موسوعة القواعد الفقهية

المَطلبُ الرَّابعُ والعِشرونَ: قَبضُ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه على ما جَرَت العادةُ فيه


أوَّلًا: صيغةُ القاعِدةِ
استُعْمِلَتِ القاعِدةُ بهذِهِ الصِّيغةِ المذكورَة: "قَبضُ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه على ما جَرَت العادةُ فيه" [1520] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (4/29)، ((الفواكه العديدة)) لابن المنقور (1/353). ، وصيغةِ: "قَبضُ كُلِّ شَيءٍ على حَسَبِ ما يَليقُ به، والمَرجِعُ فيه إلى العادةِ" [1521] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/407). ، وصيغةِ: "قَبضُ كُلِّ شَيءٍ على ما يَليقُ به ويُعتادُ فيه" [1522] يُنظر: ((شرح مسند الشافعي)) للرافعي (3/201). ، وصيغةِ: "المَرجِعُ في القَبضِ إلى عُرفِ النَّاسِ وعاداتِهم" [1523] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (29/20)، ((القواعد النورانية)) (ص: 167) كلاهما لابن تيمية. .
ثانيًا: المَعنى الإجماليُّ للقاعِدةِ
القَبضُ: حيازةُ الشَّيءِ والتَّمَكُّنُ مِنه، سَواءٌ كان التَّمَكُّنُ باليَدِ، أو بعَدَمِ المانِعِ مِنَ الاستيلاءِ عليه، وهو ما يُسَمَّى بالتَّخليةِ أوِ القَبضِ الحُكميِّ.
وقَبضُ كُلِّ شَيءٍ على حَسَبِ ما يَليقُ به، والمَرجِعُ فيه إلى العادةِ، ويَحصُلُ القَبضُ فيما يُنقَلُ بالنَّقلِ، وفيما يُتَناوَلُ باليَدِ بالتَّناوُلِ، وفي العَقارِ ونَحوِه بالتَّخليةِ، وفيما قُدِّرَ بكَيلٍ أو غَيرِه بتَوفيَتِه به؛ فإن كان مِمَّا يُنقَلُ فقَبضُه بنَقلِه، وإن كان مَكيلًا أو مَوزونًا فقَبضُه بكَيلِه ووَزنِه، وإن كان شَيئًا خَفيفًا مِن دَراهمَ أو دَنانيرَ أو ثَوبٍ ونَحوِه فيَقبِضُه باليَدِ، وإن كان ثَقيلًا فيَنقُلُه إلى مَكانٍ آخَرَ، فالقَبضُ مُطلَقٌ في الشَّرعِ؛ فيَجِبُ الرُّجوعُ فيه إلى العُرفِ [1524] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/407)، ((شرح مسند الشافعي)) للرافعي (3/201)، ((شرح المقنع)) للبهاء المقدسي (3/285)، ((المحرر)) للمجد ابن تيمية (1/323)، ((أحكام عقود التمويل)) لعبد الله المعيدي (ص: 39). .
وهذه القاعِدةُ مُتَفرِّعةٌ مِنَ القاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)، ووَجهُ تَفرُّعِها عنها أن تَقضيَ بأنَّ القَبضَ في كُلِّ شَيءٍ مُعتَبَرٌ بعادةِ النَّاسِ وعُرفِهم في تَعامُلِهم فيه؛ بناءً على أنَّ العادةَ مُحَكَّمةٌ.
ثالثًا: أدِلَّةُ القاعِدةِ
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالسُّنَّةِ، وبالقَواعِدِ:
1- مِنَ السُّنَّةِ:
- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَنِ اشتَرى طَعامًا فلا يَبِعْه حتَّى يكتالَه )) وفي رِوايةٍ: ((مَنِ ابتاعَ...)) [1525] أخرجه مسلم (1528). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
يَدُلُّ الحَديثُ على أنَّ المَكيلَ المَبيعَ مُكايَلةً قَبضُه كَيلُه؛ لأنَّ قَبضَ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه؛ فيَدُلُّ على أنَّ قَبضَ المَكيلِ الكَيلُ -لِما تَقَدَّم- والمَوزونِ الوزنُ؛ لأنَّه في مَعناه. والمُرادُ بالمَكيلِ ما بِيعَ بالكَيلِ، وبالمَوزونِ ما بيعَ بالوزنِ، لا ما كان مَكيلًا في نَفسِه أو مَوزونًا [1526] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (2/18)، ((الممتع)) لابن المنجى (2/479). .
قال ابنُ المُلقِّنِ: (القَبضُ ورَدَ في الحَديثِ مُطلقًا، وهو مَحمولٌ على العُرفِ؛ فقَبضُ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِهـ) [1527] ((الإعلام)) (7/174). .
- وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: (لقد رَأيتُ النَّاسَ في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَبتاعونَ جِزافًا -يَعني الطَّعامَ- يُضرَبونَ أن يَبيعوه في مَكانِهم حتَّى يُؤووه إلى رِحالِهم) [1528] أخرجه البخاري (2137) واللفظ له، ومسلم (1527). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه جَعَل قَبْضَ المَبيعِ كَيلًا الكَيلَ، وقَبْضَ المَبيعِ جِزافًا -أي: لا يُباعُ بالكَيلِ ونَحوِ ذلك، وإنَّما يُباعُ بتَقديرِه- النَّقلَ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ القَبضَ يَختَلفُ. وفيه دَلالةٌ على أنَّ قَبضَ كُلِّ شَيءٍ على حَسَبِ ما يَليقُ به، والمَرجِعُ فيه إلى العادةِ؛ فإن كان شَيئًا خَفيفًا فيَقبِضُه باليَدِ، وإن كان ثَقيلًا فيَنقُلُه إلى مَكانٍ آخَرَ، وكذلك الطَّعامُ يَشتَريه جِزافًا، فإنِ اشتَراه مُكايَلةً أو موازَنةً فقَبْضُه نَقلُه بالكَيلِ أوِ الوَزنِ [1529] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/407)، ((الممتع)) لابن المنجى (2/479). .
2- مِنَ القَواعِدِ:
يُستَدَلُّ لهذه القاعِدةِ بالقاعِدةِ الأُمِّ: (العادةُ مُحَكَّمةٌ)؛ حَيثُ إنَّها مُتَفرِّعةٌ عنها.
رابعًا: أمثِلةٌ للقاعِدةِ
تَندَرِجُ تَحتَ هذه القاعِدةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ؛ مِنها:
1- قَبضُ الدَّينِ يَكونُ بقَبضِ الوثيقةِ أو بالإشهادِ [1530] يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (6/52)، ((المعاملات المالية)) للدبيان (13/610). .
2- قَبضُ غَيرِ المَنقولِ -كالدَّارِ والأرضِ- يَكونُ بالتَّخليةِ بَينَه وبَينَ المُشتَري وتَمكينِه مِنه، وإزالةِ المَوانِعِ مِن تَسَلُّمِه، وتَسليمِ مِفتاحِه إن كان دارًا ونَحوَ ذلك [1531] يُنظر: ((التهذيب)) للبغوي (3/407)، ((الفقه المنهجي)) لمصطفى الخن (6/20). .
3- قَبضُ الرَّهنِ إن كان مِمَّا يُنقَلُ، فقَبضُ المُرتَهِنِ له أخْذُه إيَّاه مِن راهِنِه مَنقولًا، وإن كان مِمَّا لا يُنقَلُ -كالدُّورِ والأَرَضينَ- فقَبضُه تَخليةُ الرَّاهِنِ بَينَه وبَينَ مُرتَهنِه لا حائِلَ دونَه بشَيءٍ؛ لأنَّ قَبضَ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه على ما جَرَت العادةُ فيه [1532] يُنظر: ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (4/28)، ((الفواكه العديدة)) لابن المنقور (1/353). .
4- يَجوزُ استِصناعُ الصَّانِعِ بشَرطِ أن يَتَمَلَّكَ المُستَصنِعُ الصَّانِعُ السِّلعةَ تَمَلُّكًا حقيقيًّا لا صوريًّا، ويَقبِضَها قَبلَ أن يَدفَعَها للمُستَصنِعِ الأصليِّ بالقَبضِ المُعتَبَرِ، وقَبضُ كُلِّ شَيءٍ بحَسَبِه؛ لتَلافي التَّمويلِ المُحَرَّمِ [1533] يُنظر: ((العقود المضافة إلى مثلها)) لعبد الله بن طاهر (ص: 122). .

انظر أيضا: