موسوعة القواعد الفقهية

الفرعُ الثَّاني: غالِبُ الرَّأيِ بمَنزِلةِ اليَقينِ فيما بُنيَ أمرُه على الاحتياطِ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ.
استُعمِلَت القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ المَذكورةِ: "غالِبُ الرَّأيِ بمَنزِلةِ اليَقينِ فيما بُنيَ أمرُه على الاحتياطِ" [838] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 1436). ، وبصيغةِ: "غالِبُ الرَّأيِ يُجعَلُ كاليَقينِ احتياطًا" [839] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/192). ، وبصيغةِ: "غالِبُ الرَّأيِ بمَنزِلةِ اليَقينِ فيما لا يُمكِنُ إثباتُه بحُجَّةٍ أُخرى" [840] يُنظر: ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (ص: 1058). ، وبصيغةِ: "غالِبُ الرَّأيِ دَليلٌ عِندَ عَدَمِ اليَقينِ" [841] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) لعلاء الدين السمرقندي (1/57). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ.
العِلمُ ضَربانِ: عِلمُ يَقينٍ، وعِلمُ غالِبِ الرَّأيِ. والعَمَلُ بكُلِّ واحِدٍ مِنهما جائِزٌ في الدِّينِ والدُّنيا.
ومَعنى القاعِدةِ: أنَّ غالِبَ الرَّأيِ دَليلٌ يَجِبُ العَمَلُ به، بَل هو في حَقِّ وُجوبِ العَمَلِ في الأحكامِ بمَنزِلةِ اليَقينِ فيما بُنيَ أمرُه على الاحتياطِ للدِّينِ، وذلك عِندَ عَدَمِ إدراكِ الحَقيقةِ حِفظًا لسَلامةِ الدِّينِ والبُعدِ عنِ المُحَرَّماتِ والمَشبوهاتِ، ودَفعًا ورَفعًا للحَرَجِ؛ لأنَّه ليسَ كُلُّ أمرٍ يُمكِنُ أن يوقَفَ على اليَقينِ مِنه.
ويَنبَغي التَّنبيهُ على أنَّ العَمَلَ بغالِبِ الرَّأيِ إنَّما يَكونُ في مَوضِعِ الضَّرورةِ، وذلك فيما لا طَريقَ إلى الوُقوفِ على حَقيقةِ الأمرِ فيه، فغالِبُ الرَّأيِ كاليَقينِ في مِثلِه؛ ولذلك جاءَ في بَعضِ صيَغِ القاعِدةِ: (غالِبُ الرَّأيِ بمَنزِلةِ اليَقينِ فيما لا يُمكِنُ إثباتُه بحُجَّةٍ أُخرى)، وجاءَ في بَعضِها (غالِبُ الرَّأيِ يُقامُ مَقامَ الحَقيقةِ فيما لا طَريقَ إلى مَعرِفةِ حَقيقَتِهـ).
فتَدُلُّ القاعِدةُ إذَن على جَوازِ التَّحَرِّي في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، أي: طَلَبِ الشَّيءِ بغالِبِ الرَّأيِ عِندَ تَعَذُّرِ الوُقوفِ على حَقيقَتِه [842] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 272)، ((المبسوط)) (10/185) و(24/49)، ((شرح السير الكبير)) (ص: 1058) و(ص: 1512) كلاهما للسرخسي، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/105)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (5/298، 303)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (7/492). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ (الغالِبُ كالمُحَقَّقِ)، ووَجهُ تَفَرُّعِها عنها أنَّ غالبَ الرَّأيِ مُتَحَقِّقٌ، فكان بمَنزِلةِ اليَقينِ فيما لا يُمكِنُ إثباتُه بحُجَّةٍ أُخرى؛ ولذلك عُبِّرَ عنها بصيغةِ: (غالِبُ الرَّأيِ كالمُتَحَقِّقِ) [843] ((الهداية)) للميرغيناني (1/29). . ومَضمونُ هذا الفرعِ كالمُقدِّمةِ للقاعِدةِ الأُمِّ، وهيَ مَضمونُها النَّتيجةُ للمُقدِّمةِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ.
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:
قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: 10] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَ اللهِ تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ إنَّما يَكونُ بالتَّحَرِّي وغالِبِ الرَّأيِ، وقد أُطلِقَ عليه العِلمُ [844] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/186). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
- الاستِدلالُ بقاعِدةِ الاستِصحابِ؛ فإنَّ الفُقَهاءَ جوَّزوا العَمَلَ باستِصحابِ الحالِ، وأنَّه دونَ القياسِ، وهو عَمَلٌ بغالِبِ الرَّأيِ [845] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 272). .
- والاستِدلالُ بالقاعِدةِ الأُمِّ (الغالِبُ كالمُحَقَّقِ).
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ.
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا وقَعَت في الماءِ نَجاسةٌ تَنَجَّس، وطَهارَتُه بالنَّزحِ بغالبِ الرَّأيِ، وكُلَّما نُزِحَ الماءُ أكثَرَ كان للبئرِ أطهَرَ [846] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (1/91). .
2- إذا شَكَّ المُصَلِّي في جِهةِ القِبلةِ فلم يَتَحَرَّ، ولكِن صَلَّى إلى جِهةٍ، فإن تَبَيَّن أنَّه أخطَأ القِبلةَ، أو أكبَرُ رَأيِه أنَّه أخطَأَ، أو لم يَتَبَيَّنْ مِن حالِه شَيءٌ: فعليه الإعادةُ؛ لأنَّه لمَّا شَكَّ فقد لزِمَه التَّحَرِّي لأجلِ هذه الصَّلاةِ، وصارَ التَّحَرِّي فرضًا مِن فرائِضِ صَلاتِه، فإذا تَرَكَ هذا الفَرضَ لا تُجزِئُه صَلاتُه؛ لأنَّ التَّحَرِّيَ إنَّما يُفتَرَضُ عليه إذا شَكَّ، فإذا تَبَيَّنَ أنَّه أصابَ القِبلةَ جازَت صَلاتُه؛ لأنَّ فريضةَ التَّحَرِّي لمَقصودٍ، وقد توصَّل إلى ذلك المَقصودِ بدونِه فسَقَطَ فرضُ التَّحَرِّي عنه، وإن كان أكبَرُ رَأيِه أنَّه أصابَ فلا يُجزِئُه ولزِمَته إعادةُ الصَّلاةِ؛ لأنَّ فرضَ التَّحَرِّي لزِمَه بيَقينٍ، فلا يَسقُطُ اعتِبارُه إلَّا بمِثلِه، ولأنَّ غالِبَ الرَّأيِ يُجعَلُ كاليَقينِ احتياطًا، والاحتياطُ هنا في الإعادةِ. وقيل: جازَت صَلاتُه؛ لأنَّ أكبَرَ الرَّأيِ بمَنزِلةِ اليَقينِ فيما لا يُتَوصَّلُ إلى مَعرِفتِه حَقيقةً [847] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/192). .
3- العَمَلُ بغالِبِ الرَّأيِ في الزَّكاةِ بالتَّحَرِّي لمَعرِفةِ صِفةِ العَبدِ في الفقرِ والغِنى، فيَجوزُ أن يَكونَ غالِبُ الرَّأيِ طَريقًا للوُصولِ إليه [848] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/186). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِ.
فائِدةٌ:
تَدُلُّ القاعِدةُ على بَعضِ القَواعِدِ الأُصوليَّةِ؛ مِنها:
العَمَلُ بغالِبِ الظَّنِّ في التَّرجيحِ بَينَ الأدِلَّةِ المُتَعارِضةِ؛ لأنَّه إذا وُجِدَتِ المُعارَضةُ فلا بُدَّ مِن تَرجيحِ أحَدِ الجانِبَينِ، وهذا مَوضِعُ الظَّنِّ، وعِلمُ غالِبِ الرَّأيِ دونَ مَوضِعِ العِلمِ قَطعًا، وغالبُ الرَّأي يَصلُحُ أن يَكونَ دَليلًا للعَمَلِ في بَعضِ المَواضِعِ فلَأَن يَصلُحَ للتَّرجيحِ أَولى [849] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (10/165)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 730). .

انظر أيضا: