موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيات (58-60)

ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ

غريب الكلمات:

مُدْخَلًا: أي: الجنةَ، والمُدخلُ: مكانٌ أو مصدرُ (أدْخَل) أي: إدخالًا، يُقالُ: أدخلتُه مُدْخَلًا، وهذا مُدْخلُه، أي: المكانُ الذي يدخلُ منه وقتَ إدخالِه، والدُّخولُ: نقيضُ الخروجِ، ويُستعمَلُ ذلك في المكانِ، والزَّمانِ، والأعمالِ .
 بُغِيَ عَلَيْهِ: أي: ظُلِم، وتُعُدِّي عليه، يُقالُ بَغَى الجرحُ: تجاوَز الحدَّ في فسادِه، وأصلُ (بغي): هنا جِنسٌ مِن الفسادِ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: والذين خَرَجوا مِن دِيارِهم طَلَبًا لرِضا اللهِ، ونُصرةً لدِينِه، ثم قُتِلوا أو ماتوا؛ لَيَرزُقَنَّهم اللهُ رِزقًا كريمًا حَسَنًا، وإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لَهُو خَيرُ الرَّازِقينَ؛ لَيُدخِلَنَّهم اللهُ المُدْخَلَ الذي يُحبُّونَه وهو الجنَّةُ، وإنَّ اللهَ لَعليمٌ بمَن يَخرُجُ في سَبيلِه، ومَن يَخرُجُ طَلَبًا للدُّنيا، حَليمٌ بمن عصاه، فلا يُعاجِلُهم بالعُقوبةِ.
 ذلك، ومَن عاقَبَ مِن العِبادِ مَن اعتَدَى عليه بمِثلِ اعتِدائِه، بالعَدلِ دُونَ زِيادةٍ، ثمَّ ظُلِمَ بالمُعاوَدةِ إلى عُقوبتِه؛ فإنَّ اللهَ يَنصُرُه على مَن ظَلَمَه، إنَّ اللهَ لعَفُوٌّ غَفورٌ.

تفسير الآيات:

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ المُلْكَ له يومَ القيامةِ، وأنَّه يَحكُمُ بينهم، ويُدخِلُ المُؤمِنينَ الجَنَّاتِ؛ أتبَعَه بذِكرِ وَعْدِه الكريمِ للمُهاجِرينَ، مُفرِدًا لهم بالذِّكرِ .
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا.
أي: والذين فارَقوا دِيارَهم وأهلِيهم؛ طلبًا لرِضا اللهِ وطاعَتِه، ثُمَّ قُتِلوا أو ماتوا دُونَ قَتلٍ؛ فإنَّ اللهَ سيُثيبُهم رِزقًا كَريمًا .
كما قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] .
وقال سُبحانَه: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران: 195] .
وقال تبارك وتعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] .
وعن سَلمانَ الفارسيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((رِباطُ يَومٍ ولَيلةٍ خَيرٌ مِن صِيامِ شَهرٍ وقِيامِه، وإنْ مات جرى عليه عَمَلُه الذي كان يَعمَلُه، وأُجرِيَ عليه رِزقُه، وأَمِنَ الفَتَّانَ ) .
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ .
أي: وإنَّ اللهَ لَهُو أفضَلُ مَن يَرزُقُ عِبادَه، ويُعطيهم مِن فَضْلِه .
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان الرِّزقُ لا يَتِمُّ إلَّا بحُسنِ الدَّارِ، وكان ذلك مِن أفضَلِ الرِّزقِ؛ قال دالًّا على خِتامِ التي قَبلُ :
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ.
أي: ليُدخِلَنَّ اللهُ المُهاجِرينَ -الذين قُتِلوا أو ماتوا في سَبيلِه- الجنَّةَ، فيَرضَونَ بذلك، ولا يَبغُونَ بها بَدَلًا؛ جزاءً لهم على خُروجِهم مِن ديارِهم وأوطانِهم في سَبيلِه .
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ.
أي: وإنَّ اللهَ لَعليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بنِيَّةِ مَن يُهاجِرُ ويُجاهِدُ، حَليمٌ لا يُعاجِلُ بالعُقوبةِ مَن عصاه مِن خَلْقِه، بل يُواصِلُ لهم مِن رِزْقِه، ويَمنَحُهم مِن فَضْلِه .
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ثوابَ مَن هاجَرَ وقُتِلَ أو ماتَ في سَبيلِ اللهِ؛ أخبَرَ أنَّه لا يَدَعُ نُصرَتَهم في الدُّنيا على مَن بغَى عليهم .
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ.
أي: ذلك ومَن عاقَبَ مِن العِبادِ مَن اعتَدَى عليه بمِثلِ اعتِدائِه بالعَدلِ دُونَ زِيادةٍ، ثمَّ ظُلِمَ بالمُعاوَدةِ إلى عُقوبتِه؛ فإنَّ اللهَ يَنصُرُه على مَن ظَلَمَه .
إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.
أي: إنَّ اللهَ كَثيرُ العَفوِ والغُفرانِ لعِبادِه المُؤمِنينَ .

الفوائد التربوية :

1- قال اللهُ تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ يَجوزُ لمَن جُنيَ عليه وظُلِمَ مُقابلةُ الجاني بمِثْلِ جِنايتِه، فإنْ فَعَل ذلك فليس عليه سَبيلٌ، وليس بمَلومٍ، فإنْ بُغِيَ عليه بَعدَ هذا فإنَّ اللهَ يَنصُرُه؛ لأنَّه مَظلومٌ، فلا يَجوزُ أنْ يُبغَى عليه بسبَبِ أنَّه استَوْفَى حقَّه. وإذا كان المُجازي غَيرَه بإساءتِه إذا ظُلِم بَعدَ ذلك نَصَرَه اللهُ، فالَّذي بالأصلِ لمْ يُعاقِبْ أَحدًا إذا ظُلِم وجُنِيَ عليه؛ فالنَّصرُ إليه أَقرَبُ .
2- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فمُعامَلتُه لعِبادِه في جميعِ الأوقاتِ بالعَفوِ والمغفرةِ، فيَنبَغي لكم أيُّها المَظلومون المَجنيُّ عليهم، أنْ تَعفوا وتَصفَحوا وتَغفِروا؛ ليُعامِلَكمُ اللهُ كما تُعامِلون عِبادَه فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ لشورى: 40].

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا، وإنَّما سَوَّى بينَ مَن قُتِلَ في الجهادِ ومَن مات حَتْفَ أنْفِه في الوعْدِ؛ لاستوائِهما في القَصدِ وأصْلِ العمَلِ ، وقد استدلَّ به فَضالةُ بنُ عبيدٍ الأنصاريُّ الصحابيُّ على أنَّ المقتولَ والميِّتَ في سبيلِ الله سواءٌ في الفضلِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا هذه بِشارةٌ كُبرى لِمن هاجَرَ في سَبيلِ اللهِ، فخرَجَ مِن دارِه ووَطنِه وأولادِه ومالِه؛ ابتغاءَ وَجهِ اللهِ، ونُصرةً لدينِ اللهِ، فهذا قد وجب أجرُه على اللهِ، سواءٌ مات على فِراشِه، أو قُتِلَ مُجاهِدًا في سَبيلِ اللهِ .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا، فيه التعبيرُ بأداةِ التَّراخي ثُمَّ؛ إشارةً إلى طولِ العمرِ، وعلوِّ الرُّتبةِ بسببِ الهجرةِ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، فيه سؤالٌ: إنْ قيل: الرَّازق في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى، فكيف قال: لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ؟
والجوابُ على ذلك مِن وُجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ صِيغةَ التَّفْضيلِ في قولِه: لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ نظرًا إلى أنَّ بعضَ المخلوقينَ يَرْزُقُ بعضَهم، كقولِه تعالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء: 5] ، وقولِه تعالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ الآيةَ [البقرة: 233] ، ولا شَكَّ أنَّ فضلَ رِزْقِ اللَّهِ خلقَه على رِزْقِ بعضِ خلقِه بعضَهم، كفضلِ ذاتِه وسائِرِ صفاتِه على ذواتِ خلقِه وصفاتِهم؛ فرَزْق اللهِ لخَلْقِه ليس كَرَزْق الناسِ بعضِهِم لبعضٍ، فبيْن الفِعلِ والفِعلِ مِنَ المُنافاةِ كمِثلِ ما بيْن الذَّاتِ والذَّاتِ .
الثاني: أنَ يَكونَ المرادُ: أنَّه الأصلُ في الرِّزقِ، وغَيرُه إنَّما يَرزُقُ بما تَقدَّمَ مِنَ الرِّزقِ مِن جِهةِ اللهِ تعالى.
الثالثُ: أنَّ غَيرَه إنَّما يَرزُقُ لو حَصَل في قلْبِه إرادةُ ذلك الفعلِ، وتلك الإرادةُ مِنَ اللهِ؛ فالرَّازقُ في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى.
الرابعُ: أنَّ الغَيرَ إذا رَزقَ، فلولا أنَّ اللهَ تعالى أَعطى ذلك الإنسانَ أنواعَ الحَواسِّ، وأَعطاهُ السَّلامةَ والصِّحَّةَ والقدرةَ على الانتِفاعِ بذلك الرِّزقِ، لَما أَمكَنه الانتِفاعُ به، ورِزقُ الغَيرِ لا بدَّ وأنْ يَكونَ مَسبوقًا برِزقِ اللهِ، ومَلحوقًا به؛ حتَّى يَحصُلَ الانتِفاعُ. وأمَّا رِزقُ اللهِ تعالى فإنَّه لا حاجةَ به إلى رِزقِ غَيرِه؛ فثَبَتَ أنَّه سُبحانَه خَيرُ الرَّازقين. وقيل غَيرُ ذلك .
5- قولُه تعالى: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فيه وَصْفُ الرِّزقِ بالحُسْنِ؛ لإفادةِ أنَّه يُرْضيهم بحيث لا يَتطلَّبون غيرَه؛ لأنَّه لا أحسَنَ منه .
6- تَغييرُ أُسلوبِ الجَمْعِ الَّذي في قولِه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ... إلى أُسلوبِ الإفرادِ في قولِه: وَمَنْ عَاقَبَ؛ للإشارةِ إلى إرادةِ العُمومِ مِن هذا الكلامِ؛ لِيَكونَ بمَنزِلَةِ القاعدةِ الكُلِّيَّةِ لسُنَّةٍ مِن سُنَنِ اللهِ تعالى في الأُمَمِ، ولمَّا أتى في الصِّلةِ هنا بفِعْلِ عَاقَبَ، مع قَصدِ شُمولِ عُمومِ الصِّلةِ للَّذينَ أُذِنَ لهم بأنَّهم ظُلِموا؛ عَلِمَ السَّامِعُ أنَّ القِتالَ المأْذونَ لهم به قِتالُ جَزاءٍ على ظُلْمٍ سابقٍ، وفي ذلك تَحديدٌ لقانونِ العِقابِ: أنْ يكونَ مُماثِلًا للعُدْوانِ المَجْزِيِّ عليه، أي: ألَّا يكونَ أشَدَّ منه .
7- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ كان هذا شَرعًا لأصولِ الدِّفاعِ عن جماعةِ المُسلِمينَ، وأمَّا آياتُ التَّرغيبِ في العَفوِ فليس هذا مقامَ تَنزيلِها، وإنَّما هي في شَرعِ مُعاملاتِ الأمَّةِ بَعضِها مع بَعضٍ، وقد أكَّدَ لهم اللهُ نَصْرَه إن هم امتَثَلوا لِما أُذِنوا به، وعاقَبوا بمِثلِ ما عُوقِبوا به .
8- قولُه تعالى: وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ سُمِّيَ الابتداءُ بالعِقابِ الَّذي هو الجزاءُ؛ لأنَّه سبَبٌ وذاك مُسبَّبٌ عنه، كما يَحمِلون النَّظيرَ على النَّظيرِ، والنَّقيضَ على النَّقيضِ للمُلابَسةِ . وقيل: سُمِّي جَزاءُ العُقوبةِ عُقوبةً؛ لاستِواءِ الفِعلَينِ في جِنسِ المَكروهِ، كقَولِه تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] ، فالأوَّلُ سَيئةٌ، والمُجازاةُ عليها سُمِّيَت سَيِّئةً بأنَّها وقَعَت إساءةً بالمَفعولِ به؛ لأنَّه فعَلَ به ما يَسوؤُه . وسُمِّيَ اعتداءُ المُشرِكين على المُؤمِنين عِقابًا؛ لأنَّ الَّذي دفَعَ المُعتدِينَ إلى الاعتداءِ قَصْدُ العِقابِ على خُروجِهم عن دِينِ الشِّركِ، ونَبْذِ عِبادةِ أصنامِهم .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
- قولُه: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا جُملةٌ ابتدائيَّةٌ لابتداءِ معنًى آخَرَ . وفيها تَخصيصٌ للَّذين هاجَروا في سَبيلِ اللهِ بالذِّكْرِ؛ تَنويهًا بشأْنِ الهجرةِ ، وتَفخيمًا لشأنِ المهاجرينَ .
- وجُملةُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه. وصَريحُ هذه الجُملةِ: الثَّناءُ على اللهِ. وكِنايتُها: التَّعريضُ بأنَّ الرِّزقَ الَّذي يَرزُقُهم اللهُ هو خيرُ الأرزاقِ؛ لصُدورِه مِن خَيرِ الرَّازقينَ. وأُكِّدَتِ الجُملةُ بحَرفِ التَّوكيدِ (إنَّ)، ولامِهِ، وضَميرِ الفصلِ (هو)؛ تَصويرًا لعَظَمةِ رِزْقِ اللهِ تعالى .
2- قَولُه تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
- قولُه: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ بدَلُ اشتمالٍ مِن قولِه: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ؛ لأنَّ كَرامةَ المَنزِلِ مِن جُملةِ الإحسانِ في العطاءِ، بل هي أبهَجُ لَدى أهْلِ الهِمَمِ؛ ولذلك وُصِفَ المدْخَلُ بـ يَرْضَوْنَهُ. أو استئنافٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِه .
- وجُملةُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ تَذييلٌ، أي: عليمٌ بما تَجشَّموهُ مِن المَشاقِّ في شأْنِ هِجْرَتِهم مِن دِيارِهم وأهْلِهم وأموالِهم، وهو حليمٌ بهم فيما لاقَوهُ، فهو يُجازِيهم بما لَقُوهُ مِن أجْلِه .
3- قَولُه تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
- قولُه: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ذَلِكَ خبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، أي: الأمْرُ ذلك، وهي جُملةٌ لتَقريرِ ما قبْلَه، والتَّنبيهِ على أنَّ ما بعْدَه كَلامٌ مُستأنَفٌ . وأيضًا اسمُ الإشارةِ ذَلِكَ للفصْلِ بين الكلامينِ؛ لَفْتًا لأذهانِ السَّامعينَ إلى ما سيَجِيءُ من الكَلامِ. وجُملةُ وَمَنْ عَاقَبَ ... مَعطوفةٌ على جُملةِ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... [الحج: 58] ، والغرَضُ منها التَّهيئةُ للجهادِ، والوعْدُ بالنَّصرِ الَّذي أُشِيرَ إليه سابقًا بقولِه تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، إلى قولِه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 39-40] ؛ فإنَّه قد جاء مُعترِضًا في خِلالِ النَّعيِ على تَكذيبِ المُكذِّبين وكُفْرِهم النِّعَمَ، فأُكْمِلَ الغرَضُ الأوَّلُ بما فيه مِن انتقالاتٍ، ثمَّ عُطِفَ الكلامُ إلى الغرَضِ الَّذي جَرَتْ منه لَمحةٌ؛ فعاد الكلامُ هنا إلى الوعْدِ بنَصرِ اللهِ القومَ المُعْتَدى عليهم، كما وعَدَهم بأنْ يُدخِلَهم في الآخرةِ مُدخَلًا يَرضَونَه .
- و(ثمَّ) مِن قولِه: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ عَطْفٌ على جُملةِ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ؛ فـ(ثمَّ) للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ فإنَّ البَغْيَ عليه أهَمُّ مِن كَونِه عاقَبَ بمِثْلِ ما عُوقِبَ به؛ إذ كان مَبْدوءًا بالظُّلْمِ .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تَعليلٌ للاقتصارِ على الإذنِ في العِقابِ بالمُماثَلةِ في وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ دونَ الزِّيادةِ في الانتقامِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ تَعليلًا للوعْدِ بجَزاءِ المُهاجِرينَ؛ اتِّباعًا للتَّعليلِ في وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ؛ لأنَّ الكلامَ مُستمِرٌّ في شأْنِهم .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث طابَقَ ذِكْرُ العَفُوِّ الغفورِ هذا الموضِعَ، ووَجْهُ تَعلُّقِ قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ بما تقدَّمَ: أنَّ اللهَ تعالى ندَبَ المُعاقِبَ إلى العَفْوِ عن الجاني، والعَفْوُ عن الجاني مَندوبٌ إليه، ومُستوجِبٌ عندَ اللهِ المدْحَ إنْ آثَرَ ما نُدِبَ إليه وملَكَ سَبيلَ التَّنزيهِ؛ فحينَ لم يُؤثِرْ ذلك وانتصَرَ وعاقَبَ، ولم يَنظُرْ في قولِه: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة: 237] ؛ فإنَّ اللهَ لعَفُوٌّ غفورٌ، أي: لا يَلومُه على تَركِ ما بعَثَهُ عليه، وهو ضامِنٌ لنَصرِهِ في كرَّتِه الثَّانيةِ مِن إخلالِه بالعَفْوِ وانتقامِه مِن الباغي عليه؛ فلمَّا لم يأْتِ بهذا المَندوبِ فهو نَوعُ إساءةٍ، فكأنَّه سُبحانَه قال: إنِّي قد عفَوتُ عن هذه الإساءةِ وغفَرْتُها؛ فإنِّي أنا الَّذي أذِنْتُ لك فيه. ويَجوزُ أنَّه سُبحانَه وإنْ ضَمِنَ له النَّصرَ على الباغي، لكنَّه عرَّضَ مع ذلك بما كان أَولى به مِن العَفْوِ والمغفرةِ؛ فلَوَّحَ بذِكْرِ هاتينِ الصِّفتينِ؛ ففي ذِكرِهما إشعار بأنَّ العفوَ أفضلُ مِن العقوبةِ فكأنَّه حضٌّ على العفوِ، فلمَّا قال: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ، اتَّجَهَ لسائلٍ أنْ يَسألَ: لماذا يَنصُرُهُ؟ قال: لأنَّ اللهَ عَفُوٌّ غفورٌ، وكان من الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (إنَّ اللهَ يَنصُرُ المَظْلومين)؛ فعرَّضَ بهاتينِ الصِّفتينِ على سَبيلِ الكِنايةِ التَّلويحيَّةِ؛ لأنَّه أشار إلى المطلوبِ مِن بُعْدٍ. أو دَلَّ بذِكْرِ العَفْوِ والمغفرةِ على أنَّه قادِرٌ على العُقوبةِ؛ لأنَّه لا يُوصَفُ بالعفْوِ إلَّا القادرُ على ضِدِّه .