موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الرَّابعُ عَشَر: كُلُّ فِعلٍ مَأذونٍ فيه يُصبحُ غَيرَ مَأذونٍ فيه إذا آل إلى مَفسَدةٍ غالبةٍ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذا المَعنى عِندَ كَثيرٍ مِنَ الفُقَهاءِ [1017] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/100)، ((الذخيرة)) للقرافي (1/152)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/4)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/54)، ((تبصرة الحكام)) لابن فرحون (2/364). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الفِعلُ المَأذونُ فيه مِنَ الشَّارِعِ هو المُباحُ. وهذه القاعِدةُ يُعَبَّرُ عنها عِندَ الأُصوليِّينَ بسَدِّ الذَّرائِعِ، ويَنقَسِمُ الفِعلُ باعتِبارِ أدائِه إلى المَفسَدةِ، إلى أقسامٍ:
1- ما كان إفضاؤُه إلى المَفسَدةِ قطعيًّا، كَحَفرِ الآبارِ في طُرُقِ المُسلمينَ، بحَيثُ يَقَعُ فيها المارُّونَ على وَجهِ القَطعِ، فهذا القِسمُ مُتَّفَقٌ على وُجوبِ سَدِّه والمَنعِ مِنه.
2- ما كان إفضاؤُه إلى المَفسَدةِ نادِرًا، كالتَّجاوُرِ في البُيوتِ يُخشى مِنه وُقوعُ الزِّنا، وكَزِراعةِ العِنَبِ خَشيةَ اتِّخاذِها خَمرًا، فهذا مِمَّا اتُّفِقَ أيضًا على عَدَمِ سَدِّه، بَل يَبقى على أصلِه مِنَ الإذنِ [1018] قال القَرافيُّ: (الذَّرائِعُ ثَلاثةُ أقسامٍ: قِسمٌ أجمَعَتِ الأُمَّةُ على سَدِّه ومَنعِه وحَسمِه، كَحَفرِ الآبارِ في طُرُقِ المُسلِمينَ؛ فإنَّه وسيلةٌ إلى إهلاكِهم، وكذلك إلقاءُ السُّمِّ في أطعِمَتِهم، وسَبِّ الأصنامِ عِندَ مَن يُعلمُ مِن حالِه أنَّه يَسُبُّ اللَّهَ تعالى عِندَ سَبِّها. وقِسمٌ أجمَعَتِ الأُمَّةُ على عَدَمِ مَنعِه وأنَّه ذَريعةٌ لا تُسَدُّ ووسيلةٌ لا تُحسَمُ، كالمَنعِ مِن زِراعةِ العِنَبِ خَشيةَ الخَمرِ؛ فإنَّه لم يَقُلْ به أحَدٌ، وكالمَنعِ مِنَ المُجاورةِ في البُيوتِ خَشيةَ الزِّنا). ((الفروق)) (2/32). .
3- ما كان إفضاؤُه إلى المَفسَدةِ مَظنونًا ظنًّا غالبًا، فإنَّ الخِلافَ وإن حَصَل في جُزئيَّاتٍ مِنه إلَّا أنَّه مُتَّفَقٌ عليه في الجُملةِ، ويَتَّجِهُ الخِلافُ إلى ما كان الظَّنُّ فيه على وَجهِ الكَثرةِ لا الغَلبةِ، ويُؤَيِّدُ ذلك أنَّ الظَّنَّ الغالبَ يجري مَجرى العِلمِ في أبوابِ العَمَليَّاتِ [1019] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبدالسلام (1/100). .
4- ما كان إفضاؤُه مَظنونًا على وَجهِ الكَثرةِ لا غالبًا ولا نادِرًا، فهذا مَحَلُّ نِزاعٍ بَينَ الفُقَهاءِ والأُصوليِّينَ، والرَّاجِحُ أنَّه يَجِبُ سَدُّه؛ لأنَّ فيه سَدًّا لأسبابِ الفسادِ التي تُؤَدِّي إلى الفسادِ، وإن كانتِ الأسبابُ في نَفسِها مُباحةً، وبحَسَبِ عِظَمِ المَفسَدةِ في المَمنوعِ يَكونُ اتِّساعُ المَنعِ وشِدَّتُه.
وتُشيرُ القاعِدةُ إلى أنَّه يُشتَرَطُ أن يَكونَ إفضاءُ الفِعلِ إلى المَفسَدةِ -المُرادُ دَفعُها- مَقطوعًا به أو غالبًا. والغَلبةُ وإن لم تَبلُغْ مَرتَبةَ اليَقينِ، إلَّا أنَّها تُرَجِّحُ أحَدَ الجانِبَينِ على الآخَرِ، والظَّنُّ الغالبُ يُجريه العُلماءُ مَجرى القَطعِ؛ التِفاتًا إلى تَصَرُّفاتِ الشَّارِعِ، وعَمَلًا بمُقتَضى العَقلِ والتَّجرِبةِ؛ إذِ اليَقينُ يَشُقُّ تَحصيلُه في أكثَرِ الأحيانِ، ولو عُلِّقَت به الأحكامُ -مَعَ تَعَذُّرِه- لأصبَحَ الحَرَجُ عُنوانًا للشَّريعةِ [1020] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/167)، ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/100)، ((الذخيرة)) للقرافي (1/152)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/4)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/54)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (6/194) ((تربية ملكة الاجتهاد)) لبولوز (2/1159)، ((اعتبار المآلات)) للسنوسي (ص255). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الحُكمُ للغالبِ)؛ لأنَّ الفِعلَ إذا آل إلى مَفسَدةٍ غالبةٍ صارَ غَيرَ مَأذونٍ فيه؛ لغَلبةِ المَفسَدةِ فيه؛ لأنَّ الحُكمَ للغالبِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
دَلَّ على هذه القاعِدةِ القُرآنُ والسُّنَّةُ:
1- مِنَ القُرآنِ:
- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا [الأعراف: 56] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
نَهى اللهُ تعالى عن كُلِّ ما يُفضي إلى إفسادِ ما هو على حالةِ الصَّلاحِ في الأرضِ، وفيه دَلالةٌ على تَحريمِ كُلِّ ما يُؤَدِّي إلى الفسادِ [1021] يُنظر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (8/244). .
- وقال اللهُ تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى حَرَّمَ سَبَّ آلهةِ المُشرِكينَ، مَعَ كَونِ السَّبِّ حَميَّةً للهِ وإهانةً لآلهَتِهم؛ وذلك لكَونِه يُفضي إلى سَبِّهمُ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى [1022] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 552)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (4/5). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
- عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبَينَهما مُشَبَّهاتٌ لا يَعلمُها كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَنِ اتَّقى المُشَبَّهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ كَراعٍ يَرعى حَول الحِمى، يوشِكُ أن يواقِعَه، ألَا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إنَّ حِمى اللهِ في أرضِه مَحارِمُه )) [1023] أخرجه البخاري (52) واللفظ له، ومسلم (1599). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنَعَ مِنَ الإقدامِ على المُتَشابهاتِ خَشيةَ الوُقوعِ في المُحَرَّماتِ، والحَديثُ وإن كان لفظُه لفظَ الشَّرطِ والإخبارِ، فإنَّ مَعناه الأمرُ؛ وذلك أنَّه لا خِلافَ بَينَ المُسلمينَ في أنَّه يَجِبُ على الإنسانِ أن يَفعَلَ ما هو أبرَأُ لدينِه، فوجَبَ أن يَترُكَ ما يتَوصَّلُ به إلى الحَرامِ [1024] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (3/360)، ((إحكام الفصول)) للباجي (2/698). .
- وعن عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَخلوَنَّ أحَدُكُم بامرَأةٍ؛ فإنَّ الشَّيطانَ ثالثُهما )) [1025] أخرجه الترمذي (2165)، وأحمد (114) واللفظ له. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحهـ)) (7254)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2165)، والوادعي بمجموع طرقه في ((أحاديث معلة)) (323)، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (5/26): حَسَنٌ صحيحٌ، وقال ابنُ كَثيرٍ في ((إرشاد الفقيهـ)) (2/401): له طُرُقٌ، وهو حَديثٌ مَشهورٌ جِدًّا. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الخَلوةَ في ظاهِرِها لا يَلزَمُ مِنها الوُقوعُ في الفاحِشةِ، لكِن لمَّا كانت سَبَبًا إليها غالبًا حَرَّمَها الشَّرعُ؛ فتَحريمُها مِن تَحريمِ الوسائِلِ المُفضيةِ إلى المَفسَدةِ [1026] يُنظر: ((تربية ملكة الاجتهاد)) لبولوز (2/1154). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- لا يَجوزُ إنشاءُ بُنوكِ المَنيِّ، وهيَ أماكِنُ خاصَّةٌ يَتِمُّ فيها حِفظُ الحَيَواناتِ المَنَويَّةِ الخاصَّةِ بالرَّجُلِ، ثُمَّ اللُّجوءُ إليها عِندَ الحاجةِ لاستِخدامِها في التَّلقيحِ الصِّناعيِّ؛ وذلك لأنَّه يُفضي إلى كَثيرٍ مِنَ المَفاسِدِ؛ مِنها: اختِلاطُ الأنسابِ، وذلك بعِدَّةِ طُرُقٍ: إمَّا عن طَريقِ الخَطَأِ -في الحِسابِ الخاصِّ- في نِسبةِ المَنيِّ لصاحِبِه، فيُنسَبُ لشَخصٍ آخَرَ. وإمَّا لأنَّ هذه البُنوكَ تَقومُ -في الحِساباتِ العامَّةِ- بخَلطِ السَّوائِلِ المَنَويَّةِ وعُبوَّاتِها دونَ تَحديدِ أصحابِها كَما سَبَقَ، أو لأنَّها تَقومُ بخَلطِ السَّوائِلِ المَنَويَّةِ بَعضِها ببَعضٍ؛ لأجلِ بَيعِه لراغِباتِ الحَملِ بهذه الطَّريقةِ.
ومِن مَفاسِدِ إنشاءِ هذه البُنوكِ أنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى هَدمِ كيانِ الأُسرةِ؛ بما تُنتِجُه مِن أبناءٍ لا آباءَ لهم [1027] يُنظر: ((البنوك الطبية البشرية وأحكامها الفقهية)) لإسماعيل مرحبًا (ص: 381)، ((أحكام التدخل الطبي في النطف البشرية)) لطارق خلف (ص: 187)، ((الموسوعة الميسرة في فقه القضايا المعاصرة، القضايا المعاصرة في الفقه الطبي)) مركز التميز البحثي بجامعة الإمام محمد بن سعود (ص: 167)، ((الإنجاب الصناعي بين التحليل والتحريم)) لمحمد النجيمي (ص: 190). .
2- لا يَجوزُ التَّعقيمُ الدَّائِمُ للرَّجُلِ والمَرأةِ، وهو عِبارةٌ عن إجراءٍ جِراحيٍّ لمَنعِ الحَملِ، يُفضي إلى انسِدادِ قَناتَي فالوبَ في المَرأةِ، أوِ القَناتَينِ المَنَويَّتَينِ في الرَّجُلِ، دونَ التَّعريضِ لوظيفةِ الأعضاءِ التَّناسُليَّةِ أوِ التَّسَبُّبِ بفِقدانِ الرَّغبةِ أوِ المُتعةِ الجِنسيَّةِ.
وذلك لأنَّ التَّعقيمَ الدَّائِمَ يُفضي إلى كَثيرٍ مِنَ المَفاسِدِ؛ مِنها: قَطعُ النَّسلِ؛ حَيثُ إنَّ الشَّخصَ الذي تُجرى له هذه العَمَليَّةُ يَكونُ غَيرَ قادِرٍ على الإنجابِ، وهذا يُؤَدِّي إلى الإخلالِ بمَقصَدٍ مِنَ المَقاصِدِ الضَّروريَّةِ التي جاءَ الشَّرعُ بالمُحافظةِ عليها، وهو المُحافظةُ على النَّسلِ [1028] يُنظر: ((أحكام التدخل الطبي في النطف البشرية)) لطارق خلف (ص: 236)، ((الأمراض الوراثية حقيقتها وأحكامها في الفقه الإسلامي)) لهيلة اليابس (ص: 362)، ((أحكام الهندسة الوراثية)) لسعد الشويرخ (ص: 238). .
3- لا يَجوزُ بَيعُ الأرضِ أو تَأجيرُها للكافِرِ المُحارِبِ، ويَحرُمُ بَيعُ الأراضي للاحتِلالِ حالَ الاستِضعافِ، مَعَ أنَّ الأصلَ في التَّعامُلِ مَعَ الكافِرِ في البَيعِ أوِ الشِّراءِ هو الحِلُّ، إلَّا أنَّه عِندَما تَتَعَرَّضُ دَولةٌ إسلاميَّةٌ للاحتِلالِ، فإنَّ قاعِدةَ سَدِّ الذَّرائِعِ تَقتَضي تَحريمَ المُباحِ إذا أفضى إلى حَرامٍ، فلا يَجوزُ للمُسلمينَ بَيعُ الأراضي أوِ العَقاراتِ أو تَأجيرُها على الكافِرِ المُحارِبِ؛ لأنَّ هذا يَزيدُهم قوَّةً وتَسَلُّطًا على المُسلمينَ، ويُطيلُ مِن أمَدِ بَقائِهم في ديارِهم [1029] يُنظر: ((الاستضعاف وأحكامهـ)) لزياد المشوخي (ص: 300). .

انظر أيضا: