موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّالثُ: يُحكَمُ بالغالبِ ما لم يَظهَرْ خِلافُه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "يُحكَمُ بالغالِبِ ما لم يَظهَرْ خِلافُه" [913] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/248)، ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 158)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/346). ، وبصيغةِ: البِناءُ على الغالِبِ واجِبٌ حتَّى يَتَبَيَّنَ ما يُخالِفُه [914] يُنظر: ((شرح أدب القاضي للخصاف)) للصدر الشهيد (4/162). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
الحُكمُ المُستَمِرُّ هو العَمَلُ بالغالبِ إلى أن يَتَبَيَّنَ خِلافُه، فإذا تَبَيَّنَ خِلافُه بالتَّصريحِ فالعَمَلُ بما ظَهَرَ التَّصريحُ به؛ لأنَّه لا يَجوزُ العَمَلُ بالظَّاهرِ وتَركُ النَّصِّ. وتُفيدُ القاعِدةُ وُجوبَ الحُكمِ بالغالبِ عِندَ عَدَمِ التَّصريحِ بخِلافِه؛ لأنَّ أُسلوبَ القاعِدةِ أُسلوبٌ خَبَريٌّ، والأخبارُ في كَلامِ الفُقَهاءِ للوُجوبِ [915] يُنظر: ((شرح أدب القاضي للخصاف)) للصدر الشهيد (4/162)، ((الحاوي للفتاوى)) للسيوطي (1/248)، ((تكملة حاشية ابن عابدين)) لمحمد علاء الدين (7/260). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الحُكمُ للغالبِ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ الأصلَ هو الحُكمُ بالغالبِ على الدَّوامِ إلى أن يَظهَرَ التَّصريحُ بخِلافِه، فإذا لم يَظهَرْ بخِلافِه فالعَمَلُ مستمِرٌّ بالقاعِدةِ الأُمِّ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ (الحُكمُ للغالبِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا ألقى إنسانٌ عَذِرةً أو بَولًا في ماءٍ فانتَضَحَ عليه ماءٌ مِن وقعِها، لا يَنَجَسُ ما لم يَظهَرْ لونُ النَّجاسةِ أو يُعلَمْ أنَّه البَولُ؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ الرَّشَاشَ المُتَصاعِدَ مِن صَدمِ شَيءٍ للماءِ إنَّما هو أجزاءُ الماءِ لا مِن أجزاءِ الشَّيءِ الصَّادِمِ، فيُحكَمُ بالغالبِ ما لم يَظهَرْ خِلافُه [916] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/248)، ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 158). .
2- إذا أرادَ شَخصٌ أن يَشتَريَ مِن بائِعٍ عِنَبًا، فلا يَنبَغي للبائِعِ أن يَسألَ المُشتَريَ لماذا يَشتَري العِنَبَ؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنَّ مَن يَشتَري العِنَبَ مِن آحادِ النَّاسِ إنَّما يَشتَريه ليَأكُلَه، وبخاصَّةٍ إذا كانتِ الكَمِّيَّةُ مَعقولةً بحَسَبِ العُرفِ والعادةِ. لكِن إذا أرادَ المُشتَري أن يَشتَريَ كَمِّيَّةً كَبيرةً مِنَ العِنَبِ -وهو غَيرُ تاجِرٍ في الفواكِهِ مَثَلًا- وقد يُظَنُّ أو يَغلبُ على الظَّنِّ أنَّه يَصنَعُه خَمرًا. ففي هذه الحالةِ خِلافٌ في جَوازِ بَيعِه، والغالبُ أنَّه يَجوزُ؛ لأنَّه قد يُريدُ أن يَعصِرَه ليَكونَ خَلًّا، أو عَصيرًا لا خَمرًا، إلَّا إذا عُرِف بصِناعةِ الخَمرِ يَقينًا، أو ظَنًّا غالبًا، أو قامَت ضِدَّه شُبهةٌ قَويَّةٌ. ففي هذه الحالِ يَحرُمُ بَيعُه [917] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (12/482)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/288)، ((الفقه الإسلامي وأدلتهـ)) لوهبة الزحيلي (5/3458). .
3- إذا قُلنا: إنَّ الغالبَ في النَّاسِ الغِنى، والفقرُ نادِرٌ، صارَ مَنِ ادَّعى الفقرَ ادَّعى خِلافَ الغالِبِ، فلا يُقبَلُ ذلك مِنه. وعلى ذلك فمَنِ اشتَرى سِلعةً ثُمَّ ادَّعى الفقرَ والعَجزَ عن ثَمَنِها، لا يُصَدَّقُ إلَّا إذا تَبَيَّنَ ذلك بدَليلٍ [918] يُنظر: ((شرح التلقين)) للمازري (3/2/179). .

انظر أيضا: