المَطلبُ الثَّالِثُ والعِشرونَ: الإذنُ العُرفيُّ كالإذنِ اللَّفظيِّ
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "الإذنُ العُرفيُّ كالإذنِ اللَّفظيِّ"
[1505] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/427)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/595)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/345). ، وصيغةِ: "دَلالةُ الإذنِ مِن حَيثُ العُرفُ كالتَّصريحِ بالإذنِ"
[1506] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (24/7). ، وصيغةِ: "الإذنُ العُرفيُّ يَقومُ مَقامَ الإذنِ الحَقيقيِّ"
[1507] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/606). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتُفيدُ القاعِدةُ أنَّ المَعروفَ المُعتادَ بَينَ النَّاسِ، وإن لم يُذكَرْ صَريحًا، فهو بمَنزِلةِ الصَّريحِ؛ لدَلالةِ العُرفِ عليه؛ فما تَعارَفه النَّاسُ واعتادوا التَّعامُلَ عليه بدونِ إذنٍ صَريحٍ، فهو مَرعيٌّ، ويُعتَبَرُ بمَنزِلةِ الإذنِ الصَّريحِ.
ومَعنى الإذنِ العُرفيِّ: أن يَكونَ هناكَ عَلامةٌ تَدُلُّ على أنَّ المَقامَ مَقامُ إذنٍ، كالإذنِ بدُخولِ بَيتِ الصَّديقِ مَثَلًا، فإنَّه مُعتَبَرٌ، سَواءٌ كان مِن صاحِبِ البَيتِ أو مِمَّن أنابَه؛ لقَولِ اللهِ تعالى:
لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: 53] ، ولم يَقُلْ: إلَّا أن يَأذَنَ لكُم -أي: النَّبيُّ- فإذا أُذِنَ للإنسانِ للدُّخولِ، سَواءٌ كان مِن صاحِبِ البَيتِ أو مِن خادِمِه أو مِنِ ابنِه أو ما أشبَهَ ذلك، جازَ الدُّخولُ
[1508] يُنظر: ((تفسير سورة الأحزاب)) لابن عثيمين (ص: 417، 437)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/345)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (30/55). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّها تَقضي بأنَّ الإذنَ المُتَعارَفَ عليه بَينَ النَّاسِ يَجري مَجرى الإذنِ بصَريحِ اللَّفظِ في لُزومِ العَمَلِ به؛ إذِ العادةُ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قَولُ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور: 27] .
وَجهُ الدَّلالةِ:يُستَفادُ مِنَ الآيةِ جَوازُ الدُّخولِ إذا وجَدَ الإنسانُ البابَ مَفتوحًا، وقد كان بَينَه وبَين صاحِبِ البَيتِ مَوعِدٌ لحُضورِه، ويُؤَيِّدُ هذا قَولُه تعالى:
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا؛ فإنَّ الاستِئناسَ -وهو الاطمِئنانُ- يَشمَلُ الاستِئذانَ باللَّفظِ، والاستِئذانَ بالفِعلِ والعُرفِ، والإذنُ العُرفيُّ كالإذنِ اللَّفظيِّ
[1509] يُنظر: ((تفسير سورة الأحزاب)) لابن عثيمين (ص: 437). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:- عن عُروةَ بنِ أبي الجَعدِ البارِقيِّ رَضِيَ اللهُ عنه
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعطاه دينارًا يَشتَري له به شاةً، فاشتَرى له به شاتَينِ، فباعَ إحداهما بدينارٍ، وجاءَه بدينارٍ وشاةٍ، فدَعا له بالبَرَكةِ في بَيعِه، وكان لوِ اشتَرى التُّرابَ لرَبحَ فيه )) [1510] أخرجه البخاري (3642). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ عُروةَ البارقيَّ رَضِيَ اللهُ عنه كان وكيلَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد باعَ مِلكَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بغَيرِ استِئذانِه لفظًا، واشتَرى له ببَعضِ ثَمَنِه مِثلَ ما وكَّله في شِرائِه بذلك الثَّمَنِ كُلِّه، ثُمَّ جاءَه بالثَّمَنِ وبالمُشتَرى، فقَبِلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودَعا له. فقد باعَ عُروةُ وأقبَضَ وقَبَضَ بغَيرِ إذنٍ لفظيٍّ؛ اعتِمادًا مِنه على الإذنِ العُرفيِّ الذي هو أقوى مِنَ اللَّفظيِّ في أكثَرِ المَواضِعِ؛ فإنَّ التَّصَرُّفَ بغَيرِ استِئذانٍ خاصٍّ -تارةً بالمُعاوضةِ، وتارةً بالتَّبَرُّعِ، وتارةً بالانتِفاعِ- مَأخَذُه إمَّا إذنٌ عُرفيٌّ عامٌّ أو خاصٌّ
[1511] جَبَلٌ قَريبٌ مِنَ المَدينةِ. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/ 12). .
وعن مُعاذِ بنِ سَعدٍ -أو: سَعدِ بنِ مُعاذٍ- أنَّ جاريةً لكَعبِ بنِ مالكٍ كانت تَرعى غَنَمًا بسَلْعٍ
[1512] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/21)، ((مدارج السالكين)) (1/595)، ((إعلام الموقعين)) (3/409) كلاهما لابن القيم، ((الفواكه العديدة)) لابن المنقور (2/362). ، فأُصيبَت شاةٌ مِنها، فأدرَكَتها فذَبَحَتها بحَجَرٍ، فسُئِل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: كُلوها»
[1513] أخرجه البخاري (5505). .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ هذه الشَّاةَ التي أُصيبَت فذَبَحَتها المَرأةُ بدونِ إذنِ أهلِها، فسَألوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنها فأَذِنَ لهم في أكلِها، لم يُلزِمِ التي ذَبَحَت بضَمانِ الشَّاةِ؛ لأنَّه كان مَأذونًا فيه عُرفًا، والإذنُ العُرفيُّ كالإذنِ اللَّفظيِّ
[1514] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/427). .
3- مِنَ القَواعِدِ:يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بقاعِدة: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها، وبقاعِدةِ: (المَعروفُ عُرفًا كالمَشروطِ شَرطًا)؛ حَيثُ إنَّها تَلتَقي مَعَها في المَعنى.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ كَثيرٌ مِنَ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، حتَّى قال ابنُ القَيِّمِ: (وقد أُجريَ العُرفُ مجرى النُّطقِ في أكثَرَ مِن مِائةِ مَوضِعٍ)
[1515] ((إعلام الموقعين)) (3/407). .
ومِن هذه الفُروعِ:
1- إذا أرادَتِ المَرأةُ أن تَصومَ نافِلةً فلا بُدَّ مِن إذنِ الزَّوجِ بذلك، والإذنُ مِنَ الزَّوجِ لا يُشتَرَطُ فيه التَّصريحُ، بَل إذا عَلِمَتِ الزَّوجةُ مِن قَرائِنِ الحالِ ما يَدُلُّ على الرِّضا بذلك فإنَّه يَكفي؛ لأنَّ الإذنَ العُرفيَّ كالإذنِ اللَّفظيِّ
[1516] يُنظر: ((توضيح الأحكام)) للبسام (3/543)، ((منحة العلام)) لعبدالله الفوزان (5/97). .
2- تَتَصَرَّفُ المَرأةُ بحُكمِ العادةِ في مالِ زَوجِها، وتَتَبَسَّطُ فيه، وتَتَصَدَّقُ مِنه؛ لحُضورِها وغَيبَتِه، والإذنُ العُرفيُّ يَقومُ مَقامَ الإذنِ الحَقيقيِّ، فصارَ كَأنَّه قال لها: افعَلي هذا. فإن مَنَعَها ذلك، وقال: لا تَتَصَدَّقي بشَيءٍ، ولا تَتَبَرَّعي مِن مالي بقَليلٍ ولا كَثيرٍ، لم يَجُزْ لها ذلك؛ لأنَّ المَنعَ الصَّريحَ نَفيٌ للإذنِ العُرفيِّ
[1517] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (6/606). ويُنظر أيضًا: ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (5/557). .
3- إذا مَرَّ الإنسانُ بالتَّمرِ على رؤوسِ النَّخلِ، أوِ الثَّمَرِ في الشَّجَرةِ، أوِ الماشيةِ واللَّبَنُ في ضُروعِها، فيَأكُلُ، أو يَشرَبُ حاجَتَه، مِن غَيرِ أن يَحمِلَ مَعَه شَيئًا؛ لأنَّ أصحابَ البَساتينِ وأصحابَ الماشيةِ جَرَت عادَتُهم بالسَّماحةِ والرِّضا بمِثلِ هذا، والإذنُ العُرفيُّ كالإذنِ اللَّفظيِّ
[1518] يُنظر: ((توضيح الأحكام)) للبسام (6/287)، ((منحة العلام)) لعبدالله الفوزان (8/486). .
4- الإذنُ العُرفيُّ في الإباحةِ أوِ التَّمليكِ أوِ التَّصَرُّفِ بطَريقِ الوَكالةِ: كالإذنِ اللَّفظيِّ؛ فكُلُّ واحِدٍ مِنَ الوَكالةِ والإباحةِ يَنعَقِدُ بما يَدُلُّ عليها مِن قَولٍ وفِعلٍ، والعِلمُ برِضا المُستَحِقِّ يَقومُ مَقامَ إظهارِه للرِّضا
[1519] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (29/20)، ((القواعد النورانية)) (ص: 167) كلاهما لابن تيمية. .