المَطلبُ الخامِسُ: العِبرةُ للغالِبِ الشَّائِعِ لا للنَّادِرِ فالنَّادِرُ لا حُكمَ له
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِاستُعمِلتِ القاعِدةُ بهذه الصِّيغةِ عِندَ الفُقَهاءِ مَعَ اختِلافٍ يَسيرٍ
[1277] يُنظر: ((العناية)) للبابرتي (4/133)، ((البناية)) للعيني (5/429)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (1/260)، ((مجلة الأحكام العدلية)) (ص: 20)، ((قواعد الفقهـ)) للبركتي (ص: 91)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 235)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/325). .
واستُعمِلت أيضًا بصيغةِ: "العِبرةُ للغالِبِ، والمَغلوبُ ساقِطُ الاعتِبارِ بمُقابَلتِه"
[1278] يُنظر: ((المحيط البرهاني)) لابن مازه (2/198). . وبصيغةِ: "العِبرةُ للغالِبِ، والمَغلوبُ كالمَعدومِ"
[1279] يُنظر: ((التنبيه على مشكلات الهداية)) لابن أبي العز (5/779). . وبصيغةِ: "العِبرةُ للغالِبِ لا للشَّاذِّ"
[1280] يُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (4/119). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِالشَّائِعُ هو الأمرُ الذي يُصبحُ مَعلومًا للنَّاسِ وذائِعًا بَينَهم، فإذا بُنيَ حُكمٌ شَرعيٌّ على أمرٍ غالبٍ وشائِعٍ فإنَّه يُبنى عامًّا للجَميعِ، ولا يُؤَثِّرُ على عُمومِه واطِّرادِه تخَلُّفُ ذلك الأمرِ في بَعضِ الأفرادِ، أو في بَعضِ الأوقاتِ؛ لأنَّ العِبرةَ للكَثيرِ الغالِبِ
[1281] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/50)، ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 236)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/325)، ((بيان المعاني)) لملا حويش (3/416). .
قال الشَّاطِبيُّ: (إذا كانتِ العَوائِدُ مُعتَبَرةً شَرعًا، فلا يَقدَحُ في اعتِبارِها انخِراقُها ما بَقيَت عادةً على الجُملةِ)
[1282] ((الموافقات)) (2/495). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أنَّ العادةَ التي تُحَكَّمُ هيَ العادةُ الغالبةُ الشَّائِعةُ المَعروفةُ بَينَ عامَّةِ النَّاسِ، وفي غالِبِ الأوقاتِ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ:
1- قال اللهُ تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة: 283] .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الآيةِ دَلالةٌ على البناءِ على الغالِبِ؛ فإنَّ ذِكرَ السَّفرِ هنا خَرَجَ مَخرَجَ الغالِبِ، فيَجوزُ الرَّهنُ في الحَضَرِ كذلك؛ إذِ الغالِبُ في السَّفرِ عَدَمُ وُجودِ الكاتِبِ
[1283] يُنظر: ((الإشارات الإلهية)) للطوفي (ص: 115)، ((اللباب)) لابن عادل (4/509). .
2- قال اللهُ تعالى في سياقِ ذِكر المُحَرَّماتِ مِنَ النِّساءِ في النِّكاحِ:
وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء: 23] .
وَجهُ الدَّلالةِ:في الآيةِ دَلالةٌ على اعتِبارِ الغالِبِ؛ فإنَّ جُمهورَ أهلِ العِلمِ جَعَلوا قَولَه:
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ بَيانًا للواقِعِ خارِجًا مخرَجَ الغالِبِ، وجَعَلوا الرَّبيبةَ حَرامًا على زَوجِ أُمِّها، ولو لم تَكُنْ هيَ في حِجرِه
[1284] يُنظر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (4/299). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- العَدالةُ مَبنيَّةٌ على الغالِبِ، فالعَدلُ في الشَّهادةِ: أن يَكونَ مُجتَنِبًا للكَبائِرِ، ولا يَكونَ مُصِرًّا على الصَّغائِرِ، ويَكونَ صَلاحُه أكثَرَ مِن فسادِه، وصَوابُه أكثَرَ مِن خَطَئِه، وأن يَستَعمِلَ الصِّدقَ ديانةً ومُروءةً، ويَجتَنِبَ الكَذِبَ ديانةً ومُروءةً، والعِبرةُ في ذلك للغالِبِ
[1285] يُنظر: ((شرح أدب القاضي)) للصدر الشهيد (3/8). .
2- الحُكمُ بمَوتِ المَفقودِ لمُرورِ تِسعينَ سَنةً مِن عُمُرِه؛ فإنَّه مُستَنِدٌ على الشَّائِعِ الغالِبِ بَينَ النَّاسِ مِن أنَّ الإنسانَ لا يَعيشُ أكثَرَ مِن تِسعينَ عامًا، وإن كان البَعضُ قد يَعيشُ أكثَرَ مِن ذلك إلَّا أنَّه نادِرٌ، والنَّادِرُ لا حُكمَ له، بَل يُحكَمُ بمَوتِه على العُرفِ الشَّائِعِ، وتُقَسَّمُ أموالُه بَينَ ورَثَتِه
[1286] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/50)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (35/206). .
3- الحُكمُ ببُلوغِ مَن له مِنَ العُمُرِ خَمسَ عَشرةَ سَنةً للذُّكورِ؛ لأنَّه هو السِّنُّ الشَّائِعُ للبُلوغِ، وإن كان البَعضُ لا يَبلُغُ إلَّا في السَّابعةَ عَشرةَ أوِ الثَّامِنةَ عَشرةَ إلَّا أنَّه نادِرٌ
[1287] يُنظر: ((درر الحكام)) لعلي حيدر (1/50)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (35/206). .
4- أنَّ قَصرَ الصَّلاةِ في السَّفرِ رُخصةٌ مَشروعةٌ، والحِكمةُ في ذلك دَفعُ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، ولكِنَّها لم تَنضَبِطْ؛ لاختِلافِها بحَسَبِ الأشخاصِ والأحوالِ والأزمانِ، فأُقيمَ السَّفرُ عِلَّةً مقامَها بحَيثُ مَتى وُجِدَ السَّفَرُ وُجِد القَصرُ؛ لأنَّ السَّفَرَ يُلازِمُ المَشَقَّةَ غالبًا، وتَخلُّفُها في بَعضِ المُترَفينَ لا عِبرةَ له؛ لأنَّ الحُكمَ يُراعى في الجِنسِ لا الأفرادِ، فيَجوزُ قَصرُ الصَّلاةِ في حَقِّهم؛ لأنَّ العِبرةَ للغالِبِ الشَّائِعِ لا للنَّادِرِ
[1288] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/326). .
5- تَقديرُ مُدَّةِ الإياسِ مِنَ الحَيضِ للمَرأةِ بخَمسٍ وخَمسينَ سَنةً لأجلِ أن تَعتَدَّ؛ لأنَّ المَرأةَ إذا بَلغَت هذه السِّنَّ ففي الغالبِ يَنقَطِعُ حَيضُها
[1289] يُنظر: ((شرح القواعد الفقهية)) لأحمد الزرقا (ص: 236)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/326). .
خامِسًا: مُكمِلاتٌ للقاعِدةِاستِثناءاتٌ:استَثنى الفُقَهاءُ مِن هذه القاعِدةِ بَعضَ المَسائِل، وألحَقوا النَّادِرَ فيها بالغالِبِ، فقد يُقدَّمُ النَّادِرُ على الغالِبِ في الفِقهِ لأمرٍ يَقتَضي ذلك، كَطَلَبِ التَّيسيرِ على العِبادِ، أوِ الرَّحمةِ بهم، أوِ التَّخفيفِ عليهم، ودَفعًا للمَشَقَّةِ، ورَفعِ العنَتِ، أو إبقاءً لمَصالحِهم وحِفظًا على حُقوقِهم، أو صَونًا لكَرامَتِهم وحِفظًا لأنسابِهم، أو لدَفعِ الرُّعبِ عن نُفوسِهم، أو أخذًا باليَقينِ، وعَدَمِ اعتِبارِ الأمرِ الطَّارِئِ لقِلَّتِه، أو عَدَمِ إمكانِ التَّحَرُّزِ، وهذا يَعني أنَّ العَمَلَ بالنَّادِرِ أحيانًا لا يَتِمُّ جُزافًا، ولا يَكونُ مُصادَفةً، وليسَ هو مِمَّا يوكَلُ إلى رَغبةِ الإنسانِ ويُسايِرُ هَواه، بَل وَفقَ قَواعِدَ شَرعيَّةٍ مُعتَبَرةٍ وضَوابِطَ مَعروفةٍ
[1290] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/330). .
ومِن هذه المَسائِلِ المُستَثناةِ:
1- الغالبُ على المَرأةِ أن تَلِدَ بَعدَ تِسعةِ أشهُرٍ، فإذا جاءَ بَعدَ خَمسِ سِنينَ مِنِ امرَأةٍ طَلَّقَها زَوجُها، دارَ بَينَ أن يَكونَ زِنًا، وهو الغالبُ، وبَينَ أن يَكونَ قد تَأخَّرَ في بَطنِ أُمِّه، وهو نادِرٌ بالنِّسبةِ إلى وُقوعِ الزِّنا في الوُجودِ؛ فألغى الشَّارِعُ الغالِبَ، وأثبَتَ حُكمَ النَّادِرِ -وهو تَأخُّرُ الحَملِ- وألحَقَ الولَدَ بالزَّوجِ؛ رَحمةً بالعِبادِ، تَحصيلًا للسَّترِ، وصَونًا للأعراضِ مِنَ الهَتكِ
[1291] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/104)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/332). .
2- طينُ المَطَرِ الواقِعِ في الطُّرُقاتِ ومَمَرِّ الدَّوابِّ، والمَشيُ بالأحذيةِ التي يُجلَسُ بها في المَراحيضِ: الغالِبُ عليها وُجودُ النَّجاسةِ مِن حَيثُ الجُملةُ، وإن كُنَّا لا نُشاهدُ عَينَها، والنَّادِرُ سَلامَتُها مِنها، ومَعَ ذلك ألغى الشَّارِعُ حُكمَ الغالِبِ، وأثبَتَ حُكمَ النَّادِرِ؛ تَوسِعةً ورَحمةً بالعِبادِ، فيُصَلِّي به مِن غَيرِ غَسلٍ
[1292] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/105)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (1/331). .
3- ثيابُ الكُفَّارِ التي يَنسِجونَها بأيديهم مَعَ عَدَمِ تَحَرُّزِهم مِنَ النَّجاساتِ، فالغالِبُ نَجاسةُ أيديهم لِما يُباشِرونَه عِندَ قَضاءِ حاجةِ الإنسانِ، ومُباشَرَتِهمُ الخُمورَ والخَنازيرَ ولُحومَ المَيتاتِ، وجَميعُ أوانيهم نَجِسةٌ بمُلابَسةِ ذلك، ويُباشِرونَ النَّسجَ والعَمَلَ مَعَ بِلَّةِ أيديهم وعَرَقِها حالةَ العَمَلِ، ويَبُلُّونَ تلك الأمتِعةَ بما يُقَوِّي لهمُ الخُيوطَ ويُعينُهم على النَّسجِ، فالغالِبُ نَجاسةُ هذا القُماشِ، والنَّادِرُ سَلامَتُه عنِ النَّجاسةِ، وقد سُئِل عنه مالِكٌ فقال: ما أدرَكتُ أحَدًا يَتَحَرَّزُ مِنَ الصَّلاةِ في مِثلِ هذا، فأثبَتَ الشَّارِعُ حُكمَ النَّادِرِ، وألغى حُكمَ الغالِبِ، وجَوَّز لُبسَه؛ تَوسِعةً على العِبادِ
[1293] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (4/105). .