موسوعة القواعد الفقهية

الفَرعُ الأوَّلُ: مُعظَمُ الشَّيءِ يَقومُ مَقامَ كُلِّه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "مُعظَمُ الشَّيءِ يَقومُ مَقامَ كُلِّه" [822] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (3/323)، ((المنثور)) للزركشي (3/183)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/437)، ((تفسير الألوسي)) (8/125). ، وكذلك بصيغةِ: "مُعظَمُ الشَّيءِ يَجوزُ أن يَقومَ مَقامَ كُلِّ الشَّيءِ" [823] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (6/292). ، وبصيغةِ: "مُعظَمُ الشَّيءِ وجُلُّه يُنَزَّلُ مَنزِلةَ كُلِّه" [824] يُنظر: ((الكشاف)) للزمخشري (1/30)، ((تفسير النسفي)) (1/37)، ((تفسير ابن كثير)) (1/159)، ((فتح القدير)) للشوكاني (1/35). ، وبصيغةِ: "حُكمُ مُعظَمِ الشَّيءِ حُكمُ كُلِّه" [825] يُنظر: ((الكواكب الدراري)) للكرماني (1/192)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/115)، ((عمدة القاري)) للعيني (1/282). ، وبصيغةِ: "للأكثَرِ حُكمُ الكُلِّ" [826] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/54)، ((تحفة الفقهاء)) لعلاء الدين السمرقندي (1/241)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (7/111)، ((القواعد الفقهية)) لعلي الندوي (ص: 343). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
مُعظَمُ الشَّيءِ: أي: أكثَرُه، ومَعنى القاعِدةِ: أنَّ الشَّرعَ قد يَجعَلُ لأكثَرِ الشَّيءِ حُكمَ كُلِّه في بَعضِ المَسائِلِ، فإذا أتى المُكَلَّفُ بأكثَرِ العِبادةِ في تلك الصُّورِ كان له حُكمُ مَن أدَّاها تامَّةً مِن حَيثُ الثَّوابُ، وبَراءةُ الذِّمَّةِ؛ لأنَّ مَن أتى بمُعظَمِ الشَّيءِ حَلَّ مَحَلَّ مَن أتى بجَميعِه. ويَجوزُ أن يُذكَرَ مُعظَمُ الشَّيءِ، ويَكونُ ذلك قائِمًا مَقامَ الكُلِّ؛ لأنَّ العادةَ جاريةٌ أنَّ ذِكرَ مُعظَمِ الشَّيءِ يُجعَلُ دَلالةً على باقيه. قال الفُقَهاءُ: و(عامَّةُ الشَّيءِ) يُطلقُ بإزاءِ مُعظَمِ الشَّيءِ وبإزاءِ جَميعِه [827] يُنظر: ((العين)) للخليل بن أحمد (2/91)، ((شرح الرسالة)) للقاضي عبد الوهاب (2/123)، ((العدة)) لأبي يعلى (2/418)، ((التعليقة)) للقاضي حسين (1/180)، ((المهيأ)) للكماخي (4/73)، ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/437). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (الغالِبُ كالمُحَقَّقِ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ مُعظَمَ الشَّيءِ إذا قامَ مَقامَ الشَّيءِ كُلِّه فهو كالمُحَقَّقِ، فيُعتَدُّ بمُعظَمِ الشَّيءِ كَما يُعتَدُّ بجَميعِه. والفرقُ بَينَها وبَينَ القاعِدةِ الأُمِّ: أنَّ لفظَ (الغالِبِ) مُتَعَلِّقٌ بالأُمورِ المَعنَويَّةِ والظَّنِّيَّةِ، ولفظَ (مُعظَم) مُتَعَلِّقٌ بالأُمورِ الحِسِّيَّةِ والمَوجودةِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قال اللهُ تعالى: فَكُّ رَقَبةٍ [البلد: 13] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الرَّقَبةَ: اسمٌ لعُضوٍ مَخصوصٍ، فعَبَّرَ بها عنِ الكُلِّ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه يَجوزُ أن يُذكَرَ مُعظَمُ الشَّيءِ، ويَكونَ ذلك قائِمًا مَقامَ الكُلِّ [828] يُنظر: ((التعليقة)) للقاضي حسين (1/180). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:
عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَكِبَ فرَسًا، فصُرِعَ عنه، فجُحِشَ [829] أي: خدش. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (4/ 132). شِقُّه الأيمَنُ، فصَلَّى صَلاةً مِنَ الصَّلواتِ وهو قاعِدٌ، فصَلَّينا وراءَه قُعودًا، فلمَّا انصَرَف قال: إنَّما جُعِل الإمامُ ليُؤتَمَّ به، فإذا صَلَّى قائِمًا فصَلُّوا قيامًا، فإذا رَكَعَ فاركَعوا، وإذا رَفعَ فارفَعوا، وإذا قال: سَمِعَ اللَّهُ لمَن حَمِدَه، فقولوا: رَبَّنا ولك الحَمدُ، وإذا صَلَّى قائِمًا فصَلُّوا قيامًا، وإذا صَلَّى جالسًا فصَلُّوا جُلوسًا أجمَعونَ )) [830] أخرجه البخاري (689) واللفظ له، ومسلم (411). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَذكُرْ جَميعَ أفعالِ الصَّلاةِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه يَجوزُ أن يُذكَرَ مُعظَمُ الشَّيءِ، ويَكونَ ذلك قائِمًا مَقامَ الكُلِّ [831] يُنظر: ((التعليقة)) للقاضي حسين (1/180). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- تَحصُلُ الرَّكعةُ بإدراكِ الرُّكوعِ، فبهذا يَكونُ المَأمومُ قد أدرَكَ مُعظَمَ الرَّكعةِ مَعَ الإمامِ، ولو أدرَكَ دونَ المُعظَمِ لم يُجعَلْ مُدرِكًا لها، فلو أدرَكَ الإمامَ راكِعًا كان في الاعتِدادِ بالرَّكعةِ كالمُدرِكِ له مُحرِمًا [832] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (11/61)، ((المهذب)) للشيرازي (1/332)، ((المنثور)) للزركشي (3/183). .
2- تَجوزُ نيَّةُ صيامِ النَّفلِ قَبلَ الزَّوالِ، ولا تَجوزُ بَعدَ الزَّوالِ عِندَ الشَّافِعيِّ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ؛ لأنَّ النِّيَّةَ لم تَصحَبْ مُعظَمَ العِبادةِ، فأشبَهَ ما إذا نَوى مَعَ غُروبِ الشَّمسِ، ويُخالفُ النِّصفُ الأوَّلُ؛ لأنَّ النِّيَّةَ هناكَ صَحِبَت مُعظَمَ العِبادةِ، ومُعظَمُ الشَّيءِ يَجوزُ أن يَقومَ مَقامَ كُلِّ الشَّيءِ [833] يُنظر: ((المهذب)) للشيرازي (1/332)، ((بحر المذهب)) للروياني (3/323)، ((المجموع)) للنووي (6/292)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/568). .
3- إذا أحرَمَ الصَّبيُّ وبَلغَ أثناءَ الوُقوفِ على عَرَفةَ حُسِبَ عن فرضِ الإسلامِ؛ لإدراكِه مُعظَمَ الحَجِّ وهو بالغٌ [834] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (3/183). .
4- إذا أتلَفَ أكثَرَ العُضوِ، أو أذهَبَ مَنفعَتَه، لزِمَته ديةُ العُضوِ كامِلةً إذا كان مِمَّا يوجِبُ الدِّيةَ [835] يُنظر: ((القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير)) لعبد الرحمن آل عبد اللطيف (1/445). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
استِثناءاتٌ:
يُستَثنى مِنَ القاعِدةِ ما يَلي:
1- إذا قَرَأ في الرَّكعةِ بَعضَ الفاتِحةِ أو أكثَرَها، لم يُجزِئْه عِندَ مَن يَرَونَ أنَّ قِراءةَ الفاتِحةِ رُكنٌ في الصَّلاةِ [836] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (10/757). .
2- إذا طاف خَمسةَ أشواطٍ مِن سَبعةٍ لم يَتِمَّ طَوافُه -عِند غَيرِ الحَنَفيَّةِ- وإذا لم يَتِمَّ وطال الفَصلُ يَجِبُ عليه استِئنافُ الطَّوافِ؛ لأنَّ السَّبعةَ هيَ عَدَدُ الطَّوافِ في الشَّرعِ، ومتى تَرَكَ شَيئًا مِنه لم يُجزِئْه، ولم يَنُبْ عنه الدَّمُ، ولم يَكُنْ طَوافًا شرعيًّا، إلَّا أن يَأتيَ به كامِلًا. ولا يَصِحُّ الاستِدلالُ هنا بأنَّ مُعظَمَ الشَّيءِ يَقومُ مَقامَ الشَّيءِ؛ لأنَّه يُنقَضُ بسائِرِ العِباداتِ كالطَّهارةِ والصِّيامِ وغَيرِ ذلك، كَأعدادِ الرَّكَعاتِ، فلو صَلَّى ثَلاثَ رَكَعاتٍ مِن أربَعٍ لم تَصِحَّ صَلاتُه، على أنَّه إذا أدرَكَ الإمامَ راكِعًا فقد تَحَمَّل عنه ما فاتَه مِنها؛ ولذلك لوِ انفرَدَ بها مِن غَيرِ إمامٍ لم يُدرِكْها، وليسَ كذلك الطَّوافُ [837] يُنظر: ((شرح الرسالة)) للقاضي عبد الوهاب (2/123)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/151)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (10/757). .

انظر أيضا: