موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الرَّابعُ: الغالبُ هو المُعتَبَرُ ما لم يُؤَدِّ إلى الحَرَجِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "الغالِبُ هو المُعتَبَرُ ما لم يُؤَدِّ إلى الحَرَجِ" [919] يُنظر: ((المعيار المعرب)) للونشريسي (10/205). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
تُفيدُ القاعِدةُ أنَّ الأصلَ هو العَمَلُ بالغالبِ إلَّا إذا أدَّى العَمَلُ به إلى إلحاقِ الحَرَجِ والمَشَقَّةِ بالعِبادِ؛ فيُقدَّمُ رَفعُ الحَرَجِ لأنَّه الأصلُ، وإذا انتَفى الحَرَجُ وجَبَ اعتِبارُ الغالِبِ والحُكمُ به؛ فإذا كان للمَسألةِ الواحِدةِ وجهانِ للحُكمِ، أحَدُهما باعتِبارِ الغالبِ فيها، والآخَرُ باعتِبارِ النَّادِرِ، فإنَّ الشَّارِعَ يَأخُذُ بالغالِبِ ويَبني الحُكمَ عليه. وهذا هو الأصلُ، لكِنَّه قد يُلغي هذا الأصلَ ويُقدِّمُ العَمَلَ بالنَّادِرِ على العَمَلِ بالغالبِ إذا كان الحُكمُ بموجِبِ النَّادِرِ أكثَرَ؛ تَيسيرًا على المُكَلَّفينَ [920] يُنظر: ((المعيار المعرب)) للونشريسي (10/205)، ((التاج والإكليل)) للمواق (1/218)، ((شرح المنهج المنتخب (2/584)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/621). .
قال القَرافيُّ: "الأصلُ اعتِبارُ الغالِبِ، وتَقديمُه على النَّادِرِ، وهو شَأنُ الشَّريعةِ، كَما يُقدَّمُ الغالِبُ في طَهارةِ المياهِ وعُقودِ المُسلمينَ، ويُقصَرُ في السَّفرِ، ويُفطَرُ بناءً على غالبِ الحالِ، وهو المَشَقَّةُ، ويُمنَعُ شَهادةُ الأعداءِ والخُصومِ؛ لأنَّ الغالبَ مِنهمُ الحَيفُ، وهو كَثيرٌ في الشَّريعةِ لا يُحصى كَثرةً، وقد يُلغي الشَّرعُ الغالِبَ رَحمةً بالعِبادِ... فيَنبَغي لمَن قَصَدَ إثباتَ حُكمِ الغالِبِ دونَ النَّادِرِ أن يَنظُرَ: هَل ذلك الغالِبُ مِمَّا ألغاه الشَّرعُ أم لا؟ وحينَئِذٍ يُعتَمَدُ عليه، وأمَّا مُطلَقُ الغالبُ كَيف كان في جَميعِ صورِه فخِلافُ الإجماعِ" [921] ((الفروق)) (4/104 - 107). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِن قاعِدةِ (الحُكمُ للغالبِ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ رَفعَ الحَرَجِ هو الأصلُ، فإذا انتَفى الحَرَجُ كان الأصلُ هو العَمَلَ بالقاعِدةِ الأُمِّ وتَحكيمُ الغالِبِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقرآنِ والسنَّةِ، والإجماعِ، والقواعدِ:
1- مِنَ القرآنِ:
مِنَ الأدِلَّةُ القرآنيَّةِ على رَفعِ الحَرَجِ في الشَّريعةِ:
قَولُ اللهِ تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: 5] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ ما يَصنَعُه أهلُ الكِتابِ مِنَ الأطعِمةِ في أوانيهم وبأيديهم الغالِبُ نَجاسَتُه؛ لعَدَمِ تحرُّزِهم عنِ النَّجاساتِ غالبًا، ولمُباشَرَتِهمُ الخُمورَ والخَنازيرَ ولُحومَ المَيتاتِ. والنَّادِرُ طَهارَتُه، ومَعَ ذلك أثبَتَ الشَّرعُ حُكمَ النَّادِرِ وألغى حُكمَ الغالِبِ، وجَوَّزَ أكلَه؛ تَوسِعةً على العِبادِ، ورَفعًا للحَرَجِ عنهم [922] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/105)، ((شرح المنهج المنتخب)) لابن المنجور (2/591)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/621). .
2- مِنَ السنَّةِ:
دلَّت السنَّةُ على رَفعِ الحَرَجِ في الشَّريعةِ، ومِنَ ذلِك:
عن أبي قَتادةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُصَلِّي وهو حامِلٌ أُمامةَ بنتَ زَينَبَ بنتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولأبي العاصِ بنِ رَبيعةَ بنِ عَبدِ شَمسٍ، فإذا سَجَدَ وَضَعها، وإذا قامَ حَمَلها )) [923] أخرجه البخاري (516) واللفظ له، ومسلم (543). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الغالبَ على ثيابِ الصِّبيانِ النَّجاسةُ، لا سيَّما مَعَ طولِ لُبسِهم لها، ولم يعتَبِرِ الشَّرعُ هذا الغالِبَ، بَل اعتَبَرَ النَّادِرَ، وهو طَهارةُ الثِّيابِ [924] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (1/196)، ((ترتيب الفروق)) للبقوري (2/275)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (2/623). .
3- مِنَ الإجماعِ:
فقد نَقَل القَرافيُّ [925] قال: (وأمَّا مُطلَقُ الغالِبِ كَيف كان في جَميعِ صورِه فخِلافُ الإجماعِ). ((الفروق)) (4/107). الإجماعَ على أنَّ العَمَلَ بالغالبِ مُطلقًا خِلافُ الإجماعِ، وكَذا نَقَله المَوَّاقُ [926] قال: (فمَن راعى الغالِبَ في جَميعِ المَسائِلِ خالف الإجماعَ). ((التاج والإكليل)) (1/218). .
4- مِنَ القواعدِ:
دَلَّ على هذه القاعدةِ: القاعِدةُ الأُمُّ (الحُكمُ للغالبِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا تَزَوَّجَتِ امرَأةٌ فجاءَت بولدٍ لسِتَّةِ أشهرٍ جازَ أن يَكونَ مِن وطءٍ قَبلَ العَقدِ، وهو الغالبُ، أو مِن وطءٍ بَعدَه، وهو النَّادِرُ؛ فإنَّ غالِبَ الأجِنَّةِ لا توضَعُ إلَّا لتِسعةِ أشهُرٍ، وإنَّما يوضَعُ في السِّتَّةِ سَقطًا في الغالِبِ، فألغى الشَّرعُ حُكمَ الغالِبِ، وأثبَتَ حُكمَ النَّادِرِ، وجَعلَه مِنَ الوطءِ بَعدَ العَقدِ؛ لُطفًا بالعِبادِ لحُصولِ السَّترِ عليهم وصَونِ أعراضِهم [927] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/104). .
2- الغالِبُ على ثيابِ الصِّبيانِ النَّجاسةُ، لا سيَّما مَعَ طولِ لُبسِهم لها، والنَّادِرُ سَلامَتُها، وقد جاءَتِ السُّنَّةُ بصَلاتِه عليه السَّلامُ بأمامةَ يَحمِلُها في الصَّلاةِ إلغاءً لحُكمِ الغالِبِ، وإثباتًا لحُكمِ النَّادِرِ؛ لُطفًا بالعِبادِ [928] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/105). .
3- ثيابُ الكُفَّارِ التي يَنسِجونَها بأيديهم مَعَ عَدَمِ تَحَرُّزِهم مِنَ النَّجاساتِ، فالغالِبُ نَجاسةُ أيديهم لِما يُباشِرونَه عِندَ قَضاءِ حاجةِ الإنسانِ، ومُباشَرَتِهمُ الخُمورَ والخَنازيرَ ولُحومَ المَيتاتِ، وجَميعُ أوانيهم نَجِسةٌ بمُلابَسةِ ذلك، ويُباشِرونَ النَّسجَ والعَمَلَ مَعَ بِلَّةِ أيديهم وعَرَقِها حالةَ العَمَلِ، ويَبُلُّونَ تلك الأمتِعةَ بما يُقَوِّي لهمُ الخُيوطَ ويُعينُهم على النَّسجِ، فالغالِبُ نَجاسةُ هذا القُماشِ، والنَّادِرُ سَلامَتُه عنِ النَّجاسةِ، وقد سُئِل عنه مالِكٌ فقال: (ما أدرَكتُ أحَدًا يَتَحَرَّزُ مِنَ الصَّلاةِ في مِثلِ هذا)، فأثبَتَ الشَّارِعُ حُكمَ النَّادِرِ، وألغى حُكمَ الغالِبِ، وجَوَّز لُبسَه؛ تَوسِعةً على العِبادِ [929] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/105). .
قال القَرافيُّ بَعدَ ذِكرِ هذه الفُروعِ وغَيرِها: (ونَظائِرُ هذا البابِ كَثيرةٌ في الشَّريعةِ، فيَنبَغي أن تُتَأمَّلَ وتُعلَمَ، فقد غَفل عنها قَومٌ في الطَّهاراتِ، فدَخَل عليهمُ الوَسواسُ، وهم يَعتَقِدونَ أنَّهم على قاعِدةٍ شَرعيَّةٍ، وهيَ الحُكمُ بالغالِبِ؛ فإنَّ الغالبَ على النَّاسِ والأواني والكُتُبِ وغَيرِ ذلك مِمَّا يُلابسونَه النَّجاسةُ، فيَغسِلونَ ثيابَهم وأنفُسَهم مِن جَميعِ ذلك بناءً على الغالِبِ. وهو غالبٌ كَما قالوا، ولكِنَّه قدَّمَ النَّادِرَ الموافِقَ للأصلِ عليه، وإن كان مَرجوحًا في النَّفسِ، وظَنَّه مَعدومَ النِّسبةِ للظَّنِّ النَّاشِئِ عنِ الغالِبِ، لكِن لصاحِبِ الشَّرعِ أن يَضَعَ في شَرعِه ما شاءَ، ويَستَثنيَ مِن قَواعِدِه ما شاءَ؛ هو أعلمُ بمَصالحِ عِبادِه، فيَنبَغي لمَن قَصدَ إثباتَ حُكمِ الغالِبِ دونَ النَّادِرِ أن يَنظُرَ: هَل ذلك الغالِبُ مِمَّا ألغاه الشَّرعُ أم لا، وحينَئِذٍ يُعتَمَدُ عليه، وأمَّا مُطلقُ الغالبِ كَيف كان في جَميعِ صورِه فخِلافُ الإجماعِ) [930] ((الفروق)) (4/107). .

انظر أيضا: