موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الثَّالثُ: العُرفُ إنَّما يُعتَبَرُ إذا لم يُخالفِ المَنصوصَ


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "العُرفُ إنَّما يُعتَبَرُ إذا لم يُخالفِ المَنصوصَ" [1258] يُنظر: ((شفاء العليل وبل الغليل)) لابن عابدين (ص: 187). ، وصيغةِ: "العُرفُ إنَّما يُعتَبَرُ إذا لم يَكُنْ بخِلافِه نَصٌّ" [1259] يُنظر: ((غمز عيون البصائر)) للحموي (1/323). ، وصيغةِ: "العُرفُ إنَّما يُعتَبَرُ فيما لا نَصَّ بخِلافِه" [1260] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (14/136)، ((بحوث في قضايا فقهية معاصرة)) للعثماني (ص: 97). ، وصيغةِ: "العادةُ إحدى الحُجَجِ الشَّرعيَّةِ فيما لا نَصَّ فيه" [1261] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (5/203)، ((فتح باب العناية)) للقاري (3/415)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/154)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (2/707). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
تُبَيِّنُ هذه القاعِدةُ شَرطًا مُهمًّا مِن شُروطِ اعتِبارِ العُرفِ، وهو أنَّ العُرفَ إنَّما يُعتَبَرُ حُجَّةً وحُكمًا يَلزَمُ العَمَلُ به إذا لم يوجَدْ تَصريحٌ مِنَ الشَّرعِ أوِ المُتَكَلِّمِ بخِلافِه، فإذا وُجِدَ التَّصريحُ بخِلافِ العُرفِ فالمُعتَبَرُ التَّصريحُ، ولا اعتِبارَ بالعُرفِ المُخالفِ. فالعُرفُ والعادةُ يَكونُ حُجَّةً إذا لمَ يَكُنْ مُخالفًا لنَصٍّ، أو شَرطًا لأحَدِ المُتَعاقِدين [1262] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/227) و(30/135)، ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/47)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/325)، ((شرح القواعد السعدية)) لعبدالمحسن الزامل (ص: 101). .
قال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (كُلُّ ما يَثبُتُ في العُرفِ إذا صَرَّحَ المُتَعاقِدانِ بخِلافِه بما يوافِقُ مَقصودَ العَقدِ، صَحَّ) [1263] ((قواعد الأحكام)) (2/186). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ هذه القاعِدةَ تُعتَبَرُ شَرطًا مِن شُروطِ إعمالِ القاعِدةِ الأُمِّ؛ فالعادةُ إنَّما تَكونُ مُحَكَّمةً إذا لم تُخالفِ النَّصَّ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- إذا قال إنسانٌ لآخَرَ: اشتَرِ لي لحمًا، فهو على ما يَتَعارَفُه أهلُ بَلدِه مِن لحمِ الإبِلِ أوِ البَقَرِ أوِ الغَنَمِ فقَط. فإذا اشتَرى له أيَّ نَوعٍ مِنها لزِمَه. وأمَّا إذا قال: اشتَرِ لي لحمَ إبِلٍ، فاشتَرى له لحمَ بَقَرٍ فلا يَلزَمُه، حتَّى وإن كان العُرفُ الشَّائِعُ عِندَهم أكلَ لحمِ البَقَرِ؛ وذلك لوُجودِ تَصريحٍ بخِلافِه [1264] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/325). .
2- إذا تَعاقدَ رَجُلانِ عَقدَ بَيعٍ ولم يُعَيِّنا النُّقودَ التي يَتَعامَلانِ بها، فيَنصَرِفُ إلى النُّقودِ المَعمولِ بها في البَلدِ؛ لأنَّه هو المُتَعارَفُ عليه؛ إلَّا إذا صَرَّحَ المُتَعاقِدانِ بخِلافِه، فإذا عَيَّنا نَوعًا خاصًّا مِنَ النُّقودِ، فلا اعتِبارَ للعُرفِ هنا، إنَّما الاعتِبارُ لِما عَيَّناه واتَّفَقا عليه وصَرَّحا به [1265] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (1/2/325)، ((الاجتهاد في مناط الحكم)) لبلقاسم الزبيدي (ص: 482). .
3- إذا كانتِ العادةُ في النِّكاحِ قَبْضَ الصَّداقِ قَبلَ الدُّخولِ، أو في البَيعِ الفُلانيِّ أن يَكونَ بالنَّقدِ لا بالنَّسيئةِ، أو بالعَكسِ، أو إلى أجَلِ كَذا دونَ غَيرِه؛ فالحُكمُ أيضًا جارٍ على ذلك، ما لم يُصَرِّحِ المُتَعاقِدانِ بخِلافِه [1266] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (2/499)، ((الاجتهاد في مناط الحكم)) لبلقاسم الزبيدي (ص: 483). .
4- إذا تَعاقَدَ شَخصانِ عَقدَ إجارةٍ -وكانتِ العادةُ أن يَدفعَ المُستَأجِرُ نِصفَ الأُجرةِ السَّنَويَّةِ مُقدَّمًا- ولكِنِ اشتَرَطَ المُستَأجِرُ في العَقدِ تَأخيرَه، أوِ اشتَرَطَ المُؤَجِّرُ في العَقدِ تَقديمَه كامِلًا، فليسَ لأحَدِهما بَعدَ ذلك أن يَتَمَسَّكَ بأنَّ العُرفَ يَقتَضي نِصفَ الأجرِ؛ لأنَّ التَّسميةَ والنَّصَّ في العَقدِ بخِلافِ ذلك العُرفِ. فلا اعتِبارَ للعُرفِ هنا، ولا يُعارِضُ المَنصوصَ عليه [1267] يُنظر: ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (7/398). .

انظر أيضا: