يَقُلْ: ولا إثمٌ، أي: ليس فيها ما يَحمِلُهم على الإثمِ، ولا يُؤَثِّمُ بَعضُهم بَعضًا بشُربِها، ولا يؤثِّمُهم اللهُ بذلك ولا الملائِكةُ، فلا يَلْغُونَ ولا يَأثَمونَ. قال ابنُ قُتْيبةَ: لا تَذهَبُ بعُقولِهم فيَلْغُوا، ولم يَقَعْ منهم ما يُؤَثِّمُهم). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 277). وقال الشنقيطي: (واللَّغْوُ: كُلُّ كلامٍ ساقِطٍ لا خيرَ فيه، فخَمرُ الآخرةِ لا تَحمِلُ شارِبِيها على الكَلامِ الخَبيثِ والهَذَيانِ؛ لأنَّها لا تُؤَثِّرُ في عُقولِهم، بخِلافِ خَمرِ الدُّنيا؛ فإنَّهم إن يَشرَبوها سَكِروا، وطاشت عُقولُهم، فتكَلَّموا بالكلامِ الخبيثِ والهَذَيانِ، وكُلُّ ذلك من اللَّغوِ. والتأثيمُ: هو ما يُنسَبُ به فاعِلُه إلى الإثمِ، فخَمرُ الآخرةِ لا يأثَمُ شارِبُها بشُربِها؛ لأنَّها مباحةٌ له، فيَنعَمُ بلذَّتِها، كما قال تعالى: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد: 15]، ولا تحمِلُ شارِبَها على أن يَفعَلَ إثمًا، بخِلافِ خَمرِ الدُّنيا؛ فشارِبُها يأثَمُ بشُربِها، ويَحمِلُه السُّكْرُ على الوُقوعِ في المحَرَّماتِ؛ كالقَتلِ والزِّنا والقَذفِ). ((أضواء البيان)) (7/455). .
قال تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [الصافات: 45 - 47] .
وقال سُبحانَه: وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا [النبأ: 34، 35].
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت المُعاطاةُ لا يَكمُلُ بَسطُها ولا يَعظُمُ إلَّا بخَدَمٍ وسُقاةٍ؛ قال [206] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/18). :
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24).
أي: ويَطوفُ على المُؤمِنينَ في الجنَّةِ غِلمانٌ لخِدمتِهم، وهم في حُسْنِهم وبياضِهم، وصَفائِهم وبهائِهم ونظافتِهم: مِثلُ اللُّؤلؤِ المصُونِ في صَدَفِه [207] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/146)، ((تفسير ابن جرير)) (21/589)، ((تفسير القرطبي)) (17/69)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 277)، ((تفسير ابن كثير)) (7/435)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/55). قال ابنُ القيِّم: (الأشبَهُ أنَّ هؤلاءِ الوِلدانَ مخلوقونَ مِن الجنَّةِ -كالحُورِ العِينِ- خَدَمًا لهم وغِلْمانًا، كما قال تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ، وهؤلاءِ غيرُ أولادِهم؛ فإنَّ مِن تمامِ كَرامةِ اللهِ تعالى لهم أن يجعَلَ أولادَهم مخدومينَ معهم، ولا يَجعَلَهم غِلمانًا لهم). ((حادي الأرواح)) (ص: 216). .
كما قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة: 17 - 21].
وقال الله تبارك وتعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا [الإنسان: 19] .
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25).
أي: وأقبَلَ بَعضُ أهلِ الجنَّةِ على بَعضٍ يتحادَثونَ فيما بَيْنَهم، ويَتساءَلونَ عن أحوالِهم الَّتي كانوا عليها في الدُّنيا [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/590)، ((تفسير القرطبي)) (17/70)، ((تفسير ابن كثير)) (7/435)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815). .
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26).
أي: قال بَعضُهم لِبَعضٍ: إنَّا كُنَّا في الدُّنيا بيْنَ أهلِنا خائِفينَ وحَذِرينَ مِن عَذابِ اللهِ يومَ القيامةِ [209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/590)، ((تفسير القرطبي)) (17/70)، ((التبيان)) لابن القيم (ص: 277)، ((تفسير ابن كثير)) (7/435)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/19)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/457). !
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 49] .
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج: 27] .
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27).
أي: فمَنَّ اللهُ علينا بفَضلِه فهَدانا، ونجَّانا مِن عَذابِ النَّارِ [210] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/590)، ((تفسير القرطبي)) (17/70)، ((تفسير ابن كثير)) (7/435)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/457). قال القرطبي: (قال الحَسَنُ: السَّمُومُ: اسمٌ مِن أسماءِ النَّارِ، وطَبَقةٌ مِن طِباقِ جَهنَّمَ. وقيل: هو النَّارُ، كما تقولُ: جهنَّمُ. وقيل: نارُ عذابِ السَّمومِ. والسَّمُومُ: الرِّيحُ الحارَّةُ، تُؤَنَّثُ، يُقالُ منه: سُمَّ يَومُنا فهو مَسمومٌ، والجمعُ سمائِمُ. قال أبو عُبَيدةَ: السَّمومُ بالنَّهارِ، وقد تكونُ باللَّيلِ، والحَرورُ باللَّيلِ، وقد تكونُ بالنَّهارِ، وقد تُستعمَلُ السَّمُومُ في لَفحِ البَردِ، وهو في لَفحِ الحَرِّ والشَّمسِ أكثَرُ). ((تفسير القرطبي)) (17/70). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/188). ممَّن نصَّ على أنَّ عذابَ السَّمومِ أي عذابُ النَّارِ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، ومكِّي، الخازن، والعُلَيمي، والقاسمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/590)، ((تفسير السمرقندي)) (3/353)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7128)، ((تفسير الخازن)) (4/200)، ((تفسير العليمي)) (6/424)، ((تفسير القاسمي)) (9/52)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 188). قال العُلَيمي: (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ اسمٌ من أسماءِ جَهنَّمَ، والسَّمُومُ: الحارُّ الَّذي يَبلُغُ مَسامَّ الإنسانِ، وهو النَّارُ في هذه الآيةِ). ((تفسير العليمي)) (6/424). وقال البِقاعي: (عَذَابَ السَّمُومِ أي: الحَرِّ النَّافِذِ في المسامِّ نُفوذَ السُّمِّ). ((نظم الدرر)) (19/20). وقال ابنُ عاشور: (السَّمُومِ بفَتحِ السِّينِ، أصلُه اسمُ الرِّيحِ الَّتي تهُبُّ مِن جِهةٍ حارَّةٍ جِدًّا، فتكونُ جافَّةً شَديدةَ الحرارةِ، وهي معروفةٌ في بلاد العَرَبِ، تُهلِكُ منَ يَتنشَّقُها). ((تفسير ابن عاشور)) (27/57). .
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَروا إشفاقَهم بَيَّنوه مُؤَكِّدينَ أيضًا لمِثْلِ ذلك، بقَولِهم [211] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/20). :
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ.
أي: إنَّا كُنَّا في الدُّنيا نَدعو اللهَ تعالى وَحْدَه دعاءَ عبادةٍ ودعاءَ مسألةٍ، ونتضَرَّعُ إليه؛ فأجاب دُعاءَنا فوَقانا عذابَ السَّمومِ، وأدخَلَنا دارَ النَّعيمِ [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/591)، ((تفسير القرطبي)) (17/70)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/14)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/5، 6)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 188). قال السمعاني: (قَولُه تعالى: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ أي: نُوَحِّدُه ونَعبُدُه، والدُّعاءُ هاهنا بمعنى التَّوحيدِ، وعليه أكثَرُ المفسِّرينَ. ويُقالُ: إنَّه الدُّعاءُ المعروفُ). ((تفسير السمعاني)) (5/275). وذهب ابنُ تيميَّةَ وابنُ القيِّمِ إلى أنَّ المرادَ دعاءُ العبادةِ المُتضَمِّنُ للسُّؤالِ رَغبةً ورَهبةً. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/14)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/5). قال ابن القيِّم: (أمَّا قولُه تعالى: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ فهذا دعاءُ العبادةِ المُتضَمِّنُ للسُّؤالِ رَغبةً ورَهبةً، والمعنى: إنَّا كنَّا مِن قبْلُ نُخلِصُ له العبادةَ، وبهذا استحَقُّوا أنْ وقاهم عذابَ السَّمومِ، لا بمُجرَّدِ السُّؤالِ المُشتركِ بيْن النَّاجي وغيرِه؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه يَسألُه مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ، والفوزُ والنَّجاةُ إنَّما هي بإخلاصِ العبادةِ، لا بمُجرَّدِ السُّؤالِ والطَّلبِ). ((بدائع الفوائد)) (3/5). وذهب السعديُّ وابنُ عثيمين إلى أنَّ قولَه: نَدْعُوهُ شاملٌ لِدُعاءِ العبادةِ، ودعاءِ المسألةِ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 189). قال ابن عثيمين: (قولُهم: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ يَشملَ دعاءَ العبادةِ؛ كالصَّلاةِ، والصَّدقةِ، والصِّيامِ، والحجِّ، وبِرِّ الوالِدَينِ، وصِلةِ الأرحامِ، كلُّ هذا دعاءٌ، وإن كان هو عبادةً، فلو سألْتَ الدَّاعيَ: لماذا تَعبُدُ اللهَ، ولو سألْتَ العابدَ: لماذا تَعبُدُ اللهَ؟ لَقال: أرجو رحمتَه، وأخافُ عذابَه، فتَكونُ هذه العِبادةُ بمعنَى الدُّعاءِ. كذلك نَدْعوه دعاءَ مسألةٍ، لا يَسألونَ غيرَ الله، ولا يَلجَؤونَ إلَّا إلى الله؛ لأنَّهم يَعلَمون أنَّهم مُفتَقِرونَ إليه، وأنَّه هو القادرُ على كلِّ شَيءٍ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 189). وقال السعدي: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ أنْ يَقِيَنا عذابَ السَّمُومِ، ويُوصِلَنا إلى النَّعيمِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 815). وذهب ابنُ عاشور إلى أنَّ المرادَ: نَبْتَهِلُ إليه في أُمورِنا، ويَدخُلُ في ذلك الدُّعاءُ لأنفُسِهم ولذُرِّيَّاتِهم بالنَّجاةِ مِن النَّارِ، وبنوالِ نعيمِ الجنَّةِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/57). .
كما قال تعالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90] .
وقال سُبحانَه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة: 16] .
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
أنَّهم عَلَّلوا دُعاءَهم إيَّاه تعالى مُؤكِّدينَ؛ لأنَّ إنعامَه عليهم مع تَقصيرِهم مِمَّا لا يكادُ يَفعَلُه غَيرُه سُبحانَه؛ فهو مِمَّا يُعجَبُ منه غايةَ العَجَبِ؛ فقالوا [213] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/20). :
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو اللَّطيفُ بعبادِه، الواسِعُ الإحسانِ، البالِغُ الرَّحمةِ بهم [214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/591)، ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزَّجَّاج (ص: 61)، ((تفسير القرطبي)) (17/70)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 815)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/58)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 189). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ كمالُ أدبِ أهلِ الجنَّةِ؛ في أنَّهم عندَ المحادَثةِ يُقبِلُ بعضُهم على بعضٍ، وهذا مِن كمالِ الأدبِ: أنْ تُقبِلَ إلى مُحَدِّثِك [215] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 122). !
2- قال اللهُ تعالَى: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ذكَرَ جَلَّ وعلا هنا أنَّ الإشفاقَ مِن عَذابِ اللهِ: مِن أسبابِ دُخولِ الجنَّةِ، والنَّجاةِ مِن العَذابِ يومَ القيامةِ، كما دَلَّ عليه مَنطوقُ هذه الآيةِ، وقال تعالى في (المعارِجِ): وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج: 27، 28] إلى قَولِه: أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج: 35]، وذكَرَ ذلك مِن صِفاتِ أهلِ الجنَّةِ في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون: 57] إلى قَولِه: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون: 61] ، وقد قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [216] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/458). [الواقعة: 10 - 12] .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ أنَّه لَمَّا كان هذا الكلامُ في دارِ الحقيقةِ لا يَصدُرُ إلَّا عن إلْهامٍ ومَعرِفةٍ، كان دليلًا على أنَّ دُعاءَ الصَّالِحينَ لأبنائِهم وذُرِّيَّاتِهم مَرجُوُّ الإجابةِ -على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ-، كما دَلَّ على إجابةِ دُعاءِ الصَّالحينَ مِنَ الأبناءِ لآبائِهم على ذلك؛ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا مات الإنسانُ انقطَعَ عنه عَمَلُه إلَّا مِن ثَلاثةٍ ))، فذكَرَ: ((أو ولَدٌ صالِحٌ يدعو له)) [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/57). والحديث أخرجه مسلم (1631) من حديث أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. .
4- قال اللهُ تعالى: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ أي: أنَّه وَحْدَه الواسِعُ الجُودِ، الَّذي عَطاؤُه حِكمةٌ، ومَنْعُه رَحمةٌ؛ لأنَّه لا يَنقُصُه إعطاءٌ، ولا يَزيدُه مَنعٌ؛ فهو يَبَرُّ عَبْدَه المُؤمِنَ بما يُوافِقُ نفْسَه؛ فرُبَّما بَرَّه بالنِّعمةِ، ورُبَّما بَرَّه بالبُؤسِ، فهو يختارُ له مِنَ الأحوالِ ما هو خيرٌ له؛ لِيُوسِّعَ له في العُقبى؛ فعلى المؤمِنِ ألَّا يتَّهِمَ رَبَّه في شَيءٍ مِن قَضائِه، الرَّحِيمُ المُكرِمُ لِمَن أراد مِن عبادِه بإقامتِه فيما يَرضاه مِن طاعتِه، ثمَّ بإفضالِه عليه وإن قَصَّرَ في خِدمتِه [218] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/20). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَأَمْدَدْنَاهُمْ لطيفةٌ: وهي أنَّه تعالى لَمَّا قال: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: 21]، ونَفيُ النُّقصانِ يَصدُقُ بحُصولِ المُساوِي؛ فقال: ليس عَدَمُ النُّقصانِ بالاقتِصارِ على المُساوي، بل بطريقٍ آخَرَ، وهو الزِّيادةُ والإمدادُ [219] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/210). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أنَّه ليس فيه شَيءٌ منه مِمَّا لا يُعجِبُهم غايةَ الإعجابِ [220] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/17). !
3- في قَولِه تعالى: لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ أنَّه ليس في الجنَّةِ كَلامٌ لَغْوٌ: وهو الَّذي لا فائِدةَ فيه، ولا تأثيمٌ: وهو الَّذي فيه إثمٌ ومَعصيةٌ؛ وإذا انتفَى الأمْرانِ ثَبَت الأمرُ الثَّالِثُ، وهو أنَّ كَلامَهم فيها سلامٌ طَيِّبٌ طاهِرٌ، مُسِرٌّ للنُّفوسِ، مُفرِحٌ للقُلوبِ، يَتعاشَرونَ أحسَنَ عِشرةٍ، ويَتنادَمونَ أطيَبَ المُنادَمةِ، ولا يَسمَعونَ مِن رَبِّهم إلَّا ما يُقِرُّ أعيُنَهم، ويدُلُّ على رِضاه عنهم، ومحبَّتِه لهم [221] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 815). .
4- قَولُه تعالى: غِلْمَانٌ لَهُمْ أي: مِلْكُهم؛ إعلامًا لهم بقُدرتِهم على التَّصَرُّفِ فيهم بالأمرِ والنَّهيِ والاستِخدامِ، وهذا هو المشهورُ، ويحتَمِلُ وَجهًا آخَرَ: وهو أنَّه تعالى لَمَّا بَيَّن امتيازَ خَمرِ الآخرةِ عن خَمرِ الدُّنيا؛ بيَّنَ امتيازَ غِلمانِ الآخِرةِ عن غِلمانِ الدُّنيا؛ فإنَّ الغِلْمانَ في الدُّنيا إذا طافُوا على السَّادةِ الملوكِ يَطوفونَ عليهم لحَظِّ أنفُسِهم؛ إمَّا لتوَقُّعِ النَّفعِ، أو لتوَفُّرِ الصَّفحِ، وأمَّا في الآخِرةِ فطَوفُهم عليهم مُتمَحِّضٌ لهم ولِنَفعِهم، ولا حاجةَ لهم إليهم [222] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/211). .
5- في قَولِه تعالى: غِلْمَانٌ لَهُمْ لم يُضِفْهم؛ لئَلَّا يُظَنَّ أنَّهم الَّذين كانوا يَخدُمونَهم في الدُّنيا، فيُشفِقَ كُلُّ مَن خَدَم أحَدًا في الدُّنيا بقَولٍ أو فِعلٍ أن يكونَ خادِمًا له في الجنَّةِ، فيَحزَنَ بكَونِه لا يزالُ تابِعًا، وأفاد التَّنكيرُ أنَّ كُلَّ مَن دَخَل الجنَّةَ وَجَد له خَدَمًا لم يَعرِفْهم قبْلَ ذلك [223] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/18). .
6- في قَولِه تعالى: كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ أنَّه إذا كان هذا حالَ الخادِمِ، فما ظَنُّك بالمَخدومِ [224] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/18). ؟!
7- قال اللهُ تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ وصَف تعالى خَدَمَهم الطَّائِفينَ عليهم بأنَّهم كاللُّؤلُؤِ في بياضِهم، والمَكْنونُ: المَصونُ الَّذي لا تُدَنِّسُه الأيدي؛ فلم تُذهِبِ الخِدمةُ تلك المحاسِنَ، وذلك اللَّونَ والصَّفاءَ والبَهجةَ، بل مع انتِصابِهم لخِدمتِهم كأنَّهم لُؤلؤٌ مَكْنونٌ، ووصَفهم في مَوضِعٍ آخَرَ، فقال تعالى: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا [الإنسان: 19] ؛ ففي ذِكرِه المنثورَ إشارةٌ إلى تفَرُّقِهم في حوائِجِ ساداتِهم وخِدمتِهم، وذَهابِهم ومَجيئِهم، وسَعةِ المكانِ بحيث لا يحتاجُونَ أن يَنضَمَّ بَعضُهم إلى بَعضٍ فيه لضِيقِه [225] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 277). !
8- في قَولِه تعالى: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ إشارةٌ إلى أنَّهم يَعلَمونَ ما جرى عليهم في الدُّنيا ويَذكُرونَه، وكذلك الكافِرُ لا يَنسى ما كان له مِنَ النَّعيمِ في الدُّنيا؛ فتَزدادُ لذَّةُ المؤمِنِ؛ مِن حيثُ يرَى نفْسَه انتقَلَت مِنَ السِّجنِ إلى الجنَّةِ، ومِنَ الضِّيقِ إلى السَّعةِ، ويَزدادُ الكافِرُ ألَمًا؛ حيثُ يرَى نفْسَه مُنتقِلةً مِنَ الشَّرَفِ إلى التَّلَفِ، ومِنَ النَّعيمِ إلى الجَحيمِ [226] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/212). !
9- قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ فيه أنَّ الإشفاقَ الَّذي هو الخَوفُ الشَّديدُ مِن عَذابِ اللهِ في دارِ الدُّنيا سَبَبٌ للسَّلامةِ منه في الآخِرةِ، يُفهَمُ مِن دَليلِ خِطابهِ -أي: مَفهومِ مُخالَفتِه-: أنَّ مَن لم يَخَفْ مِن عذابِ اللهِ في الدُّنيا لم يَنْجُ منه في الآخِرةِ، وما تضَمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمةُ بمَنطوقِها ومَفهومِها جاء مُوضَّحًا في غيرِ هذا الموضِعِ؛ مِن ذلك ما ذكَرَه اللهُ تعالى مِن أنَّ السُّرورَ في الدُّنيا وعَدَمَ الخَوفِ مِنَ اللهِ تعالى سَبَبُ العذابِ يومَ القيامةِ، وذلك في قَولِه تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [227] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/457). [الانشقاق: 10 - 14] .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ أنَّه لم يَقُلْ: «مِن قَبْلُ» كما في قَولِه: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ، فقد أسقَطَ الجارَّ «مِنْ»؛ إشارةً إلى دوامِ خَوفِهم؛ تنبيهًا على أنَّ الخوفَ الحامِلَ على الكَفِّ عن المعاصي يُشتَرَطُ فيه الدَّوامُ، بخِلافِ الرَّجاءِ الحامِلِ على الطَّاعاتِ؛ فإنَّه يكفي فيه ما تَيسَّرَ، كما أشار إليه إثباتُ الجارِّ في قَولِه تعالى: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ. وفي هذا الإثباتِ للجارِّ هنا مِنْ قَبْلُ مع إسقاطِه فيما قَبْلَه إشارةٌ إلى أنَّ التَّحلِّيَ بالفضائِلِ يُرضَى منه باليَسيرِ، والتَّخَلِّيَ عن الرَّذائِلِ لا بُدَّ فيه مِن البراءةِ عن كُلِّ قليلٍ وكثيرٍ [228] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/19، 20). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ
- قولُه: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ خُصَّ الفاكهةُ واللَّحمُ تَمهيدًا لقولِه: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ، منَحَهم اللهُ في الآخرةِ لذَّةَ نشْوةِ الخمْرِ والمُنادَمةِ على شُرْبِها؛ لأنَّها مِن أحسَنِ اللَّذَّاتِ فيما ألِفَتْه نُفوسُهم، وكان أهلُ التَّرَفِ في الدُّنيا إذا شَرِبوا الخمْرَ كَسَروا سَورةَ حِدَّتِها في البطْنِ بالشِّواءِ مِن اللَّحمِ؛ ولذلك جِيءَ بقولِه: يَتَنَازَعُونَ حالًا مِن ضَميرِ الغائبِ في وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ ... إلخ [229] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/52). . وأيضًا اختار مِنَ المأكولِ أرفَعَ الأنواعِ، وهو الفاكِهةُ واللَّحمُ؛ فإنَّهما طَعامُ المُتنَعِّمينَ [230] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/210). .
- وجُملةُ لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ يَجوزُ أنْ تكونَ صِفةً لكأْسٍ، وضَميرُ لَا لَغْوٌ فِيهَا عائدًا إلى (كأْس)، ووصْفُ الكأْسِ بـ لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ إنْ فُهِمَ الكأْسُ بمعْنى الإناءِ المعْروفِ، فهو على تَقديرِ: لا لَغْوٌ ولا تأْثيمٌ يُصاحِبُها؛ فإنَّ (في) للظَّرفيَّةِ الَّتي تُؤَوَّلُ بالمُلابَسةِ، أو تُؤَوَّلُ (في) بمعْنى التَّعليلِ. وإنْ فُهِمَ الكأْسُ مُرادًا به الخمْرُ، كانتْ (في) للسَّببيَّةِ، أي: لا لَغْوٌ يقَعُ بسَببِ شُرْبِها. والمعْنى على كِلا الوجهَينِ: أنَّها لا يُخالِطُ شارِبِيها اللَّغْوُ والإثمُ بالسِّبابِ والضَّرْبِ ونحْوِه، أي: إنَّ الخمْرَ الَّتي استُعْمِلَت الكأْسُ لها لَيستْ كخُمورِ الدُّنيا. ويَجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ مُستأْنَفةً ناشئةً عن جُملةِ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا، ويكونَ ضَميرُ فِيهَا عائدًا إلى جَنَّاتٍ مِن قولِه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ [الطور: 17]، فيَكونَ في الجُملةِ معْنى التَّذييلِ؛ لأنَّه إذا انْتَفى اللَّغْوُ والتَّأثيمُ عن أنْ يَكونَا في الجنَّةِ انْتَفى أنْ يَكونَا في كأْسِ شُرْبِ أهْلِ الجنَّةِ [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/53). .
2- قولُه تعالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ عطْفٌ على جُملةِ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا [الطور: 23]؛ فهو مِن تَمامِه، وواقعٌ مَوقِعَ الحالِ مِثلَه [232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/54). .
- وجِيءَ بقولِه: وَيَطُوفُ في صِيغةِ المُضارِعِ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والتَّكرُّرِ، أي: ذلك لا يَنقطِعُ، بخِلافِ لذَّاتِ الدُّنيا؛ فإنَّها لا بدَّ لها مِن الانقطاعِ بنِهاياتٍ تَنْتهي إليها، فتُكَرَّهُ لأصحابِها الزِّيادةُ منها؛ مِثلُ ذهابِ العقلِ، والصُّداعِ، ووجَعِ الأمعاءِ في شُرْبِ الخمْرِ، ومِثلُ الشِّبَعِ في تَناوُلِ الطَّعامِ، وغيرُ ذلك مِن كلِّ ما يُورِّثُ العجْزَ عن الازديادِ عن اللَّذَّةِ، ويَجعَلُ الازديادَ ألَمًا [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/54). .
- وأيضًا لَمَّا أشعَرَ فِعلُ (يَطُوفُ) بأنَّ الغِلمانَ يُناوِلونَهم ما فيه لذَّاتُهم، كان مُشعِرًا بتَجدُّدِ المُناوَلةِ وتَجدُّدِ الطَّوافِ، وقد صار كلُّ ذلك لذَّةً لا سآمةَ منها [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/54). .
- والطَّوافُ: مشْيٌ مُتكرِّرٌ ذَهابًا ورُجوعًا، وأكثرُ ما يكونُ على استِدارةٍ، وسُمِّيَ مشْيُ الغِلمانِ بيْنَهم طَوافًا؛ لأنَّ شأْنَ مَجالسِ الأحبَّةِ والأصدقاءِ أنْ تكونَ حِلَقًا ودَوائرَ؛ ليَسْتَووا في مَرْآهم، كما أشارَ إليه قولُه تعالى في سُورةِ (الصَّافاتِ) [44]: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/55). .
- وتُرِكَ ذِكرُ مُتعلَّقِ (يَطوف) -حيثُ لم يُذكَرْ ما يَطوفونَ به عليهم-؛ لظُهورِه مِن قولِه: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا، وقولِه: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ [الطور: 22]، ودلَّ عليه قولُه تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف: 71] ، وقولُه: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات: 45، 46]، فلمَّا تقدَّمَ ذِكرُ ما شأْنُه أنْ يُطافَ به هنا، تُرِكَ ذِكرُه بعْدَ فِعلِ يُطَافُ، بخِلافِ ما في الآيتَينِ الأُخْريَينِ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف: 71] ، وقولُه: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [236] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/55). [الصافات: 45] .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا وفي سُورةِ (الإنسانِ): وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ [الطور: 24] [الإنسان: 19] بالواوِ، عطْفًا على ما قبْلَه، وقالَه في سُورةِ (الواقعةِ) بغَيرِ واوٍ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ [الواقعة: 17] ؛ لأنَّه حالٌ أو خبرٌ بعْدَ خَبرٍ [237] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 537). .
- ومعنَى قولِه: غِلْمَانٌ لَهُمْ: خَدَمةٌ لهم، وعُبِّرَ عنهم بالتَّنكيرِ، وتَعليقِ لامِ المِلْكِ بضَميرِ الَّذين آمَنوا دُونَ الإضافةِ الَّتي هي على تَقديرِ اللَّامِ؛ لِما في الإضافةِ مِن معْنى تَعريفِ المُضافِ بالانتِسابِ إلى المُضافِ إليه عِندَ السَّامِعِ مِن قبْلُ، وليس هؤلاء الغِلمانُ بمَمْلوكينَ للمُؤمنينَ، ولكنَّهم مَخلوقونَ لخِدْمَتِهم مَخصوصونَ بهم، خلَقَهم اللهُ مِن أجْلِهم في الجنَّةِ [238] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/55). .
- وفي قولِه: كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ شُبِّهتِ الغِلمانُ باللُّؤلؤِ المَكنونِ في حُسْنِ المرْأَى؛ لأنَّه أحسَنُ وأصْفَى، أو شُبِّهتْ باللُّؤلؤِ المَكنونِ في الأصدافِ؛ لأنَّه مَخزونٌ، ولا يُخزَّنُ إلَّا الثَّمينُ الغالي القِيمةِ [239] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/412)، ((تفسير البيضاوي)) (5/154)، ((تفسير أبي السعود)) (8/149)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/55)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/334). .
3- قولُه تعالَى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ
- قولُه: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ عطْفٌ على جُملةِ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا [الطور: 23]، والتَّقديرُ: وقدْ أقبَلَ بعضُهم على بَعضٍ يَتساءَلون، أي: همْ في تلك الأحوالِ قد أقبَلَ بَعضُهم على بَعضٍ يَتساءَلون [240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/56). .
- وجُملةُ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ بَيانٌ لجُملةِ يَتَسَاءَلُونَ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/56). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ مُشْفِقِينَ؛ لأنَّه دلَّ عليه وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ. وعلى هذا الوجْهِ يكونُ معْنى (في) الظَّرفيَّةَ، ويَتعلَّقُ فِي أَهْلِنَا بـ كُنَّا، أي: حِينَ كنَّا في ناسِنا في الدُّنيا، فأهْلُنا هنا بمعْنى آلِنَا [242] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/57). .
4- قولُه تعالَى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ الفاءُ في قولِه: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا تدُلُّ على أنَّ عِلَّةَ ذلك هي الخَوفُ مِن اللهِ في دارِ الدُّنيا [243] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/457، 458). .
- قولُه: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قيل: لَمَّا كان عَذابُ الذُّرِّيَّاتِ يُحزِنُ آباءَهُم، جُعِلَت وِقايةُ الذُّرِّيَّاتِ منه بمَنزلةِ وِقايةِ آبائِهِم فقالوا: وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ؛ إغراقًا في الشُّكرِ عنهم وعن ذُرِّيَّاتِهم، أي: فمَنَّ علينا جَميعًا ووَقَانا جميعًا عَذابَ السَّمومِ [244] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/57). .
5- قولُه تعالَى: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ تَعليلٌ لِمِنَّةِ اللهِ عليهم، وثَناءٌ على اللهِ بأنَّه استجابَ لهم، أي: كنَّا مِن قبْلِ اليومِ نَدْعوه، أي: في الدُّنيا [245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/57). .
- وفي قولِه: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ حُذِفَ مُتعلَّقُ نَدْعُوهُ للتَّعميمِ، أي: كنَّا نَبتَهِلُ إليه في أُمورِنا -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وسَببُ العُمومِ داخِلٌ ابتداءً، وهو الدُّعاءُ لأنفُسِهم ولذُرِّيَّاتِهم بالنَّجاةِ مِن النَّارِ، وبنَوالِ نَعيمِ الجنَّةِ [246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/57). .
- قولُه: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ قُرِئَ أَنَّهُ على تَقديرِ حرْفِ الجرِّ مَحذوفًا حذْفًا مُطَّرِدًا مع (أنَّ)، وهو هنا اللَّامُ تَعليلًا لـ نَدْعُوهُ، وقُرِئَ بكسْرِ همْزةِ (إنَّ) [247] قوله تعالى: أَنَّهُ قرأه المَدَنيَّانِ -نافعٌ وأبو جعفرٍ-، والكِسائيُّ بفتحِ الهَمزةِ، وقرأه الباقون بكَسرِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/378). ، ومَوقِعُ جُملتِها التَّعليلُ [248] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/572)، ((تفسير أبي السعود)) (8/150)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/58). .
- وضَميرُ الفصْلِ (هُو) لإفادةِ الحَصْرِ، وهو لقصْرِ صِفتَيِ الْبَرُّ الرَّحِيمُ على اللهِ تعالى، وهو قصْرٌ ادِّعائيٌّ [249] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). للمُبالَغةِ؛ لعدَمِ الاعتِدادِ ببُرورِ غيرِه ورَحمةِ غيرِه بالنِّسبةِ إلى بُرورِ اللهِ ورَحمتِه باعتبارِ القوَّةِ؛ فإنَّ غيرَ اللهِ لا يَبلُغُ بالمَبرَّةِ والرَّحمةِ مَبلَغَ ما للهِ، وباعتِبارِ عُمومِ المُتعلَّقِ، وباعتبارِ الدَّوامِ؛ لأنَّ اللهَ بَرٌّ في الدُّنيا والآخِرةِ، وغيرَ اللهِ بَرٌّ في بَعضِ أوقاتِ الدُّنيا، ولا يَملِكُ في الآخرةِ شيئًا [250] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/58). .