المَطلبُ الرَّابعُ: العاداتُ الأصلُ فيها العَفوُ فلا يُحظَرُ مِنها إلَّا ما حَرَّمَه اللهُ تعالى
أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِاستُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "العاداتُ الأصلُ فيها العَفوُ فلا يُحظَرُ مِنها إلَّا ما حَرَّمَه اللهُ تعالى"
[1268] يُنظر: ((مجموع الفتاوي)) لابن تيمية (29/17). ، وصيغةِ: "الأصلُ في العاداتِ أن لا يُحظَرَ مِنها إلَّا ما حَظره اللهُ"
[1269] يُنظر: ((مجموع الفتاوي)) (4/196)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/86) كلاهما لابن تيمية، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/812)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (7/335). .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِتَنقَسِمُ الأعمالُ إلى عِباداتٍ وعاداتٍ؛ فالأصلُ في العِباداتِ ألَّا يُشرَعَ مِنها إلَّا ما شَرَعَه اللهُ تعالى؛ والأصلُ في العاداتِ ألَّا يُحظَرَ مِنها إلَّا ما حَظَره اللهُ سُبحانَه.
والعادةُ هيَ ما اعتادَه النَّاسُ مِمَّا يَحتاجونَ إليه في حَياتِهم وتَصَرُّفاتِهم في القَولِ والفِعلِ، والمَأكَلِ والمَشرَبِ، والمَلبَسِ، والذَّهابِ، والمَجيءِ، والكَلامِ، وغَيرِه؛ فهذه العاداتُ مَعفوٌّ عنها، ورَفَعَ الشَّارِعُ الحَرَجَ عنِ المُكَلَّفينَ في فِعلِها وتَركِها، ما لم يَرِدْ فيها دَليلٌ خاصٌّ بها، وإلَّا فيُستَصحَبُ الحِلُّ فيها، وللنَّاسِ أن يَتَكَلَّموا، ويَأكُلوا، ويَشرَبوا، ويَتَبايَعوا ويَستَأجِروا كَيف شاؤوا ما لم تُحَرِّمْه الشَّريعةُ
[1270] يُنظر: ((مجموع الفتاوي)) لابن تيمية (4/196) و (29/18)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/812). .
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِيُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقُرآنِ، والسُّنَّةِ:
1- مِنَ القُرآنِ:قَولُ اللهِ تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس: 59] .
وَجهُ الدَّلالةِ:تَدُلُّ الآيةُ بعُمومِها على أنَّ العاداتِ الأصلُ فيها العَفوُ، فلا يُحظَرُ مِنها إلَّا ما حَرَّمَه؛ ولهذا ذَمَّ اللهُ تعالى المُشرِكينَ الذينَ شَرَعوا مِنَ الدِّينِ ما لم يَأذَنْ به اللَّهُ، وحَرَّموا ما لم يُحَرِّمْه في سورةِ الأنعامِ مِن قَولِه تعالى:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 136-137] [1271] يُنظر: ((مجموع الفتاوي)) لابن تيمية (29/17). .
2- مِنَ السُّنَّةِ:عن عِياضِ بنِ حِمارٍ المجاشِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذاتَ يَومٍ في خُطبَتِه:
((ألا إنَّ رَبِّي أمَرَني أن أعَلِّمَكُم ما جَهلتُم مِمَّا عَلَّمَني يَومي هذا: كُلُّ مالٍ نَحَلتُه عَبدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلَقتُ عِبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهم أتَتهمُ الشَّياطينُ فاجتالَتْهم عن دينِهم، وحَرَّمَت عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنزِلْ به سُلطانًا )) [1272] أخرجه مسلم (2865). .
وَجهُ الدَّلالةِ:يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ الأصلَ في عاداتِ النَّاسِ وتَصَرُّفاتِهمُ التي يَحتاجونَ إليها في مَعاشِهم، كالأكلِ والشُّربِ واللِّباسِ وغَيرِها: الإباحةُ، إلَّا ما حَرَّمَه اللهُ تعالى
[1273] يُنظر: ((مجموع الفتاوي)) لابن تيمية (29/18). .
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِتَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- الأصلُ في العُقودِ هو الحِلُّ؛ لأنَّ العُقودَ مِنَ العاداتِ التي يَفعَلُها المُسلِمُ والكافِرُ، فلا يَحرُمُ العَقدُ ما لم يَرِدْ عنِ الشَّارِعِ نَصٌّ بتَحريمِه، أو يُقاسُ قياسًا صحيحًا على ما حَرُمَ
[1274] يُنظر: ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/813). .
2- الأصلُ في الشُّروطِ الحِلُّ والصِّحَّةُ ما لم يُنافِ مَقصودَ العَقدِ بحِلِّ الحَرامِ أو تَحريمِ الحَلالِ الثَّابِتَينِ بنَصٍّ أو إجماعٍ؛ لأنَّ العُقودَ والشُّروطَ مِن بابِ الأفعالِ العاديَّةِ، والأصلُ في الشُّروطِ الصِّحَّةُ إلَّا ما قامَ الدَّليلُ على مَنعِه
[1275] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (9/29)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/813)، ((فقه التاجر المسلم)) لحسام عفانة (ص: 36). .
3- ألفاظُ العُقودِ، وهيَ كُلُّ ما اعتادَه النَّاسُ مِنَ المُصطَلَحاتِ في البَيعِ والشِّراءِ والاستِئجارِ وغَيرِها مِن أنواعِ المُعامَلاتِ، يَصِحُّ العَقدُ بها، ولا يُشتَرَطُ فيها لفظٌ مُعَيَّنٌ؛ لأنَّ هذا مِنَ العاداتِ، والأصلُ في العاداتِ عَدَمُ التَّحريمِ، وكُلُّ لفظٍ دَلَّ على قَصدِ المُتَكَلِّمِ في المُعامَلاتِ وغَيرِها فهو مُعتَبَرٌ، وتَصِحُّ العُقودُ بكُلِّ ما دَلَّ على مَقصودِها مِن قَولٍ أو فِعلٍ، فكُلُّ ما عَدَّه النَّاسُ بَيعًا وإجارةً فهو بَيعٌ وإجارةٌ، ومِنه البَيعُ عن طَريقِ الهاتِفِ، وكَذا الهبةُ، والدَّفعُ إلى غَسَّالٍ أو خَيَّاطٍ يَعمَلُ بالأُجرةِ، أوِ الدَّفعُ لطَبَّاخٍ أو شَوَّاءٍ ليَطبُخَ أو يَشويَ، فيَصِحُّ؛ لأنَّها مِنَ العاداتِ. والأصلُ فيها عَدَمُ التَّحريمِ
[1276] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (29/7)، ((القواعد الفقهية)) لمحمد الزحيلي (2/814)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (1/389). .
4- ما يَقَعُ بَينَ النَّاسِ في عَصرِنا مِن تَبادُلِ بَعضِ التَّهاني المُباحةِ في الأعيادِ والمُناسَباتِ، والتَّعبيرِ عنِ الفرحةِ بالنَّجاحِ مَثَلًا باحتِفالٍ مُناسِبٍ غَيرِ مَقرونٍ بمانِعٍ يُحَرِّمُه مِن إسرافٍ ونَحوِه، فلا بَأسَ في مُسايَرةِ المُجتَمَعِ وعَدَمِ مُصادَمَتِه فيما يَتَعَلَّقُ بالعاداتِ الاجتِماعيَّةِ المُباحةِ مِنَ الأعراسِ والاجتِماعاتِ ونَحوِها.